ابراهيم محمود
تفكَّر جيّداً بالخاتمة – تبصَّر جيداً بالخاتمة ” ليوناردو دافنشي “
استوقفني كتاب الدكتور “الأكاديمي الجامعي “، و الباحث الكردي: نضال محمود حاج درويش، بعنوانه الطويل” الآلهة والكائنات الأسطورية المركَّبة في سورية وغرب بلاد الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد ” والصادر عن دار الزمان ، لعام 2016، في ” 400 ” صفحة ونيّف، قلبته على وجوهه لأكثر من مرَّة وأنا أحاول التعرُّف إلى شخصية بحثية في الكتاب، ففشلت. أتراني أشكو عسر القراءة وضعف الشعور بقيمة الكتب، أم حساسية ما، لها صلة بالكتاب الفعلي؟ وأنا أتابع لعبة الخاتم، إنما : الخاتم المفقود !
حاولت القبض على المعنى الذي يصل بين محتويات العنوان الطويل والمعروض في الكتاب، فوجدت صعوبة في ذلك، حيث تبيَّن لي أن درويش واقع في بلبلة في الحالتين، رغم أن الأولى ” العنوان ” تسمية وتوصيف للثانية، أي تحديد لها ” لمكونات البحث: الكتاب “، وقدَّرت بمعرفتي المتواضعة: لغة وتاريخاً وجغرافية، أنه أراد قول شيء أبعد من حدود العنوان المصاغ، أن يشير إلى ما هو مبطَّن في العنوان المركَّب نفسه، وأن الجانب الاستعراضي لمعلوماته، وهي في مجملها مستقاة من الآثاريين، وللألمان منهم سهم وافر، وبالألمانية مباشرة، كونه خرّيج جامعة ألمانية، كما قدَّرتُ ” وكم كنت أتمنى أن تتوافر في الكتاب سيرة ذاتية له، لتفيد قرّاءه وأنا منهم، على الأقل، للإحاطة بكتابه أكثر: الميلاد، الفترة الزمنية لدراسته في ألمانيا، موضوع أطروحته الجامعية، وما إذا كان لهذا الكتاب من صلة بها، رغم أنه يقدّم مخططاً أولياً له، إنما دون أي إشارة من هذا النوع “، إلى جانب اعتماده على مصادر انكليزية وحتى فرنسية” وهي أقل “، كما هي لائحة مصادره التي تغطي ثلاثين صفحة ” 301-330 “، ومن جانب آخر، يظهر أن الكتاب حديث العهد تأليفاً ” ثمة مصدر مؤرَّخ بـ 2014، ص 306 “، ولا ندري هنا بالمقابل ما إذا كان البحث جديداً في تأليفه، أو مشتغلاً عليه وهو قديم.
وليته إجراء مدرسي في ترتيب أفكاره والكشف عن محتوياتها، لأن ذلك يعتمد وضوحاً وتوضيحاً، أما عن المنحى الأكاديمي، فلا أدري كيف يمكن تصنيف كتاب بالأكاديمي وفيه مثل هذا التشابك وخلط الأفكار، والملل في التكرارات من خلال مقارنات سريعة، وهو في متابعة مخبرية لأكثر من ” 300 ” لآلهة، وكائنات مركبة، وأشكال زخرفية لا تنفصل هي ذاتها عن تلك، بحيث إن هذا الإجراء لا يخفي متاعب، ولكنها- من وجهة نظري – غير مثمرة .
بعيداً عن الأستذة، لو أنه اكتفى في العنوان بـ” الآلهة ” أو الكائنات الأسطورية المركبة ” أو حتى الفنون في الفترة المذكورة، لكان المعنى أبلغ، والفكرة أكثر احتضاناً للمنشود، إذ رغم محاولة توضيحه للفارق بين كل عنوان جزئي وآخر، إلا أن الرغبة النفسية في التوضيح، وهي قلقة ومتخوَّفة في المتن، وربما محاولة الإيحاء إلى أمر غير مصرَّح به على الغلاف الخارجي، رغبة لم تفلح، كما أرى، في تأكيد المطلوب، وإن شئت إيضاحاً من جهتي، أقول: إن العنوان بهيئة الدلالية تلك، وما هو أكثر من الإشكال ” أعني غياب المفهوم الجغرافي- التاريخي ” يتطابق وتلك البلبلة في محتوى الكتاب نفسه، من خلال مسار الاستعراض، والإحالة المستمرة إلى الآخرين، من جهة، والعودة المستمرة إلى السابق دون مبرر، وليمضي الكتاب على هذا النوال حتى نهايته، دون أن يعزّز موقعاً معرفياً” تأليفياً ” مقدَّراً لصاحبه !
وإذ أصل إلى هذه، وأعِدُّ نفسي للانتقال إلى ” فضاء ” القول، أشدد إلى أنني سأكتفي في نقدي للكتاب، على تلك الثغرات الهائلة التي اكتنفته، وهي معرفية وأسلوبية وجمالية جهة الوصل بين الفقرات والفصل للتمييز.
صلاحية العنوان :
يثير العنوان أكثر من إشكالية في التسمية، تلك التي أريدَ بها لفْت النظر، أو ما يعتقَد أنه يلفت النظرَ. لعل أولى الإشكاليات هي في مدى التطابق بين كلّية العنوان هذا، وحقيقة اشتماله على كامل محتوياته فهو في ” ص 15 ” يذكر القطع الفنية، ويعني ذلك أن التذكير بالأخيرة حق عنوانيٌّ في ضوء المنطلَق منه. والإشكالية الثانية في محاولة التمييز بين الآلهة و” الكائنات الأسطورية المركَّبة ” كما سنتعرف عليها ونتعرض لها، ومنح الآلهة مكانة أرقى رغم إشارته إلى ارتباط آلهة بالحالة التالية. وكما سنرى أيضاً، فإن منح الآلهة حصراً ضمن عنوان مختصر، من نوع ” مسيرة الآلهة ” لكان أوفى، بما أنه يمكن تناولها في الحالة الثانية، وعلى الفنون الخزفية المختلفة كذلك، أو الاكتفاء بـ” الكائنات الأسطورية المركَّبة “، وكيف أن هذه تتضمن الآلهة بطرق مختلفة، وتبقى الزخارف، أو الفنون الزخرفية التي تعلِمنا بتاريخها أنها حمّلت أبعاداً طقسية ودينية، وهي بجماليتها لا تنفصل عن نظرة الإنسان إلى العالم .
إلى جانب أن إطلاق اسم الآلهة حصراً، تبخيس للتاريخ ذاته في شموله، فهناك الآلهات بالمقابل، ولو تم استخدام فكرة ” الألوهية ” لأمكن التعامل مع الحالتين: الإناث فالذكور. ذلك ما ينبغي أخذ العلم به لضرورته الدلالية، إذ الآلهة التي تذكَّر، هي ذكور في المبَلَّغ عنه قيمياً.
فيما يخص التحديد التاريخي والجغرافي، ربما واجهتنا إشكالية مرفقة بالشق الأول من العنوان، حيث يثار سؤال عن مفهوم كل من ” سوريا ” و” غرب بلاد الرافدين “. إن المحدَّد الجغرافي من قبل درويش لا يسعفه في ضبط العنوان. إذ كيف يجري تحديد سوريا وتبعاً لأي تصور جغرافي- سياسي ” قديم- وسيط- حديث- معاصر “، وهذا ينطبق على ” غرب بلاد الرافدين “.
تذكرنا ” سوريا الكلاسيكية ” بحدودها ” الرسمية ” وهي في امتدادها من البحر المتوسط إلى ضفاف الفرات، وكونها بين الجبال والصحراء . فهل كانت سوريا قبل خمسة آلاف عام هكذا؟ وهناك النصف الآخر، بالنسبة إلى غرب بلاد النهرين، وقوله عن أن المقصود به كمصطلح في الدراسات الحضارية ( المنطقة المحصورة بين حوضي الخابور والفرات .ص 13 ).
لم يأت المؤلف على ذكر مصدر/ مرجع في هذا المقام من الناحية الجغرافية والتأريخ لها .
إن مورتكات، الأركيولوجي المعروف والكبير، يذكّرنا بالتسمية اليونانية للمنطقة الحصورة بين الفرات ودجلة ” وهذا تحديد أحدث مقارنة بتأريخ المؤلف البحثي “، إذ يحدد القسم الشمالي منها وهي ( الجزيرة السورية اليوم )، و( القسم الجنوبي بأكمله وقسم من الشمال ضمن حدود أراضي القطر العراقي . ) ” 1 “.
وثمة تساؤل عن فكرة وضع ” الأسد الآشوري المجنَّح ” ومغزاه على الغلاف، وأظنه ينتمي إلى عصر آخر، أو لاحق، لا علاقة له بالفترة الزمنية المحدَّدة في العنوان ؟!
وفي السياق نفسه، فإن متابعة حيثيات الكتاب، تفصح عن أن التأريخ يسبق المحدَّد، مثلاً، عندما نأتي على ذكر الأختام ” المنبسطة ” التي لا بد منها، من ناحية، وكون الإتيان على ذكرها يفيد في إضاءة مكونات العنوان بالذات، إذ إن أي حديث عن الآلهة مثلاً غير ممكن دون الارتكاز بصورة ما على ما كان، من ناحية أخرى !
وعلى سبيل المثال، إن توقفنا عند الأختام نعلَم بأن ( أقدم الأختام … تعود إلى عصر ” ما قبل التاريخ “- حيث- كانت بسيطة وأغلبها ذات زخرفة هندسية .) ” 2 “.
لكن علينا ألا نستهين بالتاريخ ومخاطه الإنساني الكبير، وكيف تمكن من مجابهة محيطه، وذاته، كيف استطاع الانتقال من خاصية : الحرف- الرسم، إلى خاصية الحرف دون الرسم، فالرسم مستقلاً، وكيف أنهما عاشا تفاعلاً مع بعضهما بعضاً عبر العصور!
