ما رواه قلم

صالح برو
لا شك، ستصيبك الدهشة، إن حدثتك عن ذاك المكان الخفي، في الصفحة البيضاء، عندما تسلل الموت من بين الموت، وهو مسلح بأدواته المميتة، في مهمة، أرسل خلالها كمبعوث رسمي، اقترب من كوخ يسكنه حبر يافع مشغول بطهو الزمان، دلف إلى الداخل، دون استئذان، وقتها كان القلم  قد اكتفى بجمع قوتٍ لخلوته من حقول الضباب، أحس أن ثمة حدثاً ما، مرَّ من طريقه الخاص، ترك فيه خدشاً بليغا ًيصل إلى داخل الكوخ، راوده الشك من جراء ذلك، فأسرع بكامل احتراقه ، بحذر، دخل من خلال عش العصافير، التي بنت لها عشاً مؤقتاً بين الجدار المتشقق للكوخ، وراح يصيخ السمع لما يدور من تداعيات. هكذا طبيعة الموت دائماً، ينحي في اللقاء الأول عن قصد، ألقى ما بداخله من حقائق، لم تخضع للتنقيب:
ــ لست سوى عتال أرواح في ثكنة عسكرية، أعمل عدة ساعات إضافية على أمل زيادة راتبي الشهري، لأقتات لقمة العيش، فأثبت وجودي الدنيوي، لذا جئتك راجياً أن تغمض عينيك، وتنسى ركن النهار.
أجابه الحبر بالقبول، بعدما نام الصمت هنيئاً، مقابل شرط السماح لوريثه الشرعي أن يرحل بسلام، فوعده الموت بذلك.
أمر داخله دون جدوى أن يمسك يدي دمعة، يساعدها على الخروج، كي تبحث عن جغرافيا أخرى، تحمل مقومات الحياة، وسقط كآلة فارغة الأصوات، بعدما أقفله الموت، ساكناً بالقرب من جسده المختبئ في عش العصافير.
هكذا عادة الموت دائماً، مخالفاً لوعوده، رمى شباكه الطويلة الحادة كحدة الريح، حول عنق الدمعة التي صارت على بعد مئة ألف كتاب منه، جرها زاحفة على ركبتيها المتسربتين بالذكريات، ربطها بجذع شجرة، كانت أسيرة الأرض هناك، حاولت أن تركض بها من خلال الريح اللامبالية لطلب النجدة، فراحت تتنفس كميات كبيرة من الأوكسجين، بدلاً من غاز ثاني أوكسيد الكربون.
لم يكن في حسبان الموت أن تقدم شجرة  كهذه على الانتحار فمارس عليها أشد العقوبات، وتوجت رمياً بالرصاص، وهذا ما أثار غضب السحاب المستقل، أمر الأنهار والبحار أن تكف عن عملية البخار، كما ارتسمت على وجه الموت علامات القلق والذهول، مشكلة آثارها،أدت إلى عطل في آلة الكون.
أصرّ على أداء المهمة، بجرّ الدمعة من أذنيها اللتين لم تعودا صالحتين لسماع الأصوات، قذفها في جوف سجن مسن بالظلام، مؤلف من أربعين جدار.
اصطفق باب البكاء عليها، بعدما انقض على ربيع عذريتها. 
أخذت تعاتب جسدها المستسلم تارة، وتواسيه  تارة أخرى.
تحت جفن الظلام، راحت تلوي ساقيها المدميتين أمام هرم بطنها المنتفخ سريعاً، تحمل في رحمها جنينا ًمن نسل الموت، لفتها بذراعيها، لتستر أنوثتها خجلاً من هيئة الظلام المحيط، وأحنت رأسها، إذ تهدل شعرها الطويل المسربل، غطى نهديها اللذين لا يزالان في مقتبل السطوع، كانت تنتظر نعومة لسان يدشنها في فم حنون. 
لحظات شائخة، أخذتها من ذراع همها المحنط، تحت خيمة مشمسة، روت لها حكاية الشجرة ، وماضيها الحكيم، وبدأت سهرة الصمت، تجول في داخلها إلى عالم أعمق وأبعد.
أوحت لها بالخلاص، إذ رسمت على أحد الجدران شمساً شبيهة بشمس آذار، أضاءت جميع الجدران بعد ألف عام، مكبل بالنوم، كما تحسست فمها الذي لا يزال موجوداً في مكانه، فساعدها بابتكار آخر ضحكة حدثت في حضرة الظلام، قبل أن تتلاشى بخاراً من وهج الشمس….
هامش (عن المقدمة ):  ما من شيء يدعو إلى الدهشة في هذا العالم الحالي، حقيقة، لكنها حيلة من حيل الأقلام… كما للضرورة أحكام.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…