عفرين تُستباح

 حيدر عمر
في ذكرى مجزرة حلبجة 
تُنحَر عفرين من الخاصرة. 
اختلط في سمائها هدير القاذفات و صيحات المرتزقة.
تنشر الموت على الأرصفة.
في شوارعها تكدَّست جثامين مئات الورود و الفراشات.
و من خاصرتها تدفَّقت أنهار الدماء.
و يعلو صراخ أطفالٍ أرادوا الحياة.
غابت عنهم دندنات الأمهات.
غابت عنهم أفراح نَوْروزَ، لا فرحٌ بثياب العيد زارهم،
ولا ألعاب الأشقياء الصغار.
تجرَّعوا الموت، لا قِطعَ الشوكولادة و لا سكاكر الأعياد. 
*** ** ***
طفلٌ بين ذراعيْ أمه في الرمق الأخير:
أماه لِمَا نحن هنا في العراء؟
أماه أين “ليان”؟
أين ابنة الجيران؟
أين الصديقات و الأصدقاء؟
أابتلعهم هذا الفضاء الذي يضيق؟! 
*** ** ***
أين خِرافي التي كنت ألعب معها في المرعى؟
 أين أطفال القرية؟
لا أسمع ما كان منهم من ضجيج.
لا أسمع ثُغاء خِرافي، و لا زقزقات العصافير.
لا أسمع نباح كلاب القرية، و لا صوت ناي الرعاة. 
أسمع هزيز الريح. 
أسمع صوت الرعود و تهطال المطر. 
أسمع لهاث هذي الجموع و بكاء الحجر. 
أسمع سعال الجرارات و أنين المتعبين.
أسمع عواء الذئاب الجائعة.    
*** ** ***
أماه: ما هذا النداء،
“الله أكبر”؟
على وَقْعِهِ يُدمْدِمُ الرصاص، و تنتشر الأشلاء.
أماه! كم قلتِ لي: إن الله رحيم بالعباد!.
كم قلتِ لي: إن الله يحب الأطفال و العصافير و الفراشات!
كم قلتِ لي: بسملْ يا ولدي، ففي ذاك رِفقٌ و رحمةٌ و سلامٌ يسعُ كلَّ الجهات.
و في ذاك طمأنينة لقلبك الصغير.
كم قلتِ لي: حمدلْ يا ولدي، ففي ذاك طوق النجاة! 
كم قلتِ لي: حوقلْ يا ولدي، ففي ذاك دِفْءُ الحياة! 
ألم تقولي: هو الله يرى كل الناس و كل الأشياء؟
هو الله يحمي العباد، يحمي الأبرياء.
هو الله إن دعوناه، فسوف يستجيب الدعاء. 
أماه: أين ذاك الإله؟
أين ذاك الإله، لا يستجيب و لا يراني في هذا العراء؟. 
*** ** ***
أماه: ما هذا الإله الذي يُذبَح الأطفال على إيقاع اسمه؟
ما هذا الإله الذي يسلبون باسمه ألعابي؟
ينهبون ضيعتي و دجاجاتي؟ 
ها إني بَسْمَلتُ و حَوْقَلتُ و حَمْدَلتْ،
بعيداً هرولت الرحمة،
و اشتدت الكارثة، اشتدت الكارثة.
و كل تكبيرة غدت مقصلة
أكاد أختنق يا أماه! أمَا من جرعة ماء
أطفئ بها لهيبَ الفاجعة؟!
*** ** ***
ولدي، يا عين أمك!
خذها يا ولدي، هي آخر جرعة في المطرة. 
بلِّل بها شفاهك واترك بعضها لأختك الصغيرة. 
ولابنة الجيران، التي تكاد تتيه عن القافلة. 
و العجوز التي تحبو هناك بين أكوام الحجارة.
وقد أضاعت معيلها بين الجموع الزاحفة. 
و المرأة التي تبكي وليدها الذي قضى.
و تلك العروس التي تنتظرعريسها الذي مضى. 
*** ** ***
لكن يا ولدي! ما هذه الأسئة؟
ألستَ صغيراً على هذه الأسئلة؟
أم كبَّبرتْك الكارثةُ رغم سنِّك العاشرة؟
أم أحمل بين ذراعيَّ رجلاً أرضعته أمه الفلسفة؟
أسئلة تعجز عنها حكمة الرجالْ
و ليس لها في جعبتي أيَّةُ أجوبة.
تأبَّطوا أوراقَهم، أقلامَهم، راياتِهم، و ضجيجَهم.
لاذوا بعيداً مَن عندهم أجوبة. 
نعم. لاذوا بعيداً من عندهم أجوبة.
سقطوا تحت نعال مقاتل و مقاتلة. 
  ***  **  ***
16. 03. 2018

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

المهندس باسل قس نصر الله
حين زرتُ المقابر المسيحية لأول مرة – ولسببٍ لا أذكره اليوم – كنتُ في العاشرة من عمري. هناك، بدأتُ أمارس ما كنتُ أظنه معرفة بالقراءة … فصرتُ أقرأ أسماء الموتى على القبور، أتهجّى الحروف واحداً واحداً، وأربط أسماء العائلات بأسماء أصدقائي المسيحيين. وكنتُ أعود إليهم أسألهم عن تلك الأسماء، عن الذين…

أحمد مرعان

رحلةُ سقوطِ الوعي بين بريقِ المصلحة وبهتانِ الحقيقة؛ كان المثقفُ أيامَ النقاءِ والتضحيةِ نبضَ الوعي الجمعي في جسدِ الأمة، وصوتَ العقلِ حين تسكتُ الأصوات، يسيرُ في الدروبِ المظلمةِ حاملًا شعلةَ النور بالفكرِ والوعي، بقدسيةِ إعلاء كلمةِ الحق، ينيرُ بها القلوبَ والعقولَ قبلَ الطرقات، مغامرًا بنفسِه إلى السجونِ والمعتقلات، وربما يكونُ ضحيةَ فكرِه ورأيِه، يؤمنُ…

هند زيتوني| سوريا

كي تتحدّث مع الأموات بإمكانك الذهاب إلى مدينة المنجمّين الشهيرة في كاساديغا بولاية فلوريدا الأمريكية هناك يستطيع الوسيط أو الـ (Medium) أن يجعلك تتصل بالأرواح، أمّا إذا أردت أن تستمع لحديث الشاعرات اللواتي تربّعن على عرش الموت، فما عليك إلاّ أن تقرأ كتاب “بريد السماء الافتراضي”. هناك الموت لا يعني التلاشي ولا…