مجدداً إذاً، ماالذي كان يدور في واعية المؤلف وهو إزاء وضع عنوان بهذا الشكل ؟
نقطة نظام :
أشدد هنا أولاً، على أن الدكتور درويش بذل جهداً كبيراً، وبشكل لافت، في تتبُّعه للأشكال، أو لنماذجه البحثية: أختام، تماثيل، ألواح فنية، ومباخر وغيرها، ومن خلال المقارنة فيما بينها، وهي كما أسلفت: وصفية، وتعريفية مختصرة جداً، بين ما هو سومري وأكادي وانتقالاً إلى مناطق أخرى ” غرب بلاد الرافدين “، فهناك : تل براك، تل موزان ” كان يستحسَن التذكير بالمقابل والمتداول كردياً: Girê mozan ” ، تل عربيد، تل بيدر، وماري، إبلا…الخ، حيث تتكرر الأشكال والنماذج نفسها، مع تحويرات، ذكرها المؤلف/ الباحث، وهناك ضمناً، أمثلة كثيرة حول ذلك، وهي تمثل آلهة، وكائنات أسطورية مركَّبة، وعفاريت، وحيوانات، ونباتات…الخ.الاستثناء الوحيد الذي توقف عنده هو موضوع ” الإله السفينة ” وفي وضعيات مختلفة، وهيئات شتى، حيث يتعقبه في صفحات معدودات ( يبقى تحديد هوية ” الإله- السفينة ” غامضاً بالنسبة لنا…ص21 )، ويتابعه لاحقاً ” صص 26-32″ ومن ثم، ص 80-81، وتالياً أيضاً، ص214-215، ذاكراً آراء لمختصين بالموضوع، مشدداً على صواب رأي فرانكفورت، ومؤيداً إياه ” ص 31-32 ” دون أي إضافة أخرى، وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً.وهناك الآلهة ذات القرون ” ص 32 -30، مثلاً”. وتتكرر الإشارة إلى المشاهد الصراعية للحيوانات وغيرها” ص 23-، والآلهة ” شمش الإله الأكدي، ص 39، وهو ذو قرون، ص 42، وهو يحمل المنشار، ص 41- 43، وفي وضعية جلوس، ص 44، وفيما بعد، ص 211، وهو في شكله السومري ” أوتو: إله الشمس ، والإله انكي، وفي صفحات كسابقه، صص : 47-53، و:ص 108، ولاحقاً، بشكله السومري أيضاً، ص 212 وآلهة النباتات، ص 53، ثمة التذكير بالإلهة عشتار، ص 54- 55، مثلاً، وصلتها بالنباتات ” يمكن التوقف عندها لاحقاً أيضاً” وتطورها، ص 106، وربطها بإينانا، صص: 216-218، وآلهة تطعم الحيوانات من خلال أشكال مختلفة، ص 58، وصراع الآلهة، ص 61-63، وآلهة مجهولة، ص 67-69، وهناك الإله إيسيمو الأكدي، ص 71- 219، والإله الحامل للمحراث، ص 109. وتتكرر أسماء آلهة مجهولة في وضعيات أخرى، وتوصيفها، ص 73-74-76- 90-صص110-116، ولاحقاً تحت عنوان ” آلهة غير معروفة”، صص:223-225، وهناك آلهة الحرب، ص 86، ومن ذلك الإلهة لاما ” من تل براك، ص 89 “، ولاحقاً، ص 105، وتطور هذه الآلهة، ص 100، وتطورها بشكلها السومري، ص 215، وكذلك الأختام، ص 103، وما يخص التماثيل واللوحات، بالنسبة إلى الآلهة، ص 120، والكائنات الأٍسطورية المركبة، وهي في الباب الثاني من الكتاب، ص 125، كالإنسان- الثور، صص: 125-130…وفيما بعد، صص133-158″ وهذه فقرة طويلة مقارنة بسواها”،وثمة : النسر- الأسد، صص 158-164، ولاحقاً، صص233-237، مثلاً، والتنين- الأسد، ص169-170…وما ليس معروفاً من هذه الكائنات، صص: 171-173-245، وفيما بعد بالنسبة لهذه الكائنات، في العصرالأكدي، حيث يتجدد الحديث عن ” الإنسان- الثور ” في أشكال أخرى مختلفة، صص: 173-190، وفي مرحلة تالية، ص193-194، وكذلك، صص225-233، فالانتقال إلى التماثيل واللوحات والمباخر…الخ، حيث نكون إزاء منحوتات، وتصاميم ذات أبعاد هندسية طبعاً، ص 198، بدءاً بالثور ذي الوجه البشري ” صص198-202 “، وفي العصر الأكدي، صص207-209، وخاصية هذه الكائنات، صص: 248-253، وصعوبة تفسيرها” ص 252 “…الخ.
ليشار أخيراً، إلى ندرة حالات التعرف القائمة ( على الأسلوب المحلي في فن سوريا وغرب بلاد الرافدين بالنسبة للقطع الفنية التي تعود إلى العصر الأكدي وعصر سلالة أور الثالثة…الخ.ص 253 ). ولاحقاً، تأتي الجداول بمصادرها ذات الصلة بما تم ذكره، من ثم الصور واللوحات والأشكال المذكورة سالفاً وأمكنتها، صص:254- 298 ، وقائمة الأشكال والصور وسواها، كما ذكرنا سالفاً، أي، صص 331-4410 .
تلك إشارات سريعة، لم أشِر عبرها إلا إلى أسماء لافتة، بصفحاتها المختلفة، في نماذج بحثية، أولاً، بغية النظر فيها، وثانياً، تعبيراً عن المتابعة لها، لحظة التعرض لها بحثياً، فيما بعد.
خميرة الكتاب :
يُسمّي المؤلف نقطة غائبة لها صلة بموضوع البحث، عندما يرى ” من خلال آخرين بالتأكيد ” أن الدراسات المذكورة ” صص16-19 ” ( وغيرها من الأبحاث الأخرى-هي أنها – لم تعالج مسألة بداية ظهور وكذلك تطور الآلهة والكائنات الأسطورية المركَّبة في سوريا وغرب بلاد الرافدين وعلى جميع اللقى الأثرية التي تعود إلى الألف الثالث ق. م ).
وكوني معنياً بهذا الجانب، فإن الذي يمكنني قوله مباشرة، هو أن أكثر ما شغلني تاريخياً هو هذا المشار إليه، إلى درجة أن الرد على ملاحظته يتحدد حتى من خلال ما أورده من معلومات على لسان الآخرين، على الأقل، لحظة النظر في المسطور، وربطها بما هو مقروء في بطون تلك الكتب الخاصة والعامة ذات العلاقة طبعاً .
يعني أنه في الإمكان القول أن أغلبية الكتابات التي تعرضت لحياة الإنسان والجماعات والأمم تاريخياً، لم تغفل هذا الحضور الديني، وطبيعة صلة الإنسان بالمحيط والعالم والقوى الخفية ” على الأقل، وأنا أشير إلى كتاب ميرسيا إلياد: تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية “، وأن كل ما خلَّفه كان ينصب في إطار تأكيد ذات إنما في علاقة مع المكان وما هو خفي فيه، إلى درجة استحالة التأكيد على تسميات جاءات لاحقاً، كما في حال الفن، أو الزخرفة، وحتى العمارة، وبدءاً من تلك الأشكال المرئية في أعماق الكهوف، فهي في بنيتها تعتبَر رسائل قدماء البشر إلى حداثييهم، أو من جاؤوا بعدهم. بمعنى أن ما كان يترَك كأثر، يلتقي فيه المسطور والمجسَّم، أو كان يترَك للعين لكي تتفاعل معه، وتضيف بالمقابل، أي كان الجدار الكهفي صحيفة الإنسان الأولى.
إن ول ديورانت حين يقول (يجوز أن يكون الخزف وصناعته أصل النحت، كما كان أصل التصوير.)” 3 “، فإن قوله ذاك يكون متعدد التفاسير، سوى أن المؤكَّد فيه هو استحالة ترجيح معنى على آخر، ووجوب النظر في الموضوع بعيداً عن النزعة القطعية في التفكير أو الكتابة. إذ- وكما سنرى- ما الذي يحسِم مقولة النحت خارج تاريخ طويل، أبعد من النطاق التاريخي الموسوم لكتاب درويش؟
البدء المقلق واليقيني :
بتعبير يقينيّ وهو بصدد تعريف الآلهة والكائنات الأسطورية المركبة، يقول ( إن المقصود بـ” الآلهة ” تلك المعبودات التي عبدها الإنسان في الشرق القديم- ويحسمه أكثر بتوضيحه: فقد عجز الإنسان آنذاك عن فهم كثير من المظاهر الطبيعية التي كان يعايشها في حياته اليومية، ولم يدرك أسرارها، وأخفق في تفسير دلالات حركتها أو تبدلها، مثل: الطقس، النجوم،الشمس، الجبال..ص 19 ).
تلك نظرة علموية تذكرنا بـ” اوغست كونت، توفي سنة 1857 “وما يخص المراحل الثلاث للفكر البشري، وثالثتها: الوضعية، وهي القائمة على مسمّاه: العلم.
نعم، هي نظرة قائمة، سوى أنها قديمة، وأن الدراسات الحديثة ، وما أكثرها، تراجع هذا التصور، كما تراجع نفسها، ومن باب النقد الذاتي. إذ كيف أمكن لذلك العاجز أن يقدّم مثل هاتيك الروائع في النحت والعمارة والزخرفة، وحتى تصوره للعوالم، وبأسلوبه، إن لم يكن مسكوناً بما هو كوني، أو ما هو متعدّ للفردي، أو الجزئي، أكثر من إنسان التخصصات الميكروسكوبية اليوم؟ وماالذي يثبت هذه المرة، عجز أركيولوجي اليوم عن إعطاء تفسير كامل لكل تلك الآثار، ومنها التماثيل واللقى الأثرية والزخرفات، وضمناً: اتكاء المؤلف كلياً تقريباً على سواه ” عجزه عن تقديم ما يفصح عن ذاته المستقلة ” إلا للتأكيد على أن هناك ما هو أوسع وأعمق وأبلغ من المرئي، والغفل من الاسم.
وربما تقوم فكرة ما بعد الحداثة، في عالمنا اليوم، على موقف حدّي من هذا القبيل: رفض العقل، وتقديم أكثر من بارادايم ” نموذج تفكيري ” لمواجهة الظواهر الكونية وسواها، وللدين بمعناه الواسع نصيبه في ذلك .” 4 “.
يعني ذلك، أن بدء المشكل ارتكز إلى تلك الأوصاف والتسميات التي ابتدعها الآثاريون ورجالات الفكر أنفسهم وحوَّلوا المجتمعات المدروسة عبر الآثار أو الأوابد المكتشفة إلى موضوعات لهم، وليس في التحاور معها.
