عصمت شاهين دوسكي
الشاعر الكردي المعروف ” فقيه طيران ” يعتبر من أشهر الشعراء الكرد القدامى رغم قلة أعماله الأدبية المكتشفة ومن الذين يحتلون مكانة مهمة في الشعر الكردي وما زالت الألسنة تذكرهم منذ قرون حتى الآن فهو بلبل مع البلابل وطير مع الطيور يطير معهم ويحط على أجمل الزهور والألوان ، إنه محمد المكسي الهكارى الملقب ” فقيه طيران ” تشير المصادر رغم التناقضات والتفسيرات والاجتهادات إنه ولد عام ” 1563 – 1564″ سمي بالمكسي نسبة إلى قصبة ” مكس ، تركيا ” أما عن لقبه الرئيسي ( طيران ) نابع من إكثاره من ذكر الطيور والبلابل في أشعاره وله قصيدة مطولة على شكل حوار جميلة عن البلابل وسمي ب ” فقيه طيران ” الذي يترجم إلى ” فقيه الطيور ” وهذا ليس غريباً فإن الرائعة المشهورة ” كليلة ودمنة ” ما هي إلا حوارات فلسفية وعقلانية على ألسنة الطيور والحيوانات المختلفة ،
بالإضافة إلى أشعاره الرصينة قام بتوظيف جزء كبير من التراث الإسلامي والإنساني وملاحمه نظمها شعراً وما قصة الشيخ الصنعاني وبرصيص العابد وبائع السلال وغيرها إلا أمثلة قوية ،كما أن تخليده لملحمة ” دمدم” البطولية لا تحتاج إلى شهود ، انتمى الشاعر إلى الشعر الصوفي والمدرسة الصوفية في الشعر الكردي التي كانت تهيمن عليه في تلك الحقبة من تاريخ الأدب الكردي ، له خصوصيته وذاتيته وأسلوبه وتوجهاته ومواهبه التي تختلف عن أصحابه من الشعراء ، فما حوادث ” شيخ صنعان ” إلا اتجاه صوفي راقي ليقول أن الحب والتصوف في الحب يفعل الأعاجيب ،فرغم أن الشيخ صنعان قد حج إلى بيت الله الحرام خمسين مرة لكنه ما أن يبصر تلك الفتاة الأرمينية حتى يعشقها ويكابد ويعاني في سبيل عشقه الأمرين إلى أن يصل إلى ابتغائها إلى أرفستان ، حتى بعثه والد الفتاة راعياً للخنازير لكن بعد المكابدات يعود إلى رشده ، الشاعر ” فقيه طيران ” يريد أن يقول أن لا فرق لدى المتصوفة بين دين ودين وعقيدة وأخرى طالما أن كل تلك الأديان والعقائد تتوجه إلى الله المتعال الأوحد فالهدف واحد وإن تعددت الأسباب والوسائل ، وهذه هي نظرية وحدة الأديان لدى المتصوفة وعشقه لتلك الفتاة الأرمينية هو الاعتقاد بان جمالها من جمال الله فما من جمال إلا يكون الله هو الذي أفرغه في جسمها ووجهها مثلما جاء في كتاب ينابيع الشعر الكلاسيكي للأديب الكبير رشيد فندي وهكذا أشعاره تعتمد في مضمونها أسلوب الحوار كمحاورته الشعرية مع البلبل ومع النهر وهنا يعني نهر دجلة بواقع حال نفسي وفكري عميق لا يمكن إنكاره وهي محاولة لإظهار الرؤى والعشق وفي نفس الوقت لا تنطوي على قدر من الجنون بل إلى الحكمة والحب والجمال ” أيها النهر من فرط عشقك ومحبتك ” النهر كائن يأسر الشاعر من النواحي الذهنية والحسية والخيالية الخلاقة بوصفه مكاناً يمكن كشفه مثلما يستكشف أي مكان فهناك أشياء في العالم الخارجي للنهر وفي المجال اللا مرئي دون تحفظ يحاول حل لغز تحرك الأمواج ” تتراشق بالأمواج بعيداً ” يحرص الشاعر فقيه طيران على تتبع انعكاس النهر على العالم الخارجي فإن جمال الصورة الشعرية ونجاحها قوة فكرية يسعى من خلالها للكشف عن نفسه من تراشق الأمواج بعيداً ومن عدم السكون والراحة هذه الديمومة المستمرة إلى ما لا نهاية توحي بتناقضات عدة ” لا سكون لك ولا راحة ” والنتيجة ليست قلقاً وعسراً بل يكون تخبطاً يخرج من نطاق السيطرة التي تتخلل عبر عبارات ضمنية للذات الداخلية التي تعكس بعض مجرياتها على صورة النهر .
(( أيها النهر ،أيها النهر
من فرط عشقك ومحبتك
أنت تتراشق بالأمواج بعيداً
لا سكون لك ولا راحة ))
ومهما كانت رغبة الشاعر في تقديم تعبير أصيل وعذب وعميق فإن الشعور ينعكس وينكشف بكل جلاء خاصة في المعنى المباشر للكلمات الذي يمس القلوب ويوحد دلالات مشتركة من العشق والتساؤل والعطف الإنساني ” أنت عاشق لصاحبك ” وهذه الإيحاءات لم تسلم من التأثير النفسي صب شرود الشاعر باندماج ” النهر والقلب ” فقد يحدث توحداً بمزيج من الارتياح والشكوى فالحوار الشعري رغم هدوءه يأتي قوياً عاصفاً في الجوهر بفعل داخلي يرغمه على اعتلاء منصة ” العشق ” مع دعم صورة عدم السكون للنهر ” بسبب عشق من لا تلزم السكون ؟ ” تتجلى الرؤية هنا من دون عناء فالنهر دون سكون والعشق صوت القلب دون سكون وهذا السكون المراد ليس مرده خشوع الملائكة بل وهج العشق الإنساني فإن جريان الماء لا يكون مخادعاً أبداً بل يحمل الأسرار ويسترها ويحافظ عليها .
