د. أحمد خليل
المثقّف حينما يصنع تاريخه:
قال الفيلسوف الألماني شيلنغ Schilling ذات مرة: ” الإنسان لا يأتي بتاريخه معه، بل هو يُنتج تاريخه”. وأحسب أن الأديب والمفكّر إبراهيم محمود هو من الكُرد الذين صنعوا تاريخهم الثقافي بجدارة، وشادوه لبِنةً لبِنة، أو لنقل كلمةً كلمة، وسطراً سطراً، ومقالاً مقالاً، وكتاباً كتاباً.
وأوّل ما عرفت إبراهيم محمود كباحث كان سنة 2010، من خلال كتابه القيّم “القبيلة الضائعة: الأكراد في الأدبيات العربية- الإسلامية”، إصدار سنة 2007، كنت حينذاك- أقصد سنة 2010- مستمراً في رحلة الكتابة في الشأن الكُردي،
ولفت انتباهي وأنا أطالع كتاب “القبيلة الضائعة” أن بيني وبين الأخ إبراهيم محمود اهتمامات مشتركة، ليس فقط في التركيز على الموضوعات الكُردية، وإنما أيضاً في الطريقة التي تتمّ بها معالجة تلك الموضوعات أيضاً، وأهمّ ما في تلك الطريقة هو اختراق التابوهات التي فرضتها أنظمة الاحتلال منذ 25 قرناً على الثقافة الكُردية وعلى المثقف الكُردي، وبطبيعة الحال كان ذلك التماثل البحثي من دواعي سروري.
ولنا لاحقاً وقفة خاصة مع مسألة التابوهات والمثقف الكُردي، أما الآن فلنعد مرة أخرى إلى صناعة التاريخ، فالناس في هذا المجال صنفان:
– صنفٌ تتحكّم الظروف (الأقدار بالمعنى الثيولوجي/الديني) في صناعة تواريخهم، وليس لوجودهم الواعي المتوعّي في ذلك إلا دور قليل.
– وصنفٌ يمتلكون مستوى عالياً من وعي الذات والعالَم، ومن القدرة على الارتقاء فوق الظروف (الأقدار)، والمساهمةِ في صناعة تواريخهم.
تراجيديا بمذاق فريد:
وأحسب أن الأديب المفكّر إبراهيم محمود من هذا الصنف الثاني، الصنف الذي امتلك إرادة التمرّد على الظروف، وقرّر المساهمة بوعي في صناعة تاريخه، وإلقاء حجارة ضخمة في مياه الثقافة الكُردية والشرق أوسطية الراكدة. وقد تبدو عبارة “التمرد على الظروف” شطحةً أدبية، أو اختباءً وراء العبارات الزئبقية المُلبِسة، وهرباً من العجز في التعبير، لكني أستخدمها في هذا السياق عمداً وبوعي كامل لدلالاتها، وهي لا تكون مفهومة بدقّة وبعمق ما لم نأخذ بالحُسبان أن عدداً غير قليل من المثقّفين الكُرد- من جيل أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين خاصة- هم من البيئات الريفية، ولهؤلاء تراجيديا لها مذاق مُرّ فريد، ساهم في إنتاجها نوعان من القهر:
– قهر اجتماعي اقتصادي: يتمثّل في ظروف الحياة الريفية حينذاك، بكل ما تعنيه من صراع يومي ضارٍ مع الطبيعة لانتزاع لقمة العيش، والاحتفاظ بالبقاء، وصراعٍ يومي ضارٍ مع التخلّف لانتزاع ولو قدر قليل من المعرفة والوعي الصائب.
– قهر سياسي قومي: بدأ هذا النمط من القهر يزداد انصباباً على كُرد غربي كُردستان مع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958، ثم تصاعد في فترة حكم الانفصال (1961 – 1962)، وظهور المشروع الشوفيني الفاشي على يد محمد طَلَب هلال لصهر الكُرد، ثمّ تكرّس وطغى وبغى بلا حدود، وبمنهجية أكثر شمولاً ومكراً وفاشيّة، مع سيطرة حزب البعث على الدولة والمجتمع في سوريا سنة 1963.