هذا ينطبق على الفصل التعسفي بين كل من الآلهة، والكائنات الأسطورية المركبة، رغم أنه في إشارة لاحقة، وهي استدراكية أن هناك حالات تأتي الآلهة مركبة وهي نادرة ” ص 21 “.
ويذكر في هذا المنحى الاستعراضي، أن هذه الكائنات عُدَّت، ولو من مرتبة أدنى إلى عالم الآلهة، وقد مرَّت في مراحل في الفن، وهي مثل الآلهة، بالنسبة إليه، ناقصة المعلومات ( من النصوص الكتابية من الأف الثالث قبل الميلاد )، وليشير تالياً إلى نماذج ظهرت بابلياً: الإنسان- الثور والأفعى- التنين…الخ ” ص 22 “!
هذا يستوقفنا بالنسبة إلى مفهوم ” المركَّب ” وما إذا كانت الآلهة مركَّبة وممتزجة مع سواها أم لا، ما إذا كانت الآلهة في بنيتها مفهوماً أحادياً أم ثنائياً، أم ثلاثياً، أم خلافها :
بالنسبة إلى مفهوم ” المركَّب “، فإنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً النظر إلى أي شيء، إلى أي كائن، خارج هذا الإطار. ذلك ينطبق على مفهوم ” الكائنات الأسطورية المركَّبة “، عدا عن كونها ليست أسطورية، بذلك التعبير الدارج أو المتداول وهو بساطة التركيب أو المعنى، أو ما يُسمى بـ” طفولة البشرية “، فهي لما تزل تتحدى كبار المعنيين بالتاريخ وفكره وعلمه بالمقابل، ولا أكثر من أساطيرنا المرتبطة بحياتنا ” 5 “، فهي من صلب تفكير المعني بها، وربما بالعكس من ذلك، إن قورنت بما هو متداول راهناً مردودياً، وهي أن تلك الطريقة المعتمَدة في البناء الفكري- النفسي للعالم الذي يندمج فيه، لا تخلو من ذكاء ” خارق أحياناً “، لا أدل على أذل، أنها ألهمت، كما تلهِم إلى هذه اللحظة مختلف العقول في الفن والفكر والعلم نفسه، بينما، يمكن أن نجد نظريات وقوانين يحتفى بها سريعاً وتتنحى سريعاً. في التركيب يمارس التفكير دورها المتعدد الاتجاهات، وليس تأكيداً على عجز لحظة إمعان النظر فيها، وربما فهِم ذلك ” العاجز ” نفسه وعالمه وأفلح في إيجاد صلات قربى معهما بصورة محفّزة أكثر من كثيرين من بشر اليوم والمخاوف الحياتية التي تستبد بهم .
دون ذلك، كيف برزت النصوص الملحمية لما قبل آلاف السنين : جلجامس، إلياذة، أوذيسة..؟ وما فيها من كائنات تعتبَر خارقة، ولكنها حينذاك محمَّلة بدلالات، تتعدى مجرد إطلاق سراحها كائنات معمَّرة ومؤثّرة، وهي بداية ونهاية تنتسب إلى الصانع: الإنسان، حتى بالنسبة إلى الإله- الإلهة أيضاً، وتكون عوناً له من جهة أخرى، وتبعاً لهذا الإجراء، لا يعود مفهوم المسخ مقبولاً، طالما أنه خرج جرّاء مخاض نفسي- روحي إنساني .
ذلك يذكّرنا بما تعرض له الكاتب المدهش ، الأرجنتيني بورخيس وهو يستظرفه (المسخ ليس سوى مزاج من عناصر كائنات ٍ حقيقة وبما أن احتمالات فن المزج يقارب اللانهاية. في السنتور مزيج حصان وإنسان، وفي المونتور مزيج ثور وإنسان … وعلى هذا النحو يسعنا، على ما يبدو لي، خلق عدد لامتناه من المسوخ، وأمزجة السمك والطير والزواحف، لا يجد مسعانا إلا السأم أو التقزز. ) ” 6 ” .
إن نظرتنا إلى الآخر، والذي تفصلنا عنه آلاف السنين، تتطلب التحرر أكبر قدر ممكن من تلك الطرائق التي تنتمي إلى عصرنا في المرجعيات الفكرية، والتعرف إليه وطرق اتصاله بالعالم الخارجي، أي ما يخص اختلاف المفهوم الواحد في الزمان والمكان، ومن ثم، تكون تلك الكائنات معرَّفة في مواقعها، وحسب ما هو متوخى منها، كما هو متوخى من أي قوة مركزية راهناً.
وحسبي أن أشير إلى تعبير دقيق للسومريولوجي كريمر، حيث يقول بشأن وجود الكائنات الخارقة، بأنه (لولا هذه الكائنات المسيطرة لأقفرت البلدان والمدن…لما كان الكون أكبر من جميع مواطن البشر، وتنظيمه أكثر تعقيداً فإنه يجب كما هو واضح أن تكون هذه الكائنات الحية أقوى كثيراً من البشر العاديين وأكثر فعالية منهم، ويجب فوق كل شيء، أن تكون خالدة، وإلا فإن الكون سيؤول إلى فوضى عند وفاتها وتحل عندئذ نهاية العالم، وهذان بديلان لا يستسيغهما لأسباب واضحة عالم ما وراء الطبيعة السومري. لقد عبر السومري عن كل كائن من هذه الكائنات غير المرئية والشبيهة بالإنسان، التي كانت في الوقت نفسه فوق البشر وخالدة، بكلمة ” دنجير dingir” التي نترجمها إلى كلمة ” إله ” .)” 7 “.
تلك استراتيجية كبرى في القراءة والكتابة، وكيفية الربط بينهما، وما يترتب على الاتجاهين من إنماء لقوى النفس، وتزكية لقوى أخرى وتفعيلها واقعاً، وبصورة خاصة إزاء قوى لا يحاط بها بسهولة، كما كان تصرف أولئك الذين سبقونا إلى الوجود بآلاف السنين وليس مئينها أو عدة آلافها كذلك، لأن ذلك يتداخل مع ما نعيش ومن ثم نفكر، ونهيء أنفسنا لتحديات وسبل مجابهتها، وللتنوع نجاعته في بناء هذه العلاقة الحوارية .
إن قول زودن الألماني بهذا المعنى يتجاوز نطاق الموضوع المسمى، أي بخصوص السومريين وغير السومريين، الآلهة وخلافها، والكائنات المذكورها وعداها (إن فهم طبيعة العبادات الإلهية السومرية بشكل شامل صعب جداً، لأننا ما زلنا عاجزين عن استيعاب جوانب كثيرة من النصوص الدينية السومرية .)”8″.
هذا يشكل من حيث المحصّلة رادعاً فكرياً ونفسياً لئلا يسلس القياد لمشاعره وأفكاره، كما لو أنه إزاء مشهد حي وراهن تماماً، حيث لا التاريخ ولا المحدَّد الجغرافي بحدوده وأجناسه، ولا العامل الثقافي يبرّر لكل ذلك .
ثمة إمكانية للنظر في شمولية العلاقة القائمة بين إنسان ذلك ” الزمكان “وموقعه، في مجتمع متكون وفق أسس سياسية ومعتقداتية، إنما الأهم، هو وجود جانب أرواحي تراتبي يشغل المكان والزمان، فلا فراغ فيه قائماً .
وهذا ينفي مشروعية الفصل بين الآلهة وتلك الكائنات والآثار الفنية واستخداماتها المتعددة الأغراض، إلا في الجانب الإجرائي والذي يفيد في معرفة القيمة الاعتبارية لكل عامل، وحصاده الرمزي: أهمية ودلالةً !
وفي ضوء ذلك، فإن النظر إلى كلّية الإنسان، وكونه مستغرقاً في عموم الكون، ودون ذلك يستحيل علينا تقدير علاقته مع المغيَّب، كما يُفهَم، في الوقت الذي يتفاعل معه، يستوجب تثبيت نقطة انطلاقة أخرى، تكون أوفى بالمعنى، وأكثر كفاءة في قراءة هذا الثالوث: الآلهة- الكائنات- الفنون العملية، وهو متداخل عملياً !
في كل ذلك ينبري الفن لسانَ هذه العلاقة مع الوسط المرئي واللامرئي، ولا بد أن الأكثر تميزاً بالقوة ونفاذ الهيبة يكون له الأثر الأول ومكان الصدارة في التسمية: الإله، أو الإلهة بداية. من هنا يكون تذكير المؤلف بالآلهة المصورة في الفن، وهي مزودة بقرون وهي ( تعود إلى فترة عصر فجر السلالات الثاني.ص19 )، على صلة وثيقة بهذا الامتلاء بالرهبة الإلهية، إنما بغية تحويل هذه العلاقة الحسية تالياً إلى رصيد نفسي له ، وربما أقدم من ذلك (في العصر السومري المبكر توصل المرء لأول مرة إلى جعل الفنون التشكيلية التي كانت في خدمة التمثيل المعروف، وسيلة دعائية وترويج لعبادة الإله الرسمي وقوة السلطة أو الإيمان الشعبي.) ” 9″.
ذلك من شأنه التركيز على مقدار التحديات التي واجهها الإنسان، ودفع به إلى إيجاد إله- أو أكثر، جواباً على أسئلة شغلته، ومن ثم، فإن مفهوم التعدد في الآلهة هو نوع من إشغال الفراغات الموجودة، ليكون أكثر تمكناً من التعبير عن ذاته، وإقامات علاقات أكثر يقينية، وبالتالي، فإن أي حديث عن ” وحدة ” الآلهة في إله واحد، لا بد أنه ارتبط بالتعدد، وهو لمصلحة الإنسان، وليس بمفهوم الشرْك، بمفهوم السلب ” 10 ” .
بدوره، فإن هذا المأتي على ذكره، يدفع بنا إلى التركيز على الفن الأكثر شهرة ومراتبه: الأختام، والذي اشتهرت به ” المنطقة “، وحيث إن التحديد التاريخي في الكتاب، يتناغم مع ذلك التطور النوعي المحقَّق في هذا السياق .
