جنازة مكتبة

 ابراهيم محمود
«إلى الصديق سراج عثمان، البقية في حياتك وآخرين وما أقلَّهم»
ربما كان من بين أصعب الصعاب أن تكتب في موضوع حي، واستثنائي أمام ناظريك، وهو فلذة روحك، بأكثر من معنى، حيث يحتضر، إذ يعدَم أمام ناظريك أيضاً، ولا تستطيع فعْل شيء. ذلك الموضوع المهيب يخص كائناً عظيماً مرئياً قليلاً ولامرئياً كثيراً، لا يشعر به إلا من يعيش هواه العظيم. إنها المكتبة! تلك مكتبة الصديق سراج عثمان، مكتبة أعدِمت، أو جرى إعدامها، وكلي شعور بعجز خاص جداً، كلي شعور بأن الثقافة لا تساوي ” بصَلة ” لدى من لا يقدّرها، وللكرد باع طويل في كراهية الكتب، أو الاستخفاف بها واقعاً، كما الحال مع مكتبته التي جرَت تصفيتها، ولفظت أنفاسها الأخيرة أمام أعين أولي أمر المدينة وغيرها .
لأحدّد أكثر: الصديق سراج عثمان، إنسان كردي عادي جداً، شغوف بالكتاب جداً، مأهول بهوى الكتاب وتأثيره الثقافي جداً، وللكتاب الكردي وما يصل بشئون الكرد ثقافياً، جداً جداً، وعلى أكثر من ” قدْر استطاعته “. كانت انطلاقته قبل أكثر من عقدين من الزمن، وهو يحاول تأسيس دار ذات عنوان معبّر ” دار الزمان ” ليعطي الزمان الكردي قيمة اعتبارية، ورغم التشدد الرقابي الرسمي وغير الرسمي على سعيه الثقافي، ومساعيه في النشر. فالولادة كانت ” دمشقية ” لكن المولود كان ينطق بالكردية بأكثر من معنى.
وكغيره، وما أقلهم، ينتقل الصديق عثمان إلى الجهة التي استشعر أنها ستأويه أكثر، وستهيئ له فرصة رعاية مولوده الثقافي، وخدمة الثقافة الكردية، أو بث تنوير في واعية الباحثين فيها وعنها بخصوص الكتاب الكردي وغيره من باب التنوع، وليتمكن من البقاء ” ليعين عائلته، فلا يمكن للأماني والخيالات أن تطعم المرء طبعاً “.
فيحل في دهوك ” ولدهوك شهرتها في جامعاتها، وأقسام جامعاتها ” وكان ذلك مبعث إغراء مشروع له، ثم تستقر عائلته فيها، ويبدأ بممارسة هوايته الصعب: نشر الكتاب في مجتمع، لا أظنه بمقدّر الكتاب تناسباً مع التحديات التي يعيشها، ورغم ذلك يثبت قدمه باستمارة وجدارة، ويكون له اسمه من خلال كتابه المقتنى والمطبوع، رغم صور التحديات وأصناف ” القيل والقال “. تلك ضريبة المراهن على الكتاب !
والصديق عثمان، وكونه ” مهووساً ” بالكتاب، غامر قبل سنتين، وأي مغامرة، في افتتاح مكتبة لتكون مرئية أكثر، بغية تقديم الكتاب الجديد والمفيد: الكردي وسواه رغبة في التنوع، وباسم ” Nûdem  : الزمن الجديد ” وهو عنوان فصيح مليح صريح بمحتواه، سوى أن الزمن الذي أراده هذا الـ” سراج ” لم يكن معرَّفاً به في عرْف من لهم دور في تقديم المدد للكتاب، والإبقاء على الكتاب، والتأكيد على أن مجتمعاً دون كتاب يكون خارج عصره وتاريخه. 
كانت مكتبة جميلة بمحتوياتها، أثيرة في طرق ترتيبها، ورفوفها التي أعد لها الكثير، وكله أمل في أنها ستدوم، ستدوم.
هنا تبدأ معاناة هذا الـ” سراج ” في كيفية نشْر الكتاب، والإبقاء عليه حياً مصحصحاً، فيكون حساب حقله غير حساب بيدر وسطه، ويا له من وسط جدير بالرثاء بأكثر من معنى. وربما كانت هجرة عائلته إلى ألمانيا أولاً ترجمة فعلية لجانب حي ومؤلم من هذا الانحدار في ” صحة ” الكتاب، وليعيش هو نفسه ” مغص ” الكتاب ومخاوف النهاية الوخيمة له. ويمضي هو نفسه إلى ألمانيا ملتحقاً بعائلته، سعياً إلى العودة فيما بعد، وملؤه المخاوف تلك، وقد وقعت واقعة المتخوَّف منه:
تصفية مكتبته بالكامل. لأن ما كان يتوقعه، وربما في الحد الأدنى، لم يتحقق. لقد أعدِمت مكتبته جرّاء هذا الإجراء. إذ إن تصفية مكتبة بهذه الضخامة والتنوع، وعدم السؤال عن السبب في تصفيتها، وتوجيهها إلى جهة أخرى بعيدة عن أعين الذين لا يريدون للكتاب الفعلي بقاء، إذ إن مأساة تصفية كهذه، شاهدة عيان على أن مجتمع يعيش القهقرى إلى الوراء.
