ابراهيم محمود
من المعايير الدالة على وجود مجتمع حي، ومتفاعل مع الحياة، ذلك المعيار الوصفي ” مجتمع الكتاب “: المجتمع الذي يسهم في عملية البناء الفعلية لقواعده، وتوطيدها، وتفعيل روح الإبداع والنمو في المجالات كافة، ولقد وردت في القرآن عبارة لافتة دالة هي” أهل الكتاب “، والتي تضفي قيمة اعتبارية على الكتاب الذي يمثل انعطافة نوعية في المجتمع من وضع إلى آخر مغاير له كلياً .
الكتاب بداية فاصلة بين ما كان وما هو منشود، من خلال معلوماته، حيث لا مبالغة في القول بأن إنسان الكتاب هو وحده من يشغل موقعاً منتجاً، بقدر ما يستولد تلك الطاقات التي تعرّفه بنفسه ذاتياً، وللعالم، لا مبالغة في القول بأن العالم في تفاوت مراتبه ليس أكثر من فعل الكتاب، لا مبالغة في القول: قل لي أي كتاب تقرأ، أو تؤلّف، أقل لك من أنت، لا مبالغة في القول بأن العالم لا يعدو أن يكون عالم سباقات الكتاب !؟
والحديث، كما يعلم أهل ” الحديث ” هنا، أكثر من ذي شجون، حيث لا يعني وجود كتاب مع شخص ما، أو يُرى معروضاً في واجهة مكتبية معينة ” والمكتبة نسبة إلى المكان الذي يضم الكتاب، بداهةً “، لا يعني أنه معطى حق الاسم في التعرف إليه: قراءة واستثمار محتوى.
وإذا كان المعني بوضع الكتاب عموماً، على بيّنة معلومة، أن وضع الكتاب بائس في المنطقة عموماً- أيضاً- وفي ظل الأوضاع التي لا يعلّم حتى المعني عن قرب بها مآلها الاجتماعي والسياسي، يكون الوضع أكثر بؤساً، كما في العالم العربي، فإن وضع الكتاب الكردي: أي ما هو مكتوب بالكردية وبلغة أخرى، وما أصبح في حوزة الكردي: مكتبة، وبين يديه واقعاً، لهو في وضع مزر ٍ تماماً تماماً .
وما كنت لأتحدث عن الكتاب ” هنا ” حيث أقيم عرَضاً في إقليم كردستان منذ قرابة سنتين، وفي ” دهوك ” تحديداً، وبالطريقة اللافتة- ربما – لمن يتابع مسألة كهذه من زوايا مختلفة، وقد أمضيت عقوداً زمنية لا بأس بها مع الكتاب: قراءة وكتابة، وبتواضع، إلا لأن المشهود له ” كتابياً “، قبل الغزوة الداعشية الإرهابية للإقليم وراهناً، يشكل انعطافة خطيرة، تتمثل في مدى الجور الملحق بالكتاب، وذلك من خلال المتابعة، والتنقل بين الأمكنة لضرورات معينة، لها أتم الصلات بالكتاب وكيف يقيم أو يتحرك بمعنى ما.
من العلامات الفارقة في الإقليم وجود عشرات الجامعات، وهذا ثبْت علمي، ثقافي، ربما يندر وجود مثيل له حتى في دول كبرى، إذ ليس من مدينة كبيرة ” محافظة ” أو صغيرة ” منطقة، ناحية: زاخو، آكَري ..الخ “، إلا ويوجد فيها أكثر من جامعة ومعهد، وفي الحساب السريع يعني وجود مكتبة وأكثر للمتابعة ضمناً، ويعني أن كل مكتبة تضم آلاف الكتب إن لم تكن عشرات آلافها أحياناً .
ومن زاوية مرصادية: توجد مراكز ثقافية، وروابط واتحادات ثقافية ” اتحاد الكتاب الكرد “، ومديريات للثقافة، ومؤسسات ثقافية كذلك، تضم مكتبات ضخمة” كما لاحظت ذلك، وفيها كتَب لا تقدَّر بثمن، أي ميزانية مخصصة لها، سوى أن المحصَّل هو أن القائم، هو العنوان، الاسم في المجمل.