هنا سأترك ما قاله المؤلف بصدد الأختام ” والأسطوانية منها تحديداً “، وصلتها بعبادة الآلهة، وهي تستغرق الكتاب، من خلال عملية استعراض كبرى طالت مجمل الكتاب، وهو يرقّم الصور ويسمّي مكوناتها، ولا يتعدى التعريف/ التحديد إلا أسطر إجمالاً، ومن خلال إحالات متتابعة لأركيولوجيين خاصة، وتنويهه في ” أختام عصر فجر السلالات الثاني والثالث : 2750-2340 ق. م ” إلى تجلّي ( مشاهد صراع الحيوانات ومشاهد الشرب، إضافة إلى مشاهد الصراع بين الحيوانات بالاشتراك مع الإنسان- الثور..ص23 ) ” 11 “، وسوف أتوقف عند أهم النقاط الجديرة بالتناول في مضمار ” سرديات ” الأختام ” ودلالاتها تاريخياً :
أولاً، يمكن أن يكون الختم من حيث المفهوم علامة الملْكية الفردية والجماعية، إلى جانب اكتسابه طابعاً من المؤسساتية وعلى أعلى مستوى، كما لو أنه يحيل إليه المجتمع بالكامل. فمن دونه، لا يعترَف بأي كان.
هذا يعني أنه جينالوجياً ” نشأة ” مرَّ بمراحل على مستوى العقد الاجتماعي، وما في هذا المفهوم من صلات قربى مجتمعية، وما للعبارة من استطالات قانونية، أو امتدادات عقائدية سياسية، وتأشيرات فردية وتملكية.
ولأن الختم مثَّل وظائف متنوعة جداً، يعني ذلك أنه في جمعه بين الخط والكتابة، بين الشكل والتجريد، قد أفصح عن خطورة موقعه، ومن ثم اعتباره شاهد عيان على طبيعة العلاقات المميّزة لمجتمعه وأبعد منه .
ثانياً، يمكن لهذا الختم، أن يكون اعتبار شديد الذاتية: الشخصانية، وحضور أثره لدى الجهات المختصة .
ثالثاً، ولأن الختم، يكون في مقام اللغة المنطوقة، والصورة البصرية، فهو جامع مانع بأكثر من معنى، أي لقدرته على تمثيل أدوار كبيرة تسمّيه هو وحده، على الصعيد الرمزي، الأدبي، والتأريخي معاً .
لهذا، يستحق البحث في الأختام أكثر من وقفة، نظراً لتعددية المهام المنوطة بها، أو هكذا يمكن التقدير، بحيث يمكن القول أن هناك تاريخاً عريقاً بين أبسط خاتم ” أول جسم مصنَّع بيد إنسان، مروراً لجسم ممرَّر في أكثر من عملية: مواد مختلطة، ووضعها في النار، وغيرها، وترك أثر: صورة، كتابة، أو هما معاً.
إن قولاً كهذا وهو أن (أقدم الأختام التي تعود إلى عصر ” ما قبل التاريخ ” كانت بسيطة وأغلبها ذات زخرفة هندسية…وقد علمنا من العصر المتأخر أن الأختام كانت موجودة لدى التجار وأنها عند البيع بعد رغبة البائع بمثابة كتابة اسمه ) ” 12 “، وكذلك بالنسبة إلى البدايات الأولى، وتوقع ما يمكن أن تكون عليه محتوى وتقنية: الختم المنبسط (الختم المنبسط عبارة عن قطعة حجرية، صدفية، فخارية، أو عاجية، يكون لها قفا محدب مثقوب عادة لغرض وضع خيط التعليق، ووجد منبسط نحت عليه مشهد فني معين بالنحت الغائر كي يعطي مشهداً بارزاً أثناء طبعه على مادة الطين الطري لتكون رمزاً مميزاً لصاحبه يثبت ملكيته على الشيء الذي يحمل طبعة ختمه، فهو وسيلة تقنية لتنظيم معاملات البيع والشراء ولتحديد هوية المالك… ) ” 13 “، يأتي تأكيداً على شهادة تأريخية لهيرودوت وهي بصدد الأختام الأسطوانيية الأكثر تقانة، وهو أنها ( كانت بمثابة العصا يحملها كل شخص تقريباً.) ” 14 “،كل ذلك يمكّننا من التعمق في الوظيفة المركَّبة للختم عملياً، ومسيرته في التطور، إلى درجة إمكان القول: قل لي أي ختم تحمل أقلْ لك من أنت !
إن هاري ساغز، ينطلق من هذه الواقعة، حيث يقول ( وجدت الأختام الأسطوانية في مناطق بعيدة مثل طروادة وفي موقع تيب هزار قرب الزاوية الجنوبية الشرقية لبحر الخزر أما في جنوب منطقة ما بين النهرين نفسها فإن الأختام الأسطوانية التي أصبحت وافرة العدد هناك كانت تقدم معلومات تصويرية وافرة حول الطقوس تفوق المعلومات المتوفرة حول الفترة السابقة.) ” 15 ” .
ذلك يتيح لنا أن نوسّع الدائرة البحثية، لا بل يمكن الاسترسال في الخيال، وهو ليس بخيال، حيث نزيد في معارفنا صحبة الختم داخل المجتمع وخارجه، ليكون علامة على اعتباره اكتشافاً تاريخياً عظيماً .
فمن جهة خطوط التحرك، لا بد من التعرف إلى الوسط الجغرافي، ومحفزات ظهور الأختام، حيث إن المعتبَر بـ” هجرة الأختام ” ذات علاقة مباشرة بالمستجدات: حوادث طبيعية، حروب، أو كوارث، ولهذا فإن قول أحدهم المرتبط بالاعتقاد (ويعتقد أن انتشار الأختام في العراق القديم أتى من شماله إلى جنوبه ومنه إلى الشمال السوري والأناضول وبالتبادل التجاري وصل إلى مصر وإيران وحتى الهند.) ” 16 “، يعطينا فكرة عن المحيط الجغرافي لـ” العراق ” أي كيفية توجه السومريين إلى جنوب العراق ومن هناك كان التحرك صوب الغرب ” السوري ” بالمفهوم الحديث، لأن مؤثرات الحضارة تمارس دوراً موجياً في الإشعار .
من جهة أخرى، فإن المشار إليه بالامتلاء الوظيفي والقيمي للمادة، وكون الأختام تعممت في أداءاتها، يصبح جائزاً القول بأن كل ما أسهِم في تكوينها ينطلق مما هو أرضي ويتنفس ما هو سماوي، ووسيطهما الإنسان، وهذا كان يعمّق في علاقة الأخير بنفسه، وبما حوله، في ضوء المعطيات التاريخية قبل كل شيء.
إن القيمة الممنوحة لأثر ما، تتوقف على المردود المادي فالمعنوي المتحصّل منه، فكيف الحال مع أثر يكون علامة وجود المعني به، وفي وسط مجتمعي متنوع، وفي الوقت الذي يحمل بصمته بالمقابل، أي ما يفصح عن حق معتبَر هو حق التملك: المادي، وتعزيز الموصول به: هوية الشخص المالك من خلاله (إن نجاح الختم الأسطواني في مهمته التي صنع من أجلها وهي تحديد الملكية الفردية وتعيين الهوية الشخصية ، جعله عزيزاً عند مالكه الذي حرص عليه أشد الحرص لأن الختم هو الذي يثبت حقه في ممتلكاته .) ” 17 ” .
ولعل أمراً آخر أعطى دفعاً لهذا الثراء ” الختمي ” لأن يتجذر، وينتشر، وهو يتمثل في الطابع الثقافي ومن ثم التعليمي للذين كانوا يتداولون الأختام، وصلة كل حامل بختمه أو أختامه، والشعور النفسي بتملك ميزة، هي تأكيد ذات واقعة، دونما نظر إلى البعد الفعلي أحياناً: تعلمه الدقيق. إن ملاحظة أحد الآثاريين حول ذلك في محلها ، وهي تتجلى في واقعة رياضية أو ما يشبه ذلك، إذ يعزى انتشارها إلى الأمية، كما لو أن الكثرة اللافتة فيها تأكيد على ندرة الكتبة، ووجود من يحتكر الكتابة، حال الوراقين أحياناً، لتكون الأختام صحائف أصحابها، إنما دون أن يعني ذلك أن حاملي الأختام عموماً هم أميون. ” 18 ” .
ذلك يقودنا إلى معرفة دلالة الشكل والهيئة، أي أسطوانية الختم، وهي ترجمة أخرى من صلب الأثر، عندما نعلَم بكروية الأرض، أو ما يؤخَذ به ذلك الإنسان من شعور في تعامل مع جسم أسطواني، كما لو أن البداية هي النهاية، والعكس، وما يصل الحياة بالموت، والفاعل الخفي نفسياً في التحرك على سطحه وترك أثره، كما لو أن هناك باراديغم” نموذج” كوكبي، يشكّل نصاً مفتوحاً، وبارزاً، ويقدّم فكرة واضحة عن محتواه المرئي، وهي مزايا أخرى ترينا كثافة المتواجد على السطح الغائر والنافر، وما يتلمَّس من خلال النتوءات: التقعر والتحدب أيضاً .
هناك الحركة الدورانية، وصلتها بحركة اليد وانسيابيتها، ومن ثم تناظرها مع ما هو أرضي وسماوي، ودوران القطعة الواحدة حول محور واحد، وهي عوامل مؤثرة في صنعتها أو تفعيل دورها، حيث (يساعد شكل الختم الأسطواني في منح الفنان مساحات غير محدودة لاستيعاب المشاهد…ثم: فالمشاهد الدائرية التي تلد ذاتها من تلقاء نفسها ثم تعود ثانية إلى نقطة البداية، تطالعنا باستمرار على شكل تكوينات مختلفة ومتنوعة كبيرة وصغيرة لا حصر لها في حضارة الشرق القديم.) ” 19 ” .
ثم العلاقة بين الآلهة والبشر والحيوانات وغيرها :
تلك الأختام التي تكون على تماس مباشر بالحياة اليومية، لا بد أن تجلو الفاعل فيها: الآلهة ومواقعها الاعتبارية!
سوى أن الأهم، وكما أوردنا طائفة منها، هو في كيفية الربط بين الإلهي والحيواني، فالنباتي والإنساني الذي يشكل أولاً: الصانع لها، وثانياً، المشغول بها، وثالثاً، المستثمر لها بالمقابل، وليس لأنه فيما قام به، يريد أن يوجه نماذجه هذه إلى المستقبل، إنما، لتبقى من حيث التقدير شهود عيان على مجتمع حي كان ينتمي إليه .
