نون موناليزا

دليار البوزان
كم جميلٌ ذاك الوشم المرسوم على حافة نهدكِ، والشامة التي تطلُّ على شفاهك.
رغباتُنا يا صديقتي طاقاتٌ غريبةٌ، تسكنُنا وتهربُ منّا دون رادع، ولا ترضخُ كثيراً لأفكارنا الباهتة، تنتصرُ في أغلب معاركها مع المنطق والوعي حين نعطيها حرّية الجنوح نحو المتاهات والغوص في الأعماق، رغباتُنا وحوشٌ مُفترسةٌ تخترقُ القوانينَ، وتبيحُ المحظور من القواعد، وتدخلُ غاباتِ الجنون!
وهل للغاباتِ قوانينٌ حينَ تكونُ مجنونة؟!  
كانت لوحةُ الموناليزا لدافنشي أولى وجبات فطورنا، ومتحفُ اللوفر المكانَ الأكثرَ أماناً، والذي دأبَ على أن يهيّأ لنا اللقاء الأوّل بكلّ لهفة، كان المكانُ الذي أبقانا بعيدين عن نظرات الفضوليين من الناس، هناك كنت تُهمّين بشرح تفاصيل اللوحة وأنا بتُّ صامتاً أراقبُ نمقَ كلماتك وهي تلقي بظلالها على ملامح الموناليزا، كنتُ قد أعرفُ قصة اللوحة من قبل؛ لكن لم أكن أعلمُ بأنها ستكون بهذا الجمال حين تكونينَ أنتِ مَن تسردينها لي، وبينما نتبادلُ الحديثَ بقيتْ الموناليزا صامتةً في حضورنا، وكانت تنظرُ يميناً وشمالاً، تحزنُ حيناً وتبتسمُ أحياناً كثيرة، حتى الموناليزا بَدَت تتمرّدُ على الألوان وتتحسّرُ على ريشة دافنشي، التي تركها أسيرةَ الرغبة، وتاهَ في غياهب ذاكرتها.  
كنت قد أبدي لكِ شغفي ولوعتي بلوحات دافنشي، بينما راحتْ ريشتُك تداعبُ خاصرةَ الليلِ، وترسمُ لوحةً على مقاسنا، وكأنها تريدُ أن تنافسَ ممّا حولنا من لوحات، اتجهتْ خطواتُنا بعدها نحو صالةِ العرضِ الكبرى؛ حيث لوحة العشاء الأخيرة ليسوع ومريم المجدلية ترقدُ وحيدةً كما بدرُ هذه الليلة، اللوحةُ التي لم يستطعْ العلماءُ والكتّاب من فكّ شيفرتها بعد، رغم العديد من المحاولات، لم تكن لديكِ نيةً أيضاً في الانجرار نحو الطلاسم والأسرار المتعلّقة باللوحة ما دامتْ اللغةُ تملكُ الكثيرَ من الوضوح والمعاني البسيطة، أوقفتِ الكلام عندَ حافّة الرغبة، رغبة الجوع، بينما راحَ العشاءُ الأخير ينتظرُنا كثيراً، ألم أقل لكِ ذاتَ مرة بأن الانتظار يقتلْ؟! 
بين فطورنا الأول وعشاءنا الأخير، كانَ الصباحُ يحتضر، وكانت السُّكرةُ على أشدّها، توقدُ فينا نيرانَ الشهوةِ، التي لن يُطفِئُها كلُّ أنهارِ العالم.  
اللغةُ باتت عقيمةً في الأمس، حتى بدتْ كلغةِ قريش وإمرؤ القيس، كان أبو الطيب المتنبي يسرد:
“وفتانة العينين قتالة الهوى إذا نفحت شيخاً روائحها شبا” بينما الحروفُ كانت كلُّها نوناً، نوناً نكونُ، نوناً نكتبُ، نوناً نرسمُ، نوناً نلعبُ، ونوناً نضحكُ كثيراً، كنتُ أخافُ أن أعشقَ ما بعد النونِ أيضاً، لم تكن هاءً بكلّ الأحوال، بل كانت روحاً تحلقُ مع الفراشات. 
الحماقاتُ كانت قريبةً منّا حتى تنكّرتْ بثوب الخطيئة، وأعطتْ الحديثَ طعماً حامضاً، كنتُ أُهمُّ بالسباحة بينما قاعُك كان عميقاً جدّاً، إلى أن كادَ يُغرقُني لولا الأمواجُ التي قذفتني إلى شاطئ الحقيقة المنسية، كانت سفينةُ نوح تستعدُّ للإبحار، بينما كنتُ ابنه العاق الذي صعدَ إلى جبالك الوعرة في لحظة جنون، ولم يستجديه رجاءاتك المتكرّرة، كنت الحواءَ الأكثرَ غموضاً والأكثر غروراً.
جعلتني أرتكبُ حماقة آدم، وأنتِ تغرينني بأكلِ التفاح.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…