عاينت عملية التصفية: كيفية وضع الكتب في ” الكراتين “، من قبل المشرف عليه، والـ” سراج ” في ألمانيا، وربما كانت الوعكة الصحية التي تعرض لها قبل أيام جرّاء هذه المخاوف. لقد جرى إعدام معان كثيرة: ثقافية فينا، نحن القلة القليلة جداً ممن يقبضون على جمر الكتاب، ويمشون على جمر الكتاب، ويتوسدون جمر الكتاب، ورغم ذلك، ثمة من يضيق ذرعاً ويحنق إزاء هذا ” الشذوذ “، هذا الخروج على العرف السائد: الكتاب جلّاب خراب .
لا أستطيع وصف ألمي، وأنا أشاهد هذه الكتب تحشَر في الكراتين، كما لو أنها تنزف، كما لو أن كل كتاب يرمى بالرصاص الحي ويتجندل، وفي صمت مريب.
ثمة مكتبات أخرى لفظت أنفاسها الأخيرة في صمت، ولم يشارك أحد في تشييع جنازتها، إنما مكتبة ” نودم ” لها وقعها، إذ كانت نهايته المأساوية هذه، تعبيراً عن أن المعنيين بالثقافة، وبأهمية الكتاب، ليسوا بحاجة إليه، كونهم يمتلكون قابلية ثقافية دون أن يفتحوا كتاباً، دون أن يُسمّوا كتاباً بالفعل .
انتهى الكردي ” السوري- الدمشقي “، كما هي العادة الغالبة لدى ” كرد دهوك وغيرها ” الذي حل في دهوك، ثم في ألمانيا، حيث جرى التخلص من كتابه الذي قدَّم له الكثير ميدانياً .
أنا لا أدافع هنا عن هذا الـ” سراج ” إنما عما أداه من دور يستحق التقدير إزاء الكتاب، لا أدافع عن ” عزيز كتاب أهين، وأي إهانة ” إنما أسمّي واقعة، وملئي شعور مفجع بها.
منذ فترة ليست بقليلة وأنا أعيش كارثة هذه المكتبة التي أعلِمت بأن ” نهايتها ” قرَّبت.
أنا على يقين، أن ما عشته من مشاهد حيّة في السنوات الست التي مضت على إقامتي هنا في دهوك، علَّمني الكثير، وأمكنني أن أقول الكثير، ومن ذلك، أن التكاليف التي تخصص، وتنفَق على الدعايات الانتخابية: البرلمانية المحلية ، والعراقية، وفي كل منها، هي أرقام خيالية، لو أن مرشحاً أنفقها على عمل ” خيري “، لو أنه أسس مكتبة، لتكون في خدمة من هم أهل للكتاب، لسجل اسمه في سجل الخالدين، وأوجد مناسبة مدهشة غير مسبوقة في هذا المجال. إذ ماذا يعني أن يتفاخر أحدهم بأنه أنفق ” مائة دفتر : الدفتر الواحد يقابل عشرة آلاف دولار ” في دعاية انتخابية تخصه ؟
ألم يكن من وسيلة، من حيلة، من طريقة من المعنيين بـ” الثقافة ” للحيلولة دون إعلان نهاية مؤلمة كهذه ؟
ربما هو مثال، ما كان له أن يورَد هكذا، لأن الساعي إلى التفاخر، ليس له أي صلة بالكتاب، أ،ّى كان موقعه، ومهما كان لونه وجنسه ودينه ومذهبه و” طينته “.
ربما المعنيون، أو من يعتبرون معنيين بالكتاب، بحاجة أكثر إلى الكباب ؟!
عذراً، لمن يقرأ هذا المقال، أنى كان، لأنني انفعلت كثيراً، كما تقول كلماتي الأخيرة، ولعلّي موجوع، ومنكوب، وأنا أعيش ” صراخ دماء ” هذه المكتبة ، وكلّي استغراب، لأن ليس من أحد انتبه إليها، وهي تعدَم بطريقة صامتة!
عندما قال أحدهم: إن شيخاً مسناً يموت فكأن مكتبة تحترق! في إشارة إلى المكتبة الشفاهية التي يحملها بين جنبيه. وأنا أقول بالتوازي: إن مكتبة تعدَم كهذه التي كتبت عنها، فكأن مجتمعاً بكامله يعدَم !
البقية في حياتك أيها الصديق الـ” سراج ” وحياتنا ” جميعاً “، إن لنا حياة معترَف بها كتابياً !
دهوك، صباح الخميس، في 12-9/ 2018
ملاحظة: بعض الصور أنشرها التقطتها وأنا أشهد عملية تصفية ” نودم ” المكنوبة !


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…