مرافعات صامتة للغة صاخبة:


كتابة: إبراهيم اليوسف 

 

لي عمره ذاته
عشت أفراحه
وأتراحه
ألقه
وانكساره
أنا اللغة البيضاء
كثلوج الجبال
كقلوب الأطفال
ناصعة في بياني
كهالات صباحات القرى البعيدة
أنا اللغة السوداء
كمأساة أو مجزرة
لي مآثري الهائلة
لي جيوشي
خريطتي
كيميائي
حواشيَّ الأثيمة
متوني المقدسة
جذوري راسخة
وفروعي في الجهات كلها
اكتشفت سيد الكون
إمبراطوره
رعاياه
ضحاياه
قاراته
مستعمراته
سجونه
محيطاته وأرخبيلاته
علاماته الفارقة
لما أزل أهبه
كنهر أسطوري
كل ما لدي من دفق الخزائن
أنا شريكته
في صناعة كل ما ترك
شاهدة ما يترك
من خراب ودمار
كنت طوع فمه
ألبي
رغباته
جموحه
انتصاراته
ارتعاشاته
بسالاته
نزقه
حكمته
حبه
عنفه
هومن بعثرني
إلى لغات كثيرة
أبجديات كثيرة
قارات كثيرة
طالما خانني
طوال عشرتنا
الطويلة
 
استخدمني الكذاب
طويلاً
وهو يؤلف رواياته
وخذلني الصادق
وهو يخجل من جمع خرزاتي الملونة
أو 
أوقد فيَّ الروح
طالما ربحني المنافق
وخسرني الثائر
طالما استظهرني الخائن
وهو يلقي بوساطتي سوءاته على الآخرين
والجبان وهو يصنع عبري بطولاته
مآثره
أمجاده
ووثّق بي الكتب
وها هو الإلكتروني طوع أصابعه العشرة الملوثة
أنا الزركشات
والنمنمات
والألوان
والرماد
 
ارتبك العاشق
وهو يحيِّي في الروح
والشَّاعر
الكبير
يصنع مني ظلِّه وملحمته
والدعيُّ
يخون بي سيده
ومربيه
وولي تضاريس اسمه
يحول لعاب حسده
إلى سموم
تفتك به قبل سواه
وهو يحصد الإرث
ببهلوانياته المريضة
كم علي أن أتحمل
وأتحمل
أنا اللغة
المتهاوية إلى عجاف
المتسامقة
أشجاراً
وفراديس
وحدائق غناء
رائحتي على فمه
أنوس بين المجرم والضحية
أنا اللغة المحايدة
أنا اللغة المتهمة
أنا اللغة الميتة خارج الرقم
أنا اللغة الجامحة
أنا لغة الخيانات
أنا لغة البطولات
أنا لغة النبيين
أنا لغة الكتب
أنا لغة الحب
في اللقاء بين عاشقين
أتردد في مخادع الحسناوات
بوصلة للقبلة
وأختلط بغبار الحروب
وحمحمات الإنترنت
يتنفسني المترجم
والمتسول
والظامىء
والجائع
والجريح
أنا لغة البائع المتجول
أذوب في أرقام التاجر
وصفقات السياسي
في زئبق المنافق
وفيزياء الجسور
أنا التاريخ
أنا الأبطال
أنا المهزومون
أنا الجغرافيا
والمدن
والقارات
أنا لغة بائع السوبرماركت
النادل
الموظف البسيط
الملك
مصلوبة في ساحات الرعب
ركام في 
شمع المتاحف
أنا اللغة الهيفاء الممشوقة
أنا اللغة المتهالكة والمتجعدة
أنا القلاع العظمى
هوام الحطامات
وسخام مدافىء الحطب
زفرات المتعب وشهقاته
لا ملامة علي
حيثما يقودني
العميان
والمبصرون
بين يديّ
مفاتيح البوابات المستعصية
أنا اللغة البائسة
بي تصاغ عبارات الإعدام
بي تباع الأوطان
وتشترى
بي يكتب النبي كتابه
والمخبر
تقريره الكيدي
والنبي كتابه
وتكتب الأنثى رسالتها
إلى حبيب لن يأتي
لغة المقدس والمدنس
المجيد والذَّميم
أنا معجم البسالة
وقاموس الجبن
أنا مجلّد الخديعة
وأطلس النزاهة
يرتديني
من يشاء كتاج
ويخلعني من يشاء
كحذاء
أنا الاحتمالات كلها
أنا التناقضات كلها
يدبج النمام بمفرداتي أحقاده
أنافي ديوان الشاعر الأصيل
وفي اللوح المحفوظ
وفي البارات
وفي المصانع
وفي الحقول
في الريحان
في بخار الماء
الشبق
والنزوات
ورائحة 
الملذات والشهوات
والأطعمة
أنا الهواء الأول
الماء الأول
التراب الأول
الحكمة الأولى
صداي
في كل مكان
أتابع العالم كله
من عرشي العالي
من كواكبي السابحة في الفلكوت
من 
جهاتي الأرضية
وهو يتناهش جسدي
يواجه بعضي بعضاً
يسلس أثيري في فم المقاتل
على خط النار الأول
مردِّداً أغنيته الأخيرة
في الوطن
والأمّ
والأصدقاء
في انتظار كتابة مرثاته
وترديد أقاصيصه
أنا اللغة
قهوة السرمد
أبعاد الملهاة
حضارات الأمم
خرافاتها
أساطيرها
معجونة من طين وخواء
من لحم وعظم
لي  السؤدد
لي الهزيمة
لي الفناء
لي الخلود
آن لي
أن أتكلمكم….
بعد كل هذا الصمت
الطويل.
30-9-2014

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…