فرمان بونجق
وأنا أقلّب صفحات كتاب “دولة حاجو آغا الكردية”، وأقرأُها واحدة تلو الأخرى، وأحيانا أعود أدراجي إلى صفحات سابقة، فأعيد قراءتها مجدداً، بغية اكتمال الصورة، عبر تثبيت المعطوف على المعطوف عليه من الأفكار، أو الجمل، أو الفقرات، ليس لأنني راغب في ذلك، وليس لأنني بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد، ولكنها خريطة الكتاب المعقّدة التي تنبش في الذاكرة الجمعية من مُدوّن أو مَحكي أو مُغنّى أو خلاف ذلك. كل ذلك يشي وإلى حدّ ما بأن هذه الذاكرة الجمعية الموما إليها، هي التي ألَحّت وباستمرار على الكاتب والباحث إبراهيم محمود بالتصدي لتدوين تاريخ المنطقة عبر بوابة حاجو آغا هفيركي ودولته الكردية.
وعلى أية حال، سينقلنا المؤلف ـ وبعد ثلاثمئة من الصفحات ـ إلى شهادات أدلت بها شخصيات مرموقة، وذو مقامات رفيعة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، أمثال د. نورالدين زازا، الشاعر جكرخوين، الباحث نذير جبو، ونجل حاجو آغا جميل حاجو، رحمهم الله جميعاً. إضافة إلى مقتطفات من كتب لمستشرقين جئتُ على ذكرهم في المقالات السابقة، وكل ما أرمي إليه الإشارة إلى غِنى الصور المتزاحمة في الذاكرة الجمعية حول شخصيات كوردية، اتسمت بالإدراك العميق، والشجاعة، والتفاني، والتضحية أيضا، بعضهم أكبر شأنا من حاجو آغا، وبعضهم مَن ماثله في المكانة، وآخرون ربما أقل شأنا منه، ولكنهم جميعا أسّسوا لهذه الذاكرة الجمعية كلٌّ في مرحلته التاريخية، أو على الأقل ساهموا في تشكيلها بشكل أو بآخر.
وأمّا إبراهيم محمود نفسه، فيشير إلى هذا الجانب من الذكرة الجمعية: “لهذا أتعقب أنشطة الذاكرة من خلال ماهو متردد هناوهناك، وكيف تكون هذه الذاكرة، وهي تحتفظ بكمية ثرية من المعلومات التي تخصّ رقعة جغرافية أمضيت في جنباتها عقودا من الزمن، وأنشغل بكل ركن فيها، وأنا أقرأ تواريخ أمم وشعوب، فشغلتني فترة مثيرة‘ ومهمة كهذه، ومن خلال الاسم السالف الذكر، وحيث تتأكد في واعيتي أهمية الذاكرة التي تستدعي شعبا لما يزل شعب الذاكرة في تنوعها، والأصل الذي يتشكل، كما هو المرجوّ لمن يستهدف تاريخا مُضاءاً من الداخل”. ويستدرك بعد أن يقتبس بدوره من إيريك ديفيس (إن الذاكرة التاريخية مكوّن أساسي في إنشاء أساطير الأصل): ليدقق في هذه العبارة ومدى انطوائها على عبرة تاريخ لم أبلغها بعد، لأنني لم أعش هذه النقطة المتاخمة لعتبتها المطلّة على الجهات الأربع، كي أحسّن بلاغة المعرفة التاريخية في تراكميتها، طالما أن المفهوم(الأصل)على مستوى التاريخ يطرح نفسه بنوع من الاستحياء أو الخجل أو التبكم أو الحيرة، لعدم وجود ما يمنحه استقامة قامة أو وضوح محيّا، على خلفية تاريخ لم يجد مَن يدوّنه، أو يفاتح روحه فيما هو مُختلف عليه بوصفه خميرة تاريخ .
إذا.. نحن على أبواب الجزء الثاني من الكتاب، والمعنون بـ “على تخوم دولة كردية”، الجزء الذي يستهله المؤلف بمقولة للفيلسوف البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف 1939 ـ 2017 :”تحتاج كل المجتمعات إلى إثبات هويتها والدفاع عن مثلها العليا وإيجاد حل فعال لمشاكلها، ومع ذلك تصبح تلبية هذه الحاجات إعاقة في حياتنا عندما تتحول إلى مبادئ نهائية”. ما يهمني في هذا المقام، وأنا أقتبس مقولة تودوروف، إثبات الهوية، ليس لسبب كما قد يظن البعض، وإنما لجهة توظيف إثبات الهوية في سيرة حاجو آغا، منذ ولادته، وحتى رحيله، وما بينهما من مآثر، تحدث الناس عنها هنا وهناك ولايزالون، وإنما اللافت هنا التحولات التي طرأت على هذه الشخصية خلال نصف قرن تقريبا، وهو ابن برّية مدياد وقراها ، كما ينوّه المؤلف، وهو أيضا زعيم اتحاد عشائر هفيركان، وهو القائد العسكري الذي دخل معارك مع حكومات شتّى، وكذلك حاجو آغا السياسي الذي برز اسمه في الصالونات والتجمعات والملتقيات السياسية الكوردية، حتى قال عنه الراحل د. نورالدين زازا في كتابه “حياتي ككردي” حين التقاه في بيت في دمشق هو ملتقى منفيين كورد من جهات كوردستانية شتى، إنه بيت علي آغا زلفو (وأمّا المتميز من بين كل تلك الشخصيات في بيت اللاجئين وأكثرهم بروزا فلقد كان حاجو آغا الذي كان رجلا ذا قامة طويلة وسحنة فاتحة وعينين زرقاويتين كما تميزت حركاته بالاتزان والهيبة لانحداره من عائلة آغا قادة عشيرة هفيركان المتمركزة في منطقة مديات، شرق مادن، وقيامه بألف مغامرة ومغامرة).
في ظني، أن مشهد الذاكرة الجمعية في جزئية حاجو آغا هفيركي، لن تكون ذا فائدة، إلاّ إذا تتبعنا تلك المرحلة التي أنبأت بميلاد حاجو الثالث وهو المعني بهذا الكتاب، والذي نُسب إلى والده باسمه، وذلك تقديرا من العائلة لحاجو الثاني، تماماً كما نُسب حاجو الثاني إلى والده باسمه، ولذات السبب، وفي ظني أيضاً أن هناك أفقا رحباً يفتح ذراعيه وهو ينتظرنا للحديث عن حاجو الثالث والذي عُرف بـ حاجو آغا هفيركي.