(( ألا راحة لك ولا سكون
أم أنت عاشق لصاحبك
أو أنت شبيه بقلبنا العاشق ؟
يا ترى بسبب عشق من لا تلزم السكون ؟ ))
فهل يحاول الشاعر أن يقول للناس بأنه أو العشق صورة معاكسة للنهر من خلال قول الحقيقة الإنسانية عبر نهر؟ فلا يمكن أن تكون الصورة الشعرية في اللا معقول ولا يمكن أن تكون محض خيال مجرد فقط ، فالفكر الصوفي من شانه أن يبدع ويتألق ويمد الناس بصور ومشاعر وإحساس جميل ،فلا يمكن أن تكون عاطفة صوفية محض انفعال وقتي بل تحتاج إلى مزيد من التفاعل والكشف الذي يأتي عبر تساؤلات ” بسبب عشق من أنت آت ؟” باعتبار مجريات النهر والعشق الضمني يجريان في الفكر والمعاناة والإحساس رغم التباين بين حقيقة الإنسان الداخلية وحقيقة العشق والنهر الخارجية وعدم إنكارها عبر حوارات شعرية وأيا كانت درجة الحوار فهي تعكس بوح أوسع كلما تدرج في الحوار من خلال أسئلة كانت مكتومة ” إلى متى أنت تأتي ؟ ” هذه الأسئلة وغيرها محاولة من الشاعر لكشف حقيقة العشق أم النهر أم الذات ؟ فهو يتساءل عما يجري ليصل إلى المعرفة المطمئنة ” اخبرني بمن أنت ولهان ، كي أعرف القصة !!” لكني أتخيل إنه لم يصل إلى المعرفة المطمئنة ما دام النهر يجري وما دام العشق أكثر جرياناً في القلب ،ستظل عملية الكشف مستمرة ومرهونة بالقلب والفكر والإحساس مع الألفة الجميلة للكائنات .
(( بسبب عشق من أنت آت ، آت ؟
إلى متى أنت تأتي وتأتي ؟
أخبرني بمن أنت ولهان
كي أعرف القصة !!؟ ))
إن إدراك الشاعر فقيه طيران وتمكنه من إدارة الحوار الخفي بأسلوب جميل وبرؤية فكرية تتغير بفعل المواجهة الجوهرية أمام النهر بتداخل فعل القلب وخلجات الذات باغتراب واقتراب يظهر على شكل قوة نفسية ومعاناة عشق تسمو بالإنسان في كل صورة تساءل تأتي بخطوات وصور معنية ترافق مضمونها بإحساس وإرادة عفوية وربما تكون خارج حدود النفس لكن نابعة من ذات عميقة بالحب والحياة فلا أحد يعتقد إن حياة شعراء المدرسة الصوفية معقدة منطوية كئيبة بين الكهوف والأحجار بل هي شعلة من الحكمة والجمال والحب والروح الراقية المشعة بسمو الإنسان في أي مكان كان ولأي زمن كان .
فقيه طيران
أسمه الحقيقي حسب المصادر التاريخية الأدبية ” محمد ” وملقب بالمكسي نسبة إلى قصبة مكسي ، تركيا ،ولد سنة 1563م
لقب ” طيران ” نابع من إكثاره من ذكر الطيور والبلابل في أشعاره وله قصيدة مطولة على شكل حوارية جميلة عن البلابل وفقيه طيران تترجم إلى فقيه الطيور باللغة العربية
من أعماله الأدبية :
مجموعة من القصائد الجميلة تكفي لكي تكون ديواناً كاملاً
الشيخ الصنعاني وهي قصة شعرية جميلة تتكون من ” 313-314″ رباعية شعرية طبعت في موسكو عام 1965من خلال الباحثة السوفيتية ” م . رودينكو ” .
برصيص العابد وهي مخطوطة يقول عنها الباحث عبد الرقيب يوسف الذي حصل عليها من خارج العراق ،إنها عبارة عن “422” بيتا شعرياً وهي على شكل قصة شعرية .
ملحمة دمدم تروي هذه الملحمة قصة بطولية لاعتصام الأمير الكردي ” خان ذو الكف الذهبي ” في قلعة دمدم وهجوم الشاه الفارسي عباس عليه وعلى قلعة دمدم في عام 1608م وهي ملحمة واقعية مدونة في كتب التاريخ الكردي والفارسي ، قام الشاعر فقيه طيران بنظمها شعراً .
زميل فروش أي بائع السلال وهي قصة غرامية لطيفة بين أمير كردي ارتضى حياة الفقر والتزهد واتخذ من بيع السلال مهنة له لكن امرأة كردية ” خاتون ” فائقة الجمال تقع في حبه وتطلب منه مبادلتها الحب ولكن ذلك لا يلقي جواباً من لدن بائع السلال .
رغم وفاته يعتبر مجهولاً لكن تذكر المصادر التاريخية إنه توفي بعد عام 1640م قبل أن ينظم الشاعر الكردي الكبير أحمد خاني رائعته مم وزين بين عام ” 1651- 1707م ” .
***************************
كتاب – فرحة السلام – من الشعر الكوردي الكلاسيكي ، دعوة للمؤسسات الثقافية والشخصيات الثقافية المعنية لطبعه ، لعدم إمكاني طبعه .. عصمت شاهين دوسكي ، 07510324549