مسوّغات هذا البحث:
القصّة القصيرة في الجزيرة عامة والكُردية خاصّة جزءٌ لا يتجزأ عن القصة السّورية، ولا يمكن فصلها عن المحيط العام للأدب السّوري، لأنّها نشأت تحت ظلال القصة السّورية، وفي الوقت نفسه رفدتْها بكثير من الأسماء الهامة التي ساهمت في تطوّر القصة فنيّاً، منذ الاستقلال وحتى الآن.
تحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على القصة القصيرة في الجزيرة السورية – الحسكة – في الفترة الأخيرة، أواخر الثمانينات والتسعينات وحتى 2005 م ، فلا تشملُ القصةَ الكردية في مناطق أخرى كحلب ودمشق مثلاً من حيث الدّراسة، وذلك لأسبابٍ فنية قبل كلّ شيء.
لأن هذه الفترة 1985 – 2005 كانت نشطة فيما يتعلق بظهور القصة الكُردية المكتوبة باللغة العربية في الجزيرة. وقد يتساءل الكثيرون عن هذا المصطلح أو هذه التّسمية، لن نقف عند هذا الأمر لأنّ هذا النوع من الأدب يُسبّب إشكالية في تصنيفه، فيرى بعضهم أنه جزءٌ من الأدب الكردي، لأنه تنعكس فيه صورة الشعب الكردي، وفق تعبير الكاتب خورشيد أحمد (عندما تكون شخوص قصصهم، ورواياتهم كردية بأحلامها ودواخلها وسيكولوجياتها وبهذا العناد المخبأ في قلوبها، بعاداتها وتقاليدها. كردية في كلّ ذلك)(2) ويرى آخرون بأن هذا الأدب جزء من الأدب العربي، لكونه مكتوباً باللغة العربية، يقول عبدالقادر إسماعيل: القاص الكردي في سوريا يعاني الازدواجية في قصصه، فالبنية كردية، ولغتُها الثّقافية عربية حتى وإن كتبت بالكردية(3)
فاروق مصطفى يرى بأنّ القصّة الكردية هي تلك القصّة المكتوبة باللغة الكردية حصراّ، وإن النتاجات التي تكتب بالعربية هي من الأدب العربي. وتوافق الكاتبة بيوار إبراهيم على هذا الرأي.
وأرى بأنه يمكن تصنيفه في مجال الأدب المقارن، بوصفه أدباً كردياً روحاً ومضموناً، وأدباً عربياً شكلاً ولغة. وهنا يتبادر إلى الذّهن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، أيُصنّفُ ضمن الأدب الفرنسي أم الجزائري والعربي إن صحّ التّعبير؟. ويهمني هنا الوقوف عند تلك المكتوبة باللغة العربية، لأنني وللأسف لا أُتقنُ كتابة النقد الأدبي باللغة الكردية، حيث هناك مجموعة كبيرة من الكتّاب لهم كتابات قصصية باللغة الكردية، لكنّها منشورة في نطاق ضيّق، لأنّ النتاجات الأدبية الشعرية والقصصية المكتوبة بالكردية كانت مستهدفة في حربٍ غير مبررة، ربما لم تشهد لغة أخرى مثيلاً لها. يكفي أن يُضبَط مع أي شخص نصٌّ باللغة الكردية ليُزجّ بحامله في السجن شهوراً أو سنوات. هذا القمعُ القوميّ ولّد ردّ فعلٍ لدى الكثيرين ليتركوا الكتابة بالعربية وهم على دراية بناصيتها ويكتبوا بلغتهم الأم بعد تعلّمها ومعرفة جمالياتها وأسرارها بجهودهم الفردية.
لكنّ القصص المكتوبةَ باللغة الكردية لا ترتقي إلى مستويات تلك المكتوبة باللغة العربية، ومَن يغامر ويكتب بالكردية بعد أن يتعلّم اللغة بجهودٍ فردية، وخلسة من عيون أجهزة السلطة، سيجد كلّ شيء بكراً، عليه الحرث فيه، لأنّه لم يمهّد أحدٌ طريق الكتابة السردية بالكردية، والتواصل مع الكتاب الكرد في الأجزاء الأخرى لم يكن سهلاً، بمعنى آخر، فالقصة الكردية المكتوبة بلغة الأم هي في طور النشوء والتأسيس، رغم أنّها وُجِدَتْ قبل القصة الكردية المكتوبة بالعربية، حيث كتب قدري جان، ونور الدين زازا قصصاً باللغة الكردية ونشراها في مجلتي (روزانو وهوار) في بداية الأربعينات القرن الماضي، قبل رحيل فرنسا.