ما أكثر الملاحظات والشكاوى التي سمعتها من أشخاص لهم صلة بـ ” سوق الكتاب “، ويعملون على إدارة المكتبات، لا تخفي وجعاً، وفي موقع الإدانة لما يجري عكس ” السير ” المطلوب ثقافياً ومعرفياً، ما أكثر ما سمعت من أسئلة، وما لمسته من علامات تعجب أو حتى استغراب من قبل الذين تعرفت إليهم عن قرب وهم يجدون فيما أنا عليه مصاباً بداء الكتاب الذي لا برء منه، وكأن بي لوثة، أو ربما ” غاية ” معينة: كيدية، ليس حباً بالكتاب بل كرهاً فيه، ولجهات تهتم بالكتاب ” هنا ” لغرض مختلف، جرّاء هذا الانهمام المغاير كلياً تقريباً، وكما هو عهدي بالمركز البحثي الجامعي الدهوكي الذي عملت فيه لبعض الوقت، وما زلت أتردد عليه، استجابة لهذا الداء الفظيع ” المشبوه “، حيث يعيش الكتاب حِداده الطويل، وهو يتلفع بالغبار، أو يبقى منطوياً على نفسه لا تُفتح صفحاته، أو يُحرَّر من فعل لصق الصفحات، أو يعطى حتى القدر القليل من الاعتبار، أي على مستوى القراءة المطلوبة طبعاً .
هنا، نادراً، ما تعثر على جريدة أو مجلة، أو مطبوعة إعلامية وثقافية محلية تعريفاً بالكتاب صادر حديثاً، ومن خلال تجربة، وإن وجدت، فاعلم جيداً أن ثمة استرضاء معيناً لصاحبه أو لجهة معينة، أو لأن ثمة توجيهاً يتركز عليه، أو ما يُدفع عليه غالباً، أي لا يكون الكتاب المعرَّف به نفسه في وضع آمن ثقافياً.
هنا، نادراً، ما تشاهد في برنامج تلفزيوني برنامجاً ثقافياً فعلياً، يتوخى البعد الثقافي الكتابي، ومتابعة للكتاب وشئونه، وحلقة إدارية بشأن كتب تترى، ولفت الأنظار إلى مدى الحاجة إلى الكتاب، وخصوصاً بالنسبة للكرد، حيث تبرز أمية الثقافة علامة تبريز ثقافية كثيراً، كما لو أنها في موقع التحدي لمن يروم اختلافاً .
هنا، في دهوك، مثلاً، ثمة المكتبة القديمة للكاتب المعروف والمخضرم ” أحمد زَرُو ” قريباً من تمثال ” أحمد خاني “، وفي موقع معتبَر، ثمة آلاف الكتب، يندر وجود متردد عليها، حتى بالنسبة للكتب الأحدث صدوراً: بالعربية والكردية ” من واقع تجربة شخصية قبل عدة أيام” من الآن “، أعلمني أن هناك مجموعة كتب جاءته من مراكز نشر كردية في تركيا : استانبول ” وشمال كردستان، اطلعت عليها، وهي تضم ذخيرة أدبية من الروايات والقصص والشعر والدراسات بصورة أقل، وأبدى لي ملاحظة، أنها ستبقى هكذا ولن تقرأ، وتبيّن لي ذلك من خلال مجموعة سابقة، اقتنيت عناوين مختلفة منها قبل مضّي سنة، والبقية على حالها تماماً، وليعلمني أيضاً وبمرارة أن لا أحد يقرأ الكتاب هنا..”، وهذا ينطبق غالباً طبعاً على كل من مكتبة ” جزيري، وكَازيGazî “، وغيرها، وتضم أحدث الكتب بالعربية والكردية..
هنا، وكون ” هنا ” لها اعتبارها القيمي والسيادي بصورة ما، لا يجب علينا غض النظر عن المصير المزري، كما تقدم، للكتاب، ودلالته، وحيث الكرد في واجهة مرصودة من المعنيين بالمستجدات عموماً، والكردية منها خصوصاً، حيث الكتاب عمارة الروح المأثورة، لا يجب علينا تجاهل مدى التمثيل بالكتاب، وكيف يتم الإعداد لفعل الإيقاع بالكتاب، ليكون الكرد مرحَّباً بهم من ذوي من لا يريد للكتاب خيراً.
هنا، لا يستعرضن أحد قواه أو يقدّم خدماته الشعبوية للجهات ذات الشأن، كما أتمنى وأتوقع، بأن في الكتابة هذه غمزاً ولمزاً، لحظة الإشارة إلى عشرات الجامعات والمعاهد، والكتاب الذي يحال إليها، والكتاب الذي يجري إعداده بمثابة أطروحة جامعية، وفداحة المحتوى: مضموناً معرفياً وأخطاء نحوية وغيرها، كما لاحظت من خلال نماذج مختلفة في المركز البحثي السالف ذكره، حيث بالكاد يتنفس الكتاب .
هنا يكون المهتم بالكتاب الفعلي