صناعة المثقف

إبراهيم اليوسف
 

بعد المحنة الكبيرة التي مُني، و يُمنَّى بها الخطاب الثقافي، في ظلِّ التحولات الكبرى التي طرأت في العديد من الأمكنة، من حولنا، لاسيما في مسارحها الأكثر توتراً، وعنفاً، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فقد بات من اللزام على مراكز البحوث، والمعنيين بشؤون الثقافة، وأدوارها، وتأثيراتها، القيام باستقراء كل ذلك، مفرداتٍ، وفضاءاتٍ، وآفاقاً، لمعرفة أسباب لا جدوى ما نقرأه يومياً، من دراسات، وبحوث، ومقالات، وإبداعات، بل وتنظيرات، وهو ما يتساوق مع انحسار دور المثقف، أو غيابه شبه النهائي، عن ممارسة التأثير المطلوب، بهدف تحقيق مشروع الحلم الوطني، والإنساني، كما هو مطلوب منه.
ومن يدقق في ما يتم على نحو مأساوي، من واقع أليم، بات يؤرق جميعنا، سواء أكنا داخلين في لجة المشهد، أو متابعين له، يجد أن تخلي الخطاب الثقافي عن أداء ما هو منوط  به، يتم نتيجة أمور شتى، منها ما يتعلق بطبيعة هذا الخطاب، ومنه ما يتعلق بمرسله، ومنه ما يتعلق بالمرسل إليه.
 
ما لا شكَّ فيه أن التطورات التي تمت في العالم هي خطيرة، وقد بلغت مستوى الانقلاب على بنية المفاهيم المتداولة من قبل، وأخضعتها لهزات كبرى، إذ أن الفضاء الثقافي العام قد تبدل، وذلك في لجة الصراع بين الكتابة، والصورة، حيث تكاد الأمور تحسم- في النهاية- لصالح هذه الأخيرة، وهو يعني أن كل ما نقرأه من ركام كتابي، بغثِّه، وسمينه، في آن، إنما يدخل ضمن إطار هذا الجزء، غير الفاعل، إلى الدرجة التي نكاد أن نرى أن القراءات الأكثر-عمقاً-تتم بين نخبة النخبة التي تتبادل قراءة نتاجات بعضها بعضاً، وإن كنا نجد ملامسات ما، سريعة، من خارج هذه الدائرة لكل ما نتركه وراءنا من المدونات التقليدية، أو حتى هاتيك المدونات التي تتوسل الأشكال التكنولوجية الجديدة، وهو أمر فرضته علينا طبيعة المرحلة الراهنة التي نمرُّ بها، ما يستلزم إعادة نظر-جذرية- بأدوات الكتابة، والعاملين عليها، ومن هم معنيون بالخطاب الثقافي.
 
لاشكّ في أن هزيمة الخطاب الثقافي، وعدم مقدرته، على الارتفاع إلى مستوى الأسئلة الكبرى التي نواجهها، وفي التالي، عدم تمكنه من أداء وظيفته، قد جاء كل  بسبب مراوحة هذا الخطاب، في أخطوطاته ورؤاه بل وحتى أوهامه التقليدية، حتى وإن استفاد من بعض وسائل الاتصال التي أنتجتها لحظة ما بعد الحداثة، في الوقت الذي كان يتطلب منه تجديد روحه، ليس من خلال نسف ما هو أصيل، بل من أجل خدمته، ولكن عبر روح جديدة، تمكنها أسباب المواجهة، وهي مسألة تتطلب المزيد من الحفر، والاشتغال، والمتابعة، وفي مقدمة ذلك معرفة مستلزمات اللحظة المعيشة، عبر معاينة  عميقة، واعية، عامة، تتوجه إلى المستقبل، ومن دون القفز على الماضي.
 
 وإن الإقرار، بنتائج تقويم المشهد الحالي، بما فيه من تناقضات، ومصائر كارثية، والتفكير بتجاوز هناته، والإرساء لمشهد معافى، تتحقق فيه المعادلة المرجوة، بين كل أطرافها: الثقافة، ومنتجها ومتلقيها، من دون نسيان جدوى كل هذا الأطراف، وتأثيرها الإيجابي، في طريق وضع حد للانهيارات الأخلاقية التي تتم، فإن ذلك يفرض الانطلاق من المثقف، وإعادة بنائه، واستقراء ثنائية “الطبع والتطبع”، لخلق الموازنة المرجوة، كما أن ذلك يعيدنا إلى أن عملية التأسيس المطلوبة، ينبغي أن تكون عامة، شاملة، ضمن خطط زمنية، جادة، يتم خلالها الانتصار للقيم الأخلاقية العظمى التي طالما تناولها الفلاسفة والمفكرون، بما يخدم سعادة، وأمان الإنسان، ونشر الحب، وروح التكافل، والتعاون، ونبذ الأنانية، التي تعد، في حالاتها المستفحلة بؤرة لكل الشرور الخبيثة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب…

عبدالجابر حبيب

 

منذ أقدم الأزمنة، عَرَف الكُرد الطرفة لا بوصفها ملحاً على المائدة وحسب، بل باعتبارها خبزاً يُقتات به في مواجهة قسوة العيش. النكتة عند الكردي ليست ضحكة عابرة، وإنما أداة بقاء، و سلاح يواجه به الغربة والاضطهاد وضغط الأيام. فالضحك عنده كان، ولا يزال يحمل في طيّاته درساً مبطناً وحكمة مموهة، أقرب إلى بسمةٍ تخفي…

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…