إن مجمل المشاهد التي تعرض لها المؤلف بالتسمية والتوصيف، افتقرت إلى الحامل المعرفي الذي يسمّيه بالذات، كما هو ختم التملك بالنسبة إلى ذلك الذي كان يحمل خاتمه في منطقه إفصاحاً عمن يكون، من ناحية، وترجمة لموقعه، فهو من حيث الوجاهة أو المكانة، علة قدر استخدامات الختم، وتنوع نماذجه، من هنا، جاءت تسمية البحث/ الدراسة عموماً بـ” الخاتم المفقود “، أي توقيعه الدال على أثر يشير إليه، وهو ظله البحثي .
إن حالة الاندماج التي كان يعيشها، كما ترينا هذه الرسوم/ المشاهد، أو الآثار المختلفة، ذات قيمة تأريخية، وهي في جوهرها لسان حالة ثقافة مجتمع، بحيث يسهل القول أن المجتمع كان أكثر من كونه بشرياً، إنما يُعَد مغايراً لتصوراتنا راهناً، فتلك المشاهد الموحّدة للكائنات، والإله مندغم فيها، هي وحدة كونية. إنها بمقدار ما تكون في مقام رسائل متلقاة من عالم كبير، مبجَّل ومهيب بالنسبة إلى إنسان تلك العصور، تكون رسائل مرسلة إلى عوالم أخرى، إلى ما يصعب علينا اكتناهه، حيث تتشكل عقود مجتمعية بمثل هذا الترصيص.
أن يأتي الإله، أن تأتي الإلهة في أول السلم، فاعتراف بمركزيته/ـها ، وشعور منه/ـها، أنه/ـها بذلك يـ/تكتسب ضماناً له/ـها بعيش أكثر سوية، ولا تخلو هذه العلاقة من كلمة سر، ربما تفصح لنا عما هو مذهل فيها، وهي أن تسمية الآخر بهذه الطرق، الآلهة- الآلهات، وفي وضعيات شتى، تعني تملكها، أو امتلاكها، وتصريفها بشكل يمنحه راحة نفسية، وأماناً، إلى جانب اللحمة المجتمعية، وفي تنظيم هيرارشي: مراتبي.
إذ يمكن الحديث عما هو إلهي فينا” إن استرجعنا الجينة الدينية، وهي النفخة الروحية الإلهية، في جسد آدم، ومن ثم اللمسة ” الفنية ” لإصبعه وهي تجبله وتصوغه كائناً حياً ناطقاً، وهذا يشمل الكائنات الأخرى “، وما يخصه كذلك حيوانياً، ونباتياً، وحتى الجماد الذي لولاه لما كان هناك تاريخ بشري أصلاً، عبر الأوابد الرحالة بأسمائها ومن ثم صورها.
فالإله لا يفارق البشري في حله وترحاله، وحتى في بيته، وفي تلك القطع والمباخر والأواني المستعملة” أنّى اتجه يكون نموذج منه، أو شكل “، وللإلهة نصيب كبير وأسبق تاريخياً ” حال عشتار مثلاً : عيش الأرض، كما يشار إليها، لتكون أكثر من كونها جسداً أنثوياً، أي وهي حاملة بالأرضي ومحمولة بها خصوبة…”، وحيث إن المتصوفة جسّدوا هذه الحالة خير تجسيد في مفهوم وحدة الوجود، والحلولية، إيذاناً بما هو مجهول- معلوم .
أن يكون الإنسان تابعاً إلهياً، وإلى يومنا هذا، فهو بالمعنى المقابل، وربما حرفياً: أن يكون الإله، ومهما اختلف اسمه، ووضعه، وشأنه، تابعاً للإنسان، فالأخير يُسمّيه، ويتكتم عليه، ودونه لما كان له من حضور، كما لو أن هناك عقداً ” شاقولياً ” بين الاثنين: الإنسان خلق إلهي، ولكن الإله كتشاف بشري، وبه يفصَح عنه هنا وهناك.
إن تتبع مسيرة أي شعب، يكون من خلال خطوط تحركاته، وفي ضوئها يمكن الإمساك بتلك المفاتيح التي تسهّل العمل البحثي، أو تضيء البنية السردية لكل كتابة تأريخية، إن قول أحدهم عن السومريين بأنهم كانوا ( يقطنون في بادىء أمرهم جبال زاغروس وكردستان، يأوون إلى كهوفها ومغاراتها ويقتاتون بجذور نباتها وثمار أشجارها ولحوم ما يتمكنون من صيده من حيواناتها كغيرهم من الأقوام. ولكنهم لم يكتفوا بحياتهم البدائية تلك بعد أن اكتشفوا الزراعة وتربية الدواجن والأغنام، فصاروا يتطلعون إلى السهول المجاورة وخاصة سهل شنعار حيث الأراضي خصبة ممهدة للزراعة، والمياه وفيرة، وإذا ما توفر خصب الأرض وماء السقي تترعرع الزراعة وتنمو، وتزدهر الحضارة وتسمو..) ” 20 ” .
هذا الشعب الذي تعهَد إليه الريادة التاريخية في الكتابة، والبناء الحضاري، ومن ثم الثقافي المرافق، فالهندسي، وقد أقلق/ حيّر كتّاب التاريخ بتنوع أصنافهم، كونهم ” غرباء ” على المنظومة الثقافية للمنطقة لحظة التوقف عند ” الساميين ” وهم خلافهم، فلا لغتهم، ولا هيئاتهم، ولا جهتهم التي قدِموا منها ممكنة الحسم هنا، ربما لأنهم، وقد وسّعوا محيط انتشارهم، ونشر مؤثراتهم من خلال علاقات مختلفة، بدوا عمليين أكثر من غيرهم، شعب اكتشاف، لا شعب غزو، شعب متنقل لا شعب استقرار، وبمثل غموض الجهة التي خرجوا منها، كان غموض تلاشيهم، كما لو أنهم خططوا لذلك، ليكونوا استثناء أممياً في التاريخ، ولهذا، نجد أمماً وجماعات شتى تسعى من ناحية إلى اعتبارهم سلفاً ” مجيداً ” لها ” حال المؤرخين الترك القوميين المتعصبين، رغم البون الشاسع والهائل في كل شيء بينهما “، ومن ناحية أخرى، إلى التقليل من شأن ريادتهم بربطهم بغيرهم، أو أن ما تركوه لم يبق كما هو، إنما تم تطويره، ليحمل بصمات آخرين.
شعب، يعرَّف به جبلياً، كما تقول قائمة مفرداته، وشعب سهلي، كما تشير إليه بدعته في الزراعة، وشعب فلكي، كما يشار إليه في علوم الكون، وشعب منفتح على المجهول والإنساني، كما تقول ملحمته ” جلجامش “.
ذلك يستحق التوقف، كواجب معرفي، إنما في بحث مختلف/ آخر، جرّاء هذا الحضور الغامض ومغزاه ! ” 21 “.
إن مجمل ما يتردد عن السومريين، والاختلافات، لا بل الخلافات حولهم ينبع من هذه العلاقة الحاضرة، وإسقاطاتها الإيديولوجية.
أن تكون ( الكتابة أعظم ما خلفه السومريون )،كما يرى ديورانت ” 22 “، أو أن (لغة السومريين نفسها لا تساعدنا كثيراً في إلقاء الضوء على أصلهم سواء من ناحية تركيب الجملة أو من ناحية المفردات، فهي غير مشابهة لأي لغة من لغات العالم القديم..)،كما يقول مورتكات ” 23 “، مثلاً، فذلك يفصح عن ” هوية ” هذا الغموض الذي يعزّز من موقعهم، وسر اختفائهم الهيتشكوكي، كما لو أنهم قدِموا بمهمة، دون الإفصاح عن حقيقتهم ” سيرتهم “، إنما لتنطق أعمالهم، وهي في وضعية تحد للمختصين وذوي الفضول وخلافهم.
في الكتابة التي تتكلم السومرية، وفي وضعية رسمية، تحضر البيئات المتنوعة، حيث الحروف البارزة والمرئية بعلاماتها، ومن ثم الهيئات الداخلة فيها، كما لو أنهم رسموا حروفاً، أو كتبوا رسماً. تلك كانت علاماتهم، كما لو أنهم أودعوا سيرتهم داخلها، وتواروا عن الأنظار، لتبقى علاماتهم نابضة بهم، وليكون نوع الخط الذي انشغلوا به وأبدعوا فيه، ويمكن تبين الفراغات ذات الأبعاد الموسيقية فيه، وبطابعها الهندسي، مصدر إلهام للتالين عليهم حيث فرضوا عليهم حضورهم بالوكالة، وهي نافذة المفعول” أليس الأرابسك امتداداً حياً لما كان قديماً ؟” .
هذه العلامات هي التي تشغِل الذهن في العمق، وتبقيه منفتحاً على المحيط الخارجي/ الداخلي، وآلية العمل بها يومياً، إذ يتكلمون صوراً ” 24 “.
لقد عرفوا الحجر والطين، فجمعوا، أو ناغَموا بين المادتين: الصلبة واللينة، وهي ثنائية محفّزة على التأمل، كما تقول حكمة الأختام ىالأسطوانية. وليس النبات بغريب عليهم، وهو في جانبه الطقسي، ولا بد أنه معلم جلجامش في مسيرته الطويلة، وبرّية، سبقت مسيرة يوليسيس البحرية بقرون طويلة” من نبتة الخلود إلى الزوجة “، ولتكون الأختام بوصولها إلينا حالة خلود، ومن الطين، الأرض الخصبة انطلاقته، وفي الحجر ديمومته: فنكون جماع الاسطقسات الأربعة .
أيكون الطوفان موضوعاً سومرياً بامتياز؟ وقد عاشوا في بيئة تالية، مشهود لها بكثرة الفيضانات في الجنوب؟
ألا تكون السفينة، وضمناً ” الإله – السفينة ” تشكيلاً خلاقاً لهذا المشهد الموهوب صفة كونية؟ أليس الربط بين سفينة ” نوح ” بمرجعيتها التوراتية أولاً، فالقرآنية لاحقاً، وهذه السفينة، وهذه بذخيرة عناصرها، وتنوع هذه العناصر، مع بقاء العنصر الإلهي قائداً وموجهاً، مفيداً، تأكيداً ما على أن الناجي الوحيد، هو من يستمر في التاريخ، كما لو أنهم رسموا خارطة البشرية، حيث السفينة سفينتهم، و” نوح ” التوراتي ” سومري أصلاً ؟
ذلك موضوع آخر، يستوجب تناوله من جوانب مختلفة، لإضاءة بعده العمراني والتقني والجمالي كذلك” 25 “.