كان على المثقف الكُردي حينذاك أن يخوض- بجسده ومشاعره وفكره- معاركَ مستمرّة وقاسية على هاتين الجبهتين معاً، وكان عليه أن يحفر طريقه بأظافره، ويصمد كشجرة جبلية عنيدة، ويكوّن ذاته ويصنع تاريخه، ويبدأ النضال المعرفي ضد حملات السلخ والمسخ القومي التي تعرّضت له الأمّة الكُردية، فالقاعدةُ هي أن كُردياً بوعي محتلّ ومستعمَر لا يمكن أن يساهم في تحرير الكُرد وكُردستان.
جينات حضارة گُوزانا:
وإلى هذا الصنف المناضل المُعارك من المثقّفين الكُرد ينتمي إبراهيم محمود بجدارة، إنه من جيل خمسينيات القرن العشرين، وهو ابن الريف الكُردي الجَزراوي الذي عانى كبقية الريف الكُردي مختلفَ أنواع البؤس، ومن هنا تأتي أهمّية مسيرته الثقافية، وعلى ضوء هذه الحقائق تأتي دلالة تمرّده على الظروف.
إن نبوغ إبراهيم محمود وأمثاله من مثقفينا الكُرد الجادّين، ذوي المعارف الموسوعية والمواهب الثقافية المتعدّدة، هو – فيما يبدو لي- امتدادٌ لظاهرة حضارية لمستها مراراً في تاريخنا الكُردي القديم والحديث؛ فكُردستان المقهورة أرضاً وشعباً وتراثاً، ورغم الاحتلالات وسياسات السلخ والمسخ الباغية الماكرة، أنجبت عدداً غير قليل من كبار العباقرة في مختلف ميادين المعرفة. وصحيح أن عبقرية بعض هؤلاء الكُرد ظهرت في المَهاجر، وبالعربية والفارسية والتركية، وأُدرجت ضمن أمجاد الفرس والترك والعرب، لكنها كانت كُردستانية الجذور، فأولئك العباقرة الكُرد هم من سلالة مبدعي حضارة گُوزانا (عُرّبت إلى: تل حَلَف)، سلالة الأسلاف الذين أبدعوا أوّل ثورة زراعية وحضارية في غربي آسيا، وحيثما كان الكُرديّ يشرّق أو يغرّب متشرّداً، كانت هويّته الكُردستانية ترحل معه، وكانت جيناته الحضارية تؤهّله لأن يبدع ويكون صانعاً للمعرفة.
إن إبراهيم محمود أحد حفدة أولئك الأسلاف، بل إنه ينتمي إلى صميم الجغرافيا التي يقع فيها مركز حضارة گُوزانا، وهي الجغرافيا ذاتها التي احتضنت في الألف الثاني قبل الميلاد عاصمة أسلافنا الحوريين (أُورْكيش)، واحتضنت أيضاً عاصمة أسلافنا الميتان-حوريين (واشوكاني)، وليس من العجيب إذاً أن تُنجب تلك الجغرافيا عدداً غير قليل من المثقفين الكُرد البارزين، وخاصة في الأدب شعراً ونثراً، بعضهم من الجيل السابق على إبراهيم محمود، وبعضهم من الجيل المعاصر له.
صنّاع التابوهات:
ما دمنا بصدد الحديث عن المسيرة الثقافية للأخ إبراهيم محمود، فثمّة أمر آخر نرى من المهمّ النظر فيه، وإنْ على عجل، ألا وهو مشكلتنا، أو لنقل مأساتنا- نحن الشرق أوسطيين- مع التابوهات، نحن نولد ونترعرع ونشبّ ونكتهل ونشيخ، والتابوهات تحاصرنا من كل جانب، إنها “مُنكَر ونَكير” من نمط آخر، وهي أشبه بالجسر الرهيب الواصل بين جهنّم والجنة، بحسب الموروث الديني الزَّردشتي في الأصل، والويل لمن تزلّ به القدم، فثمّة هوّة ظلماء سحيقة تنتظره في الأسفل، وتروّعه بمختلف المرعبات، وليتها كانت تابوهات أخلاقية، ففي التابوهات الأخلاقية على الأقل ما ينفع الناس.