وهنا يمكن الوقوف عند بعض الأسماء التي أرسَت بداياتِ القصة الكردية بلغتهم الأم، قادو شيرين (serok u merok) وسيف داوود مع لوند داليني (ramanek) وفواز عبدي (xewaro) وغمكين رمو(ليالي سهل ماردين، كبز الأحلام) وماهين شيخاني(على ضفاف الخابور، الرائحة، لوحة آناهيتا.).
لكن تدني المستوى الفنّي للقصة المكتوبة بالكردية يعود إلى كثير من الأسباب، منها الكردي لم يتلقَ تعليم لغته في المدارس، مما يؤثّر في ضعف ذخيرته اللغوية وقاموسه الكتابي، عودم وجود نصوص سردية ينهل منها مفرداته، وتراكيبه اللغوية والفنية، كانت هذه اللغة مُلاحَقة كمتحدّثها، بتهمة الانفصال والعنصرية. قلة القراء الكردية، انعدام فرص النّشر لهؤلاء.
أما الذين كتبوا باللغة العربية فقد استفادوا من تقنيات القصة السورية لأبناء وطنهم وواكبوا تطورها الفني.
الفترة المشار إليها شهدت تطوراً ملحوظاً لهذا الفن الأدبي، حيث ظهرت أصوات عديدة حاولت التعبير عن نفسها بعد أن وجدت فسحة في النشر، خاصة بعد صدور مجلات محلية غير رسمية، بادر بعض المثقفين إلى إصدارها لتفعيل وتنشيط الفعل الثقافي، وإفساح المجال أمام القادمين إلى دنيا الأدب. فمن المجلات التي اهتمت بالشأن الثقافي والأدبي وباللغة العربية المواسم والحوار وأجراس وغيرها، ومن المجلات التي صدرت باللغة الكردية، آسو، وزانين، إضافة إلى خمس مجلات أخرى توقفت لتشكّل مجلة (بهار) الكردية، هذه الدوريات اهتمت بأقلام محلية تعاني من الإقصاء وتعيش في دائرة الظّل بحكم المسافة الجغرافية التي تفصلهم عن العاصمة ويفتقر الكثير منهم إلى السّبل السّهلة للوصول إلى الصّحف والمجلات الرّسمية التي نشرت القليل من القصص، إضافة إلى الكثير من تلك الأصوات التي لا تملك القدرة المادية لنشر نتاجاتهم في مجموعات مطبوعة على حسابها الخاص، ومنها من ركب المغامرة الخاسرة في نشر مجموعته فتورط في أزمة مادية وتاب عن النشر ثانية حيث صرّح أكثر من كاتب قصصي بأن لديه مخطوطة أو أكثر تنتظر الضوء.
والدراسات النقدية في معظمها أغفلت أكثر نصوصهم ولم تنلْ إبداعاتُهم حقَّها من النّقد والدّراسة رغم ما يعتريها من عيوب ونواقص.
والأصوات القصصية في الجزيرة تتناثر على مستويات عدة من حيث البنية الفنية واللّغوية، منها من يحاول السباحة مع التيار التقليدي السائد على الصعيد السوري دون الخروج عن العبارة الكلاسيكية الحكواتية، ومنها من يجنح إلى المغامرة ليكون له صوته الخاص به، فيكسر السائد من الأسلوب والمقاييس الفنية الممنهجة مدرسياً ليأتي بمنجزٍ قصصيٍّ له سمات القصة المغايرة، والمختلفة، مع الغوص في العمق الدلالي لالتقاط اللحظة الشعورية؛ وهناك أصوات أخرى لم تتمكن من المواكبة الفنية لهذا الفنّ التّعبيري، فلم تلتحق بالسّفينة التقليدية ولا حاولت إظهار صوتها الخاص المختلف فبقيت قصصُهم متأرجحة بين السّطحية والمباشرة الفجة، كما سيتبين ذلك في ثنايا هذه الدّراسة التي ستحاول رصد الحالة القصصية وفنياتها عند هذه الأصوات.