إن قول ديلا بورت ، وهو يتحدث عن السومريين، إنما مع ربطهم بالأكاديين، وهو ما يروي غليل من ينسّبون أنفسهم راهناً إلى الساميين ويتحمسون لهم، ومن خلال الأختام (لم يكن السوميرو أكادي ليقنع بتمثيل الكائنات الحقيقية، إذ كان شديد الميل لاختراع مخلوقات مختلطة غير متجانسة انتقلت خلال الأجيال من عصر إلى عصر معتمداً في ذلك على تشابه معين قل أو كبر بين الإنسان والحيوان وعلى ما كان يلاحظ من مظاهر شذوذ في الطبيعة، فالنسر برأس أسد، مثلاً، هو رمز الإله ننجرسو، كثيراً ما نجده على آثار لاجش. ) ” 26 “، ينصبُّ في دائرة هذه الاهتمامات والتي تفصح عن غموض السومريين الآسر، حيث إن عملية الربط تفيد في محاولة إيجاد نقاط استناد تمكّن من فهم السومريين كما لو أنهم عرِفوا من خلال التالين عليهم.
ذلك ينطبق على الكئن ذي القرون الأربعة أو قرون الألوهية، وما يمكن أن تتحلى به من مضامين لافتة، وهي أنها بوضعيتها تلك، تفصح عن علامات القوة والبطش أحياناً، كون القرون في مثابة: خندق الدفاع الأول، إلى جانب التهديد الموجه إلى الخصم/ العدو، وفي الوقت الذي يمكن التعبير عن القرون بوصفها سلطوية، بأكثر من معنى، حيث القرنان، مثلاً، يحيلان اتجاهين إليهما، بينما القرون الأربعة فهي إضافة قوة إلى أخرى، وهي بوضعها تتناسب ومزايا التفرد بالقوة، وهي تعلو الرأس، وعلى قدّر بروزها، تؤكّد نفاذ فعلها، كما في الشعاع المنبثق منها، وفعل الشعاع في إضاءة المكان، ومن ثم التعبير عن جسد مبارك، أو مقدس، كما لو أن الأرضي محوَّل إلى ما هو سماوي، وفي الحالات هذه، يكون الإنسان هوالمعزّز الهذه المناقب، والراغب فيها .
ثمة الآلهة، ثمة البشر، ثم الحيوانات المركَّبة ” همبابا / حارس الغابة “، ثمة الحيوانات الأخرى: الحية سارقة نبتة الخلود، كبش عشتار الإلهة، وعدا هذه من النساء سيدوري صاحبة الحانة، والبغي التي التقت أنكيدو الذي كان يعيش في ” مجتمع ” حيواني، و” روَّضته “، والنبع، والعاصفة الهوجاء…الخ، تشكل قوى الملحمة !
إن كل إضافة إلهية، حيوانية، ونباتية، هي امتلاء أكثر بالقوة والمدد، والتواجد في تمثال، قطعة أثرية، أو ختم أسطواني، حلول في الجماد المقاوم للانحلال، فلسان الحجر الأصم لا يبلى، وذاكرته مرئية ببلاغة مرئيّه !
وحين يلتقي، في ختم أسطواني، في تمثال، أو لوحة، كل من الإله،ى الحيوان، النبات والإنسان، وأرضيته الحجر، وفضاؤه السماء، فثمة معادلة ذات منحى بيولوجي مستدام، أي وضعية تهجين مركَّبة ومفخَّمة.
فثمة ما يجري وصْله بين كل حيوان وآخر ” فالحيوانات أمم أيضالً، بالتعبير المجازي “، ومن ثم كل حيوان وراسمه، أو مستخدمه نسبياً، مع مراعاة المكان، أو البيئة، فيكون لكل حيوان رمزه، وهيئته الخاصة بالمقابل، يكون للحيوان حقه الجلي في البروز والدوام.
ولا يغدو الحيوان المنظور إليه من قبل سلفنا الذي يرجع إلى آلاف السنين، كما هي نظرتنا إليه، وإلا لما كان هذا التركيب النّسبي، حتى على مستوى: الإنسان – الأسد، الإنسان- الثور، مثلاً، حيث تجري عملية تفكيكية، ومن ثم تركيبية، عبر تأكيد لحمة بيولوجية سالفة لجعل علاقة الإنسان ذاك بمحيطه وعالمه أمتن وأمضى .
ولا يُنظَر إلى الإناء الخزفي على أنه أداة، أو مجرد أداة للاستعمال الشخصي: للشراب، أو للأكل، إنما باعتباره مؤدي عمل طقسي، من خلال لمس اليد الواحدة أو اليدين، كما لو تمريرها أو تمريرهما، تجديد مستمر لتلك العلاقة القوية ، أولاً مع المادة الأصلية: التراب، ومن ثم ثانياً، مع الصباغة، كمكون آخر في الصنعة .
إزاء ذلك، ليس من قطعة، نقدية أو غيرها بقابلة لأن تنحى دون تقييم معين، إنما تحمَّل برمز معين، وهو معترَف به، كما يظهر مجتمعياً، بمقدار ما يكون لحامله اعتبار له صلة بالمكانة أو الثراء !
وكل عملية مشاهدة تخرج الناظر من حالة التفسير: وطابعها التزامني/ السكوني، إلى حالة التأويل: وطابعها التزمني، ودون ذلك يستحيل علينا رسم أي علاقة مع ما كان، رغم أننا نمضي إليه ونتقدم به، حيث نتبين ما هو مخصوص علينا، أو يخاطب فينا ما ليس لنا به علم، وما يحفّز على فهم، فقدنا صلة الاتصال به.
ربما كان التنويه إلى أهمية ما كتبه كتّابٌ غرب، فلاسفته، أدباؤه، في هذا المجال مفيد جداً، حيث تحضر البيئة الجبلية، الصحراوية، وكائناتها في نصوصهم بمعناها المجازي، كما لو أنهم تعلَّموا أفضل تعليم من أولئك الأسلاف الذين كانوا يتكلمون بلغة أخرى” السومريون كمثال حي “، كما في حال نيتشه وكتابه” هكذا تكلم زرادشت ” المتخم بظلال الحيوانات، والجبل، والصحراء “، ودريدا المشغول بالصحراء، ودولوز مثل سابقه، وهو يعرّف بنفسه حيواناً من نوع مختلف جداً، إنما أيضاً شجرة وغابة…الخ ” 27 “.
لعل دولوز، كمثال حي كان مأهولاً بصدى التركيبة الميثولوجية- الدينية عن الجنة وشجرة المعرفة، فيكون الشجرةَ: شجرة الحياة، مثلما ينسكن بالمرأة المتداخلة مع الشجرة، والحية، فهي بمعناها تعيش داخلنا، وإبليس المهيب الأثر الذي لولاه لما كان للمعرفة تاريخ بدء أساساً، ليلتقي الإله، الإنسان، الحيوان والنبات والجماد!
لعله بصيغته تلك كان أكثر قرباً إلى مفهوم ” الإنسان الكوني ” من أي منا راهناً، حيث إنه في عقْد صلات الوصل وفي أطُر شتى، بين الإنسان والحيوان والنبات وبحضور الإلهي أحياناً، إنما كان يعزّز القيمة الجماعية لكل هؤلاء، وتحديداً من خلال النبات، بدعة الوجود الأولى، ومنطلق الكائن الحي، وعلامة خصوبته، ولا أدل على ذلك من ربط المرأة بالأرض، باعتبارها الأم الكبرى، وهي بمؤخرتها القاعدية الكبرى دالة الخصب، حيث تبرز إينانا السومرية، ملكة السماء، وعبرها عشتار البابلية، الجامعة بين السماوي والأرضي بدورها، دون أن نغفل سلسلة التدرجات المعتبَرة لقائمة الحيوانات ودمجها الجزئي بالإنسان: تركيبها!
الأسد: كما يشاهَد في تماثيل وقطع أثرية، وأوان وفخاريات مختلفة، وأمام مداخل المعابد وغيرها ” 28 “.
الثور: ولكم يتداخل مع الأسد مطلوبه ومقابله بالقوة، إنما الأهم، هو المضي بالأسد إلى البرية، أكثر من كونه ” ملك الغابة “، بينما الثور، فرغم جانبه البرّي، لكنه أهلي كذلك، في الفلاحة وغيرها، ولكم كان مثار إعجاب الإنسان في فحولته، وليس ببعيد تأكيد هذه الفخامة والهيبة ببرج الثور، مثل برج الأسد” يحضرنا ما هو متداول عن معنى : جلجامش بأنه : أربعون جاموساً، أي ما يرتد إلى الثور أيضاً، وضخامته تناظر ضخامة الأسد، وهو ما يشدّد على طابعه الكوني، أو الاعتداد بقوته والإحالة إليه في صياغات مختلفة .
الثعبان: ذو العراقة الميثولوجية- الدينية، ومحل كم هائل من التأويلات . ” 29 “.
الكلب: الذي يحتفظ بمكانته الكبرى، وربما كان محل نبذ و” لعنة ” في الديانات ” السماوية “، رغم أنه لم يفارق الإنسان، بالعكس، كان يعتمَد عليه، ويمكن تعزيز هذه المكانة من خلال صلاحية استخدامه الكبرى في تعقُّبات بوليسية، وغيرها، وهي مكانة يسهل التأكد منها في أدبيات العالم القديم ” 30 ” …الخ .
العفاريت : هي ذاتها كائنات حاضرة في مشاهد مصورة، ووجودها ملازم للإنسان وقتذاك، ولا بد أنها بوصفها قوى لامرئية مارست دوراً وسيطاً بين الإنسان وما هو غيبي، وليس تجسيدها بصرياً، إلا لتأميم نفس مطمئنة من ناحية، ولمد الصلات معها، اعتقاداً منه بذلك أنه يعترف بها كقوة نافذة، ولضمها إليه من ناحية ثانية “31”.
الشياطين : وهي أكثر من كونها كائنات مفارقة للإنسا، أو تراوده عن نفسه ذكراً أو أنثى، فهي تشغل الكون في مختلف الأمكنة، في السماء وعلى الأرض، واعتباره ” إله الشر المحض ” لم يأت اعتباطاً ” 32 “.