إن التابوهات التي تحاصرنا- نحن الشرق أوسطيين- وتتحكّم فينا، وما زالت تجرّ علينا الكوارث واحدة تلو أخرى، وتشدّنا بعناد ووحشية إلى عصور النِّخاسة الثقافية والسياسية، هي في معظمها تابوهات صنعتها ذهنيات الغزو والاحتلال والتوسع والتسلّط على رقاب الناس، بل لنقل: أنتجتها ذهنيات همُّها الأول والأخير احتكار الثالوث الخطير (سلطة- ثروة- ثقافة). وبحسب مشيئة هؤلاء كُتب تاريخ الشرق الأوسط، وعند أقدام هؤلاء جَثمت قصائد التمجيد مُبصبِصةً بذيولها، وتحت أقدام هؤلاء سُحقت قيم الإباء والحرية والكرامة، ولخدمة هؤلاء سُخّر البشر والشجر والحجر.
وكي يحتفظ أولئك الظَّلَمة المَكَرة وزبانيتهم بمصالحهم، اختلقوا في كل عصر سلاسل عجيبة من التابوهات الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فحوّلوا بها الأحرار إلى عبيد، أجل كانت صناعتهم الأكثر رواجاً هي (إنتاج وتصدير العبيد)، والويل لكل من يقترب من تلك التابوهات بمراجعة أو تحليل أو نقد، وكي يؤبلسوا كل من يجرؤ على الاقتراب من تلك التابوهات أو يفكر في تمزيقها، ابتكروا دزّينة من الألقاب الاتهامية ( فاسق، كافر، ضالّ، مرتدّ، زنديق، شُعوبي، عَلماني، إلخ).
عبور التابوهات:
في بيتنا الشرق أوسطي الكبير البائس هذا، تجرّأ قلّة قليلة من المثقفين على تفحّص تلك التابوهات من منطق العلم والكرامة الإنسانية، وعبروا بصبر وإصرار إلى ما وراء التابوهات، عبروا إلى الفضاء الإنساني الرحيب المشرق الرائع. وإن أديبنا ومفكّرنا إبراهيم محمود واحد من أولئك القلّة، تلك حقيقة واضحة للعيان في عناوين مؤلفاته الغزيرة، نذكر منها المؤلفات المطبوعة التالية:
صورة الأكراد عربياً بعد حرب الخليج (1992)، أئمة وسحرة “البحث عن مُسَيلمة الكذّاب وعبدالله بن سَبَأ في التاريخ” (1996)، جغرافية الملذّات “الجنس في الجنة” (1996)، الفتنة المقدّسة “عقلية التخاصم في الدولة العربية الاسلامية (1999)، المتعة المحظورة (2000)، الكرد في مهبّ التاريخ (1995)، تقديس الشهوة (2000)، أقنعة المجتمع الدمائية (2001)، جماليات الصمت “في أصل المَخفي والمكبوت (2002)، الشَّبَق المحرّم “أنطولوجيا النصوص الممنوعة” (2002)، صائد الوهم “الطَّبَري في تفسيره” (2003)، الضِلع الأعوج “المرأة وهويتها الجنسية الضائعة (2004)، إلخ.
إن قدرة وجرأة إبراهيم محمود، وفي وقت مبكّر من عمره نسبياً، على اقتحام حقول الأشواك هذه، والإصرار على اقتحامه منذ ما يزيد على 20 عاماً، وعلى فتح “صنْدوق بانْدورا” الزاخر بـ “الشرور” بحسب منطق صانعي التابوهات، لهو دليل ساطع على أنه كان قد تمكّن معرفياً وذاتياً من عبور كثير من البرازخ المحفوفة بالمخاطر، وهذا في حدّ ذاته إنجاز معرفي وإنساني بالغ الأهمّية.
أجل إن قدرة المثقف عامّة- والمثقف الكُردي خاصة- وجرأته على عبور التابوهات، والتحليق عالياً في الفضاء المعرفي الإشراقي، جزء أصيل من صناعة تاريخه المجيد، وهو في الوقت نفسه جزء أصيل من نضال الأمّة الكردية دفاعاً عن وجودها وكرامتها ووطنها، ولا نشكّ في أن إبراهيم محمود سيستمر في اجتياز التابوهات، وسيستمر في التحليق، فمن يكحّل بصيرته بالوقوف على القمم، يصعب عليه الانحدار إلى الوهاد والمستنقعات.
10 – 10 – 2014
نُشرت هذه الدراسة سابقاً في مجلة Pênûse الإلكترونية – العدد 29 – وأجريتُ عليها تعديلات طفيفة.