القصّة القصيرة والقيمة المعيارية
أ – الإبداع يسبق النّقد :
لا يختلف اثنان على هذه المقولة الشائعة، فالإبداع يسبق النقد في ولادته الزمنية ربما بفترات طويلة، فلكلّ فنٍّ تعبيري قواعده الفنية وبناه الناظمة لعناصره التي لا يمكن أن يقوم إلا اعتماداً عليها، ولا يتوصل النقاد إلى استبطانها إلا بعد أن تترسخ جذوره. والقصة القصيرة ليست بمنأى عن هذه الحالة وهذه القاعدة، فالعناصر الفنية لهذا الفن السردي لم تكن معروفة إلا بعد أن شاع صيت هذا الفن، وانتشر بشكل واسع بين الناس بفضل الصحافة التي حملته إلى كلّ منزلٍ وإلى كل قارئ، وأصبح ظاهرة أدبية تنافسُ الفنون الأخرى وخاصة الشعر والمسرح. وبعد أن كثر كتّابُه وقراؤه تناوله النقاد واستبطنوا فنياته وعناصره التي أصبحت مع مرور الزمن بمثابة قواعد صارمة ومعايير ثابتة تُقَاس بها النّصوص الجديدة، وبناءً على ذلك الميزان يُصْدَرُ الحكم القيمي على النصّ القصصي المعين.
هذه الدراسة قد لا ترى نفسها ملزمة بأخذ تلك المعايير في حكمها الفني والقيمي على النصّ القصصي الذي تتناوله، وإنّها في الوقت نفسه لا تجد نفسها في حلٍّ من هذه المعايير، لأنها ليست أحكام مقدسة صالحة لكلِّ نصٍّ وفي كل زمان .
ب – الحكم النّقدي للإبداع:
يأتي الحكم النّقدي على الإبداع الفني انعكاساً للمنهجية – كمعيار قيمي – التي يقوم عليها ويستند إليها الحكم النّقدي، وبوصفه خلاصة للرؤية الناقدة، وحتى تأتي النّتائج النّقدية متوافقة مع رؤية النّاقد حامل المنهج كأداة تشريحية تعينه على تفكيك النّص واستخلاص الرّؤى، لا بدّ أن يكون النّص الخاضع للمشرحة النقدية مبنياً في شكله الفني على القيم المعيارية لذلك المنهج.
من هنا قد تكون الأحكام القيمية التي تتوصل إليها هذه القراءة – الدّراسة المتواضعة – غير دقيقة من النّواحي الفنية والجمالية مقارنة مع المعايير النّقدية المتعارف عليها في النّقد السّردي القصصي، فقد نجد مواطن جمالية في نصٍّ بعينه لا نجدها في نصٍّ آخر، فالمعايير النّقدية التي أصبحت قواعد صارمة قد لا تنطبق على كلّ النصوص، وهذا لا يعني أنّ النّص موضوع البحث والقراءة ينتفي فيه الحكم القيمي، لأن القيمة الفنية التي تولّدها النصوص، وتُحْدِثُ متعةً للمتلقي قد تأتي من مدى خرق النّصوص للمعايير السّائدة، وكسر السّائد من العناصر الفنية التي اعتاد عليها قراء القصة خاصة والناس عامة، وأصبحت بمثابة قواعد ثابتة، على النّصوص السّردية الالتزام بها، وعدم تجاوزها. وقد تكون النّصوص السّردية المتجاوزة في بنيتها الفنية للقواعد السّابقة متنافرة مع ذائقة النّاس في بدايتها، لأنّها تهدف إلى تأسيس عناصر جديدة تلائم التّغيير المصاحب للنّشاطات البشرية في الفكر والاقتصاد والاجتماع.
ج- القيمة الجمالية للنّص
لا تأتي القيمة الجمالية من الموضوع وحده، لأنّه غير كاف للحكم على النّص وعلى بنائه الفني، ولو كانت قيمة العمل الأدبي بموضوعه لحكمنا على النصوص التي تتناول مواضيع كبرى كالحب، والوطن، والإنسان، بأنها نصوص خالدة،كذلك لا يمكن أن تأتي القيمة الجمالية من الشّكل فقط، لأن الشّكل بفصله عن الموضوع يتحول إلى وعاء فارغ لا يستفيد منه الظّامئ في الصّحراء.
القيمة الجمالية هي نتاج التّفاعل الفني بين الشّكل، بوصفه البناء الفني للنص، والمضمون، بوصفه الموضوع الذي يتلمس مشاعر المتلقي ويخصّه عن قرب ويعالج همّه الحياتي. أما القيمة الفنية فتأتي من قوة الترابط بين المتعة المتولدة في نفْس القارئ من الشّكل و بين ارتباط النص بحياة النّاس.
القصة الكردية في ميزان تلك المعايير:
في قراءتنا للمجموعات القصصية (نماذج معينة منها) الصادرة في العشرين السنة الأخيرة وجدنا أنّها متباينة في مستوياتها الفنية، لكن الطابع الغالب عليها ينتمي إلى الاتجاه الملتزم بالمنهج المدرسي الصارم، وكأنّ الكثير من كتاب القصّة وقعوا أسرى النظرة النقدية والقصصية في السّتينات، بل أنّ منهم من لم يتمكن اللحاق بالأسلوب السّتيني للقصّة القصيرة. ويمكن الإشارة إلى الأصوات القصصية التي دأبت للبحث عن ذاتها والتّعبير عن نفسها، دون أن تستطيع أنْ تكوِّن نَفَسَاً خاصاً بها – على الأقل في المجموعات المشار إليها – كالكاتب حسن ظاظا في مجموعتيه “الشرير”2000م، (ألوان من الحياة)1997 وبسام الطعان في مجموعتيه “ورود سوداء، وغزالة الغابة 2004م”، ومحمد باقي محمد في مجموعاته (أغنية منتهية بالرصاص1986″عن اختفاء العامل يونس)1988م) (والطوفان) 1991م، ونور شوقي في مجموعته “عبق كردي يتشمس”1998، وجواني عبدال في “تطير أفقاً من مطر” ومحمد نديم في معظم أعماله مثل: “لو ابتسمت الزهرة) 1995م (عام جديد، التركة”. وعبد الصمد داوود.
نلاحظ وفق المعيار السّابق للقيمة الفنية أنّ هذه النصوص تعتمد على طرح المضمون دون إيلاء الاهتمام بالشّكل الفني واللغة، ولا تحاول الخروج من عباءة العناصر الفنية، واللغة فيها كأداة تعبيرية لا ترتقي إلى اللغة الفنية، لأن القيمة الفنية التي تولّدها النصوص، وتُحْدِثُ متعةً للمتلقي قد تأتي من مدى خرق النصوص للمعايير السائدة، وكسر السائد من العناصر الفنية التي اعتاد عليها قراء القصة خاصة والناس عامة، وأصبحت بمثابة قواعد ثابتة، فنصوص هؤلاء التزمت بمعايير كلاسيكية.
ومقابل هذا التيار هناك أصوات قصصية تجاوزت التقليدية في القصة، وخلقت لنفسها صوتاً خاصا، من هؤلاء أحمد إسماعيل إسماعيل، في مجموعته المُدهشة (رقصة العاشق2001) التي بها فاز بجائزة الشارقة للإبداع عام 2000م. إقبال عبد الفتاح (نهايات في نفق نيرفانا)1998م، وجيهة عبد الرحمن في مجموعتها (أيام فيما بعد)2008 ومجموعتها الثالثة لم أتمكن من الاطلاع عليها. وهي(أم لوهم البياض) 2010، في حين كانت نصوص بداية مشوارها في (نداء اللازورد)2006م أقل من مستوى مجموعتها الثانية. وكاتب هذه السطور (صبري رسول) في مجموعتيه (وغاب وجهها، وغبار البراري). رغم التعثّر الجمالي في أولى مجموعاته مع الكاتب والشّاعر عمر كوجري (القطا تراقص النّهر الجميل) والقاصة أفين حرسان في مجموعتها(تشيؤ).
ومحمد باقي قدّ طوّر أسلوبه الكتابي في أعماله الأخيرة كما في روايته فوضى الفصول، وفي مجموعته الأخيرة (مأساة ممّي آلان) كتب بلغة شعرية مُتقَنة للغاية ونشر غيرها في الدوريات السورية.
هؤلاء حاولوا خلق انسجام فنيّ بين مضمون الفكرة المطروحة والشّكل الفني للقصة، ليخرقوا قاعدة (الالتزام باللغة العادية، والالتزام بالعناصر الفنية) حيث أوصلوا في بعض المستويات السّردَ القصصي إلى مصافي اللغة الشعرية، وهذا ما أُطلق عليه (شعرنة القصة).
_________________________
(*) هذه الورقة مقدّمة إلى الملتقى الثقافي للحوار الكردي العربي التركماني المقام في مدينة غازي عنتاب في 3/6/2014م لكن لظروف خاصٍ بالسفر لم أستطع الحضور. والورقة جزء من بحثٍ طويل عن القصة القصيرة في الجزيرة السورية.
(1): (خورشيد أحمد)مواسم عدد16-17 ص67
(2)مجلة مواسم عدد 13/17 1998 ص67..
(3)جريدة العرب الثلاثاء 15 ابريل 2008 م ـ الموافق 9 ربيع الآخر 1429 هـ