الإله- السفينة :
كما أسلفت، فإن المؤلف، شأن مجمل النقاط التي أتى على ذكرها، أبقى هذا الموضوعَ المركَّب دون إي إضافة، أو أثر يسمّي موقعه. حيث إنه في الوسع ربطه بجغرافية البيئة، وتقلبات المناخ، ونظرة الإنسان ” القديم ” إلى ما هو كوني، ومفهوم ” الخطأ- الصواب/ الخير- الشر ” وما يذكور نُذرياً، إذ إن السفينة جديرة بأن تدرس جانباً. حسبي أن أشير هنا، وبتواضع، إلى أن مفهوم السفينة مائي، ويرتبط بالارتحال، أو الانتقال من مكان إلى آخر، وعبر مسافات بعيدة نسبياً، وليس وجود الإله إلا تعبيراً عن حدث جلل، لأن هناك خوض مخاض مهيب، أي ما يمكّنها من السير بسلامة، كما لو أن إرفاقه بالسفينة إثبات فأل خير، ودليل نجاة.
وحده الفنان المتبصر، قادر على إقامة العلاقات بين كل عنصر وآخر في مشهد : الإله- السفينة، حيث لا تكون سفينة إلا بوجود صانع، ولا وجود لإله دون مناسبة، دون أخذ واقعة مفصلية بالحسبان، وأنها لن تكون مجرد سفينة دون ركاب أو كائنات أو حمولة أخرى فيها، وهذا يعني إمكان النظر فيما هو كوني بالنسبة لموقعها.
الفخاريات : العلامات :
الفخاريات، أو الفنون الزخفية من جهتها، تكون محملة بالكثير من العلامات، فهي تتعدى نطاق الاستعمال اليومي، كونها تنطوي على إحالات رمزية، جهة المادة المصنَّعة منها، وجبْلها، وجهة اليد الصانعة لها، وجهة الخطوط أو الألوان التي تجلوها من الخارج، كما لو أنها تؤدي وظائف مختلفة دفعة واحدة، وفي كل عملية استعمال تجدّد هذه العلاقة، وتبث القوة والأمان في نفس المستعمِل لها، فلا تعودمجرد جماد، إنما تجمع بين أقصى الإحساس النفسي/ الروحي في جانبها التشخيصي، وأقصى التجريد، ناحية اعتبارها مجرد حاضنة لرسالة، لتلغراف عابر لما هو حسي، فيكون المرئي قراءة، تجويداً للمرسوم وتفاعلاً وجْدياً ما معه، مهما كان الأثر، حيث يضاف إلى المنحوتة: التمثال، والمحفور في لقية معدنية، أو غيرها: الختم الأسطواني، أي تكون جملة الفخاريات ذات صلة ببيئتها، بمادتها، أو من خلال تكوينها وعناصرها . ” 33 “.
ذلك يمكّننا من قراءة الحراك القيمي والجمالي للعلامات المبثوثة على السطح الأملس والناعم للفخارية، وأن نوعية الفخارية جهة الصنعة تفصح عن المستوى الفني وأدائيته، ومدى تفهّم الفنان: الصانع لها ” 34 “.
إنه الطين، وقد أخضِع لدورات مركَّبة من قبل الإنسان، وتحويله ” الناري ” فيما بعد ، إلى أشكال مقدَّرة بمنزعها الفني: الجمالي، وشاهد عيان على وجود ” خالق ” من نوع آخر، حيث المجسَّم خارجاً: صحن، إناء، إبريق وغيره، ينطوي على ما هو لافت للنظر: تجويف، يعادل الرحمي، وليكون المشروب أو المطعوم، علامة إحياء للشارب أو المستطعم أو الآكل، وتبعاً للموقع، وليجري الحفاظ عليها من هذا المدخل.
نقاط ناقصة :
أتراني أسهبتُ في المتابعة البحثية، النقدية في تناولي لكتاب الدكتور درويش، أم أنني اختصرت نقاطاً دون أخرى، أم أوردت نقاطاً على حساب أخرى، أم سعيت إلى تناول ما هو داعم لفكرة الكتاب أصلاً ؟
ما يهم، وهو مقصدي، هو إبقاء باب المتابعة مفتوحاً، هو السعي إلى منح الذات القارئة قابلية مكاشفة استناداً إلى قدرة معرفية خاصة تحمل بصمتها، وليس أن تكون اتكالية. ولعلي في التذكير بأسماء حاضرة ببصماتها، استهدفت التأكيد على أهميتها، ومحاولة التطرق إلى سواها، لمن يريد متابعة، وعلى طريقته، ودون أن أكتفي بمجرد الاقتباس، أو العرْض، وهذا من شأنه تحفيز أي قارىء، مهيأ نفسياً وذهنياً لقراءة الكتاب، وباعتباره كتاباً طبعاً، أن يلتقط إشاراته، ويسائلها، محددها مصادرها، ومدى دقتها، وأين يقف الكاتب/ المؤلف حقيقة، وفي الوقت الذي يتوجب عليه النظر في أكثر من اتجاه، لئلا يكون مظلَّلاً بسواه، إنما يكون له ظله في المكاشفة .
وليكون الحديث عن ” النقاط الناقصة ” تعزيزاً لمقولة: أن لا شيء مكتمل، فكل قول تتخلله ثغرات، وهي متكفلة لأن تشد إليها قارئها الفعلي، ليتحرى بنيتها، وتكون له ثغراته بالمقابل، وهكذا دواليك…
شكراً للدكتور نضال محمود حاج درويش، الذي أشغلني لبعض الوقت بكتابه، مهما اختلَف الموقف معه، ومهما كانت طبيعة نقدي المسطور عنه، إذ لولاه لما كان هذا المثار بداهةً .
ملاحظة لا بد منها :
يحتاج كتاب ” الآلهة والكائنات الأسطورية المركبة…” إلى قارىء منقّح، يعرف العربية جيداً، ويحتاج إلى صبر وجلد لهذا الغرض، فهو حافل بأخطاء لغوية ونحوية، ومن الصعب وجود صفحة دونها، وثمة الكثير منها أحياناً في الصفحة الواحدة” بدءاً من ص 15: تم تقسيم كلاً ” كلّ “، ” تم: تمت دراسة كلاً: كلّ “..” تم شرائها: شراؤها “،” يوجد في متحف حلب مجموعة..: توجد “…الخ، وتكرار ” الظفيرة ” وهي ” الضفيرة:لمَّة الشعرالمجدولة “…، وآمل أن يتدارك هذا النقص الجمالي ” اللغوي ” في طبعة لاحقة، لأن سلامة اللغة ذاتها صنعة كلام وكتابة مؤثّرة !
دهوك
إشارات :
1-مورتكات، أنطون: الحضارة السومرية والأكادية، ترجمة: محمد وحيد خيّاطة، دار الشرق العربي، بيروت، طبعة جديدة منقحة، 2004 ، ص 6 .
ينظَر أيضاً ما أفصح عنه جان كلود مارغرون : السكان لبلاد ما بين النهرين وسورية الشمالية، ترجمة: سالم سليمان العيسى، دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2006، جهة التسمية الحديثة لبلاد ما بين النهرين، ص 9، وأن: كلمة” ما بين النهرين ” لم تطبَّق باستمرار على منطقة واحدة فقط، فقد استخدمها اليونان لأول مرة، بمعنى أنها تتفق تماماً مع معناها الاشتقاقي ” بلاد ما بين النهرين ” أي المنطقة الممتدة بين نهري الفرات والدجلة والمتعلقة فقط بالقسم الشمالي من الحوض كله.ص 20 . يعني بذلك، وربما تبعاً لقوله، ومن سبقه، أن علينا عدم التعريف بهذا المفهوم اللغوي للجغرافي يونانياً، لأن المكان كان موجوداً ، طبعاً، ظهور اليونان فيما بعد !
للتوضيح أيضاً، ينظر في كتاب طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، دار الوراق، ط1، 2009، العراق، ص 24 ….الخ.
2- حضارة وادي الرافدين ” سومر- آشور- بابل: سبعة آلاف سنة من الفن والحضارة “، تأليف جماعي، ترجمة: قاسم مطر التميمي، بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2010 ، ص 221 .
3- ديورانت، ول : قصة الحضارة، ج1، م1، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، دارالجيل، بيروت، ص 148.
4- ربما التنويه إلى كتاب جماعي، وهو: الدين في عالمنا، تحت إشراف جاك دريدا وجياني فاتيمو، ترجمة: محمد الهلالي وحسن العمراني، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2004، مهماً، في هذا النطاق، فالذين شاركوا في الملتقى البحثي في روما سنة 1994، هم رموز فكر وفلسفة كبار: دريدا، فاتيمو، غادامير…الخ.
وينظَر بتعمق كذلك في كتاب جان بيير فرنان: الكون والآلهة والناس” حكايات التأسيس الإغريقية، ترجمة: محمد وليد الحافظ، دار الأهالي، دمشق، ط1، 2001، ص: 14-19-41-43…الخ.
5- أشير بهذا الصدد إلى كتاب ” ميثولوجيات: أسطوريات ” لرولان بارت الفرنسي، حيث إنه ينوّع في تلك الأسماء والمقامات ذات الصلة بـ” حداثته ” وكيف تلتقي ذهنية الفرنسي بذهنية سلفه قبل آلاف السنين، حيث إن العبرة في طبيعة الأجوبة المقدمة على أسئلة مطروحة داخلاً وخارجاً، ومدى كفايتها.
ولجوزيف كامبل، كتاب شيّق، وله بعد تعليمي، ومبسَّط، وعميق في آن، وهو: قوة الأسطورة، ترجمة: حسن صقر- ميساء صقر، مستل انترنتي، كما في قوله التنبيهي: الأسطورة تساعدك في أن تجعل عقلك يجسّد هذه التجربة في كونك حياً، ص 23، وكما في ربط الأسطورة بالفن، وقوله: الأسطورة يجب أن تبقى حية…ووظفية الفنان أسطرة البيئة والعالم، ص 125…الخ.
6- بورخيس، خورخي ل – غيرّيرو، مرغريتا: من كتاب المخلوقات الوهميّة، يليه ضيفاً على بورخيس لألبرتو مانغويل، ترجمة: بسّام حجّار، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2006 ، ص 10 .
7- كريمر، صموئيل نوح: السومريون ” تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة د. فيصل الوائلي، وكالة المطبوعات، الكويت، ص 151 .
