لغة الأب لا لغة الأم

د. ولات ح محمد 
    مازال كثيرون يستخدمون خطأً مصطلح لغة الأم  (Zimane dayike) عنما يريدون الإشارة إلى اللغة الأصلية للمرء أو يرغبون في الاحتفال بيومها الذي خصصته لها اليونيسيف احتفاءً بها وتقديراً للغة الإنسان الأصلية التي من حقه التحدث والكتابة بها والمحافظة عليها من الامّحاء وتشجيعاً له على تحدي الظروف التي منعته من ممارستها كما حصل مع الكورد مثلاً. هذا الخطأ في الاصطلاح أدى إلى خطأ آخر وهو التغافل عن كونها لغة الأب وليست لغة الأم.
    الحقيقة أن المصطلح الصحيح هو اللغة الأم وليس لغة الأم. وللتوضيح سأورد بعض الأمثلة فيما يأتي وسأمر على بعض الاحتمالات التي تجعل من استخدام مصطلح (لغة الأم) نكتة. مثلاً إذا كان طفل ما يتحدر من أب كوردي وأم فرنسية فسيكون كوردياً بالتأكيد (لأن الطفل ينتسب إلى أبيه) وستكون اللغة الأم بالنسبة إليه هي الكوردية من دون منازع. أما لغة الأم بالنسبة إلى ذات الطفل فستكون الفرنسية. إذا احتفل هذا الطفل بلغة الأم فسيحتفل باللغة الفرنسية أما إذا احتفل باللغة الأم فسيحتفل باللغة الكوردية. 
    من جهة ثانية قد تكون الأم كوردية ولكنها تتحدث العربية أو الإسبانية أو الإنكليزية مثلاً (لأنها لأسباب معينة لا تعرف التحدث بالكوردية). في هذه الحالة تكون لغة الأم بالنسبة إلى الطفل هي الإسبانية أو العربية أو الإنكليزية أما اللغة الأم بالنسبة إليه فهي الكوردية فقط، بغض النظر عن اللغة التي تتحدث بها أمه. المقصود بتخصيص اليونسكو هذا اليوم للاحتفال باللغة الأم هو تقدير اللغة الأصلية التي ينتمي إليها الشخص لا لغة أمه، لأن تلك الأم ستحتفل بلغتها الأم الخاصة بها التي قد تكون فرنسية أو إنكليزية أو إسبانية أوعربية. وفي هذه الحالة ستكون لغة أم الطفل مختلفة عن لغته الأم، وسيحتفل كلٌ منهما بلغته الأصلية التي تعود إلى الانتماء القومي للأب لا إلى انتماء الأم.
    هنا سأشير إلى بعض المفارقات التي تحْدث في حال إصرارنا على استخدام (لغة الأم): مصطلح (لغة الأم) يشبه (عيد الأم) من جهةِ أنهما يخصانها. وإذا اقتنعنا بهذا الاستخدام علينا مقابل (لغة الأم) وللإنصاف أن نقول (لغة الأب) أيضاً. من ناحية ثانية يقال عادةً: “فلان يتحدث بلغته الأم”. وإذا اعتمدنا مصطلح (لغة الأم) فينبغي حينها بدلاً من ذلك أن نقول: “فلان يتحدث بلغة أمه”. ومن جهة ثالثة إذا كان الوالدان ينتميان إلى لغتين مختلفتين فبأيهما سيحتفل المرء: بلغة الأصل والقوم والانتماء القومي (وهي لغة الأب) أم بلغة الأم؟. فإذا كان الكوردي أمه فرنسية مثلاً فعليه حسب (لغة الأم) أن يحتفل بالفرنسية وليس بالكوردية؟.
    بناء على ما سبق يكون المصطلح الصحيح هو (اللغة الأم) التي تدل على اللغة الأصلية للإنسان وعلى لغة القوم الذي ينتمي إليه وليس (لغة الأم) التي قد تكون أية لغة أخرى حسب انتماء الأم القومي أيضاً. وبما أن تحديد نسبة الإنسان إلى قومية ما أو عرق يتم حسب انتماء الأب وليس حسب انتماء الأم كما هو معرف في كل أنحاء المعمورة، فإن اللغة الأم للإنسان هي لغة الأب وليست لغة الأم.  
    إنها، إذن، اللغة الأم وليست لغة الأم. اللغة الأم (الأصل) التي تضاف إليها كل اللغات الأخرى التي يتعلمها المرء في حياته. وهي في النهاية لغة الأب الذي ينتسب إليه الابناء، أو لغة قومه (بغض النظر عما إذا كان الأب ناطقاً بها أم لا). ولكنها في كل الأحوال ليست لغة الأم التي قد تكون من قوم آخر وتكون لها لغتها الأم الخاصة بها أيضاً. 
    بقي أن أشير إلى أن مصطلح اللغة الأم مترجم عن الإنكليزيةMother Language ويشبهه من عالم الكومبيوتر Baord Mother: الأولى هي اللغة الأم وليست لغة الأم، كما أن الثانية هي اللوحة الأم وليست لوحة الأم. وبالتالي، وهذا هو الأهم، يكون المقابل الصحيح لها كوردياً هو  (Zimanê dayik) ne (Zimanê dayikê).
    

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…