8- زودن، ف . فون: مدخل إلى حضارات الشرق القديم، ترجمة: د. فاروق اسماعيل، دار المدى، دمشق، ط1، 2003 ، ص 192 .
9- حضارة وادي الرافدين ” سومر- آشور- بابل: سبعة آلاف سنة من الفن والحضارة ، المصدر المذكور، ص 29 .
10- من ذلك ما يمضي إليه الآثاري العراقي الأكاديمي عامر سليمان في كتابه :: العراق في التاريخ القديم ” موجز التاريخ الحضاري “، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الموصل، 1993، بقوله ( تعد سمة الشرك، ..من أبرز ما اتسمت به المعتقدات الدينية في العراق القديم..ص115 )، وهو قول تشكَّل لاحقاً .
11- ذلك يذكّر بدوره بقول عامر سليمان في مؤلَّفه الآنف الذكر إلى ( ” بلوغ “: فن النحت وفن الصياغة السومريين الذروة في عصر فجر السلالات” حدود 2900-2400 ق. م ” ..ص343 )، أما المرحلة الأول، أو ” عصر الحضارات الأولى ” فتكون في حدود 3200 ق.م ، كما ذكر زودن، في مؤلف السابق ” ص 55 “.
12- حضارة وادي الرافدين ” سومر- آشور- بابل: سبعة آلاف سنة من الفن والحضارة “، المصدر المذكور، ص 221.
13- سلمان، أحمد عزيز – الجبوري، م. م. عباس زويد: أختام منبسطة من موقع تل الولاية في المتحف العراقي، ص 158.
14- الباشا، د. حسن: الفنون القديمة في بلاد الرافدين، دار أوراق شرقية، بيروت، ط1، 2000، ص 102.
15- ساغز، هاري: عظمة بابل، ترجمة: خالد أسعد عيسى- أحمد غسان سبانو، دار رسلان، دمشق، ط1، 2008 ، ص 40 .
16- محمود، صفاء عبدالرؤوف محمد: دور الأختام في الاتصال بين مصر وبعض بلدان الشرق القديم، مستل انترنتي.
17- الشمري،أ.د. طالب حبيب –حاجم، أ.م: عبدالرزاق حسين: الأفكار الدينية في بلاد الرافدين من خلال المشاهد الفنية على الأختام الأسطوانية غير المنشورة، جامعة واسط، قسم التاريخ، 2017 ، ص 313 .
18- ينظر، سامي سعيد الأحمد “: الأهمية التاريخية والتراثية للأختام الأسطوانية ، المصدر المذكور، ص 300 .
19- مورتكات، أنطون : الحضارة السومرية والأكادية، المصدر المذكور، ص 45 .
20- ينظَر كتاب صبحي الشاروني: فن النحت في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين ” دراسة مقارنة “، تقديم الدكتور: ثروت عكاشة، الدارالمصرية اللبنانية، ط1، 1993، ص 29.
21-ثمة محاولات متواضعة لي في هذا، كما في كتابي: الكرد في مهب التاريخ، بيروت، ط1، 1995،صص32-38، على صعيد التاريخ، وكذلك كتابي الآخر:الموسيقى” عتبات المقدس والمدنس “، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 2005، بالنسبة لبراعتهم في الموسيقى وصلتها بالكون، ص37-38…الخ.
22- ديورانت، ول: ج2، م1، ترجمة: محمد بدران، بيروت- تونس، ص 34.
23- مورتكات، أنطون: في مصدره المذكور، ص 7 .
24- تُرى هل كان رجل مفكر في مقام جاك دريدا مطَّلعاً على هذه البدعة العلاماتية، وعبر جان جاك روسو الذي أولاه اهتماماً كبيراً، في كتابه : ف يعلم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث- منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005 ، إذ يورد مقولة روسو الوارد في مؤلفه ” رسالة في أصل اللغات “: إن أكثر ما قاله القدماء بحيوية لم يعبروا عنه بكلمات وإنما بعلامات، فلم يقولوه وإنما أبدوه. ص 434؟!
25- ينظَر في كتاب صبحي الشاروني، المصدر المذكور، وهو يتحدث عن بيئة جنوب” العراق ” عن أهواره، وصلة ذلك بالمناخ والفيضانات المستمرة . ص154 .
26- ديلا بورت، ل.: بلاد ما بين النهرين، الحضارات البابلية والآشورية، ترجمة: محرم كمال، مراجعة: عبدالمنعم أبو بكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ص 181 .
27- إن أفضل من يمثّل هذا الاتجاه، وببلاغة معتبَرة في عملية الانتساب، وبغضّ النظر عن مدى دقته، هو جيل دولوز، كما في كتاب: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، مع كلير بارني، ترجمة” عبدالحي أزرقان- أحمد العلمي، منشورات أفريقيا الشرق، 1999، صص10-21، مثلاً.
28- ذلك يتضح في أمثلة كثيرة أيضاً، كما هو وارد في كتاب هاري ساغز: عظمة بابل، المصدر المذكور ” لوحة رقم 53: تمثال أسد برأس إنسان، يمثّل الجني الصالح الذي يحمي قصراً آشوريا “، وما في هذا التركيب من فرز جنساني: الجني الصالح والطالح، وحمْله لكل من الإنسان- الأسد، وضخامة الرأس نموذج الهيبة.
وهو رمز مركَّب، إذ يرتبط بالمرأة كذلك. ينظَر في كتاب خزعل الماجدي: المعتقدات الكنعانية، دار الشروق، عمان، ط1، 2001 ، وهو يشير إلى قائمة رموز عناة الكنعانية، ومنها: ، وهو رمز قديم للألوهة المؤنثة كانت إنانا وعشتار تتخذه وجهاً من وجوه القوة والحرب لهما.ص78…الخ
29- في هذا الإطار، يأتي تعقّب الباحث السوري المعروف: فراس سواح لحركية الرموز، من خلال محورة/ مركزية عشتار، بمفهومها القومي السوري، في كتابه: لغز عشتار ” الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة “، دار علاء الدين، دمشق، ط8، 2002 ، حيث التركيز على : تقديس الثور المترافق مع ظهور الآلهة في المستوطنات الزراعية الأولى في سورية وخصوصاً تل المريبط..ص72…وما يخص الصلة بالنبات: إن موت النباتات في الخريف وحياتها في الربيع هو غياب ” عشتار ” روح الخصوبة الكونية وعودتها حية قوية متجددة.ص 107، حيث تحضر الحيّة: الثعبان…وكيف: تبدو عشتار في كل الثقافات مصحوبة بالأفعى في كثير من الأعمال التشكيلية التي تصورها.ص 137- كذلك ص 138-145.. وبوصفها” سيدة الحيوان “: في بلاد الرافدين نجد كثيراً من الأختام الأسطوانية تعالج سيدة الحيوان، إذ نجد إنانا السومرية أو عشتار البابلية في وضع عار أو نصف عار وسط حشد من مختلف أنواع الحيوانات. وفي بعض الأختام السومرية ، نجد سيدة الحيوان واقفة فوق تيس… وفي نحت أوغاريتي آخر نراها عارية فوق أسد وبيديها الاثنتين ترفع حزمتين من النبات ..ص 146، وتكون هناك: عشتار القمر- الخضراء- البغي المقدسة، سيدة الأسرار…الخ .
وينظَر قبل ذلك، ما يأتي ساغز في ” عظمة بابل ” على ذكره، بالنسبة للثعبان ومكانته في ” التنبؤات السومرية – الأكادية: إذا صادف أن عض ثعبان معتد ٍ رجلاً، فإن أوقاتاً عصيبة سوف تصيب خصم ذلك الرجل- إذا مر ثعبان من يمين الرجل إلى يساره، فإن هذا الرجل سوف يصيبه حظ جيد ويصبح اسمه مشهوراً- أما إذا مر ثعبان من يسار الرجل إلى يمينه، فإن هذا الرجل سوف يصادف وقتاً عصيباً- إذا قتل النمس ثعباناً في بيت أحدهم فإن هذا يعني وصول الشعير والفضة إلى البيت..ص 344.
وربما كان اهتمامي بالثعبان/ الحية وراء كتابي : سرديات الحية، الصادر عن دارل رؤية القاهرية، 2018.
30- على الأقل، وأنا أحيل على زودن، في مصدره المذكور، حيث يقول: يُعد الكلب … من أقدم الحيوانات المنزلية، وكان يفيد بالدرجة الأولى في حماية القطعان والمنازل من الأعداء….كان الكلب في الغالب حيواناً مصاحباً لآلهة الشفاء، وكانت هناك بالمقابل ” كلاب شريرة “. ومن الملاحظ أنه قلَّما استخدمت كلمة ” الكلب ” كشتيمة ” .ص 102.
31- رأينا ذلك على الأقل، مع هاري ساغز، في : عظمة بابل، والجني الصالح، ومع ف . فون زودن : مدخل إلى حضارات الشرق القديم، المصدر المذكور، وحديثه عن العفاريت الشائعة لدى السومريين – ومنها dimme و lil عفريت العاصفة اللذان تمتعا بالصفات الذكورية والأنثوية معاً، وعن أشكال خاصة مميزة لها.ص217 ، وهناك وللتذكير، فإن ” ليليت ” نفسها المعتبرة زوجة آدم الأولى كانت عفريتة/ جنّية ..الخ.
32- لاحظ مثلاً ما يأتي هاري ساغز في ” عظمة بابل ” على ذكره ومن خلال مشاهد بصرية، في لوحة رقم ” 54 ” لاماشتو وهي أنثى شيطان مخيف : مأخوذة من تعويذة- لوحة رقم ” 55 ” شيطان بابلي، وخزعل الماجدي، في: المعتقدات الكنعانية، المصدر المذكور،الفصل الرابع: الكائنات الأسطورية غير الإلهية: الشياطين والكائنات الخرافية ” . ص 184.
33- ينظر، صبحي الشاروني: فن النحت، المصدر المذكور، الفصل الرابع: البيئة وأثرها على الفكر والفن، صص 47-59.
34- ربما يأتي تعبير د. عامر سليمان: العراق في التاريخ القديم .. المصدر المذكور( وبلغ فن النحت وفن الصياغة السومريين الذروة في عصر فجر السلالات” حدود 2900-2400 ق. م ” ..ص343 ) داخلاً في هذا المنحى من العلاقات المتنوعة، ونظرته إلى الفخارية، ووظيفتها في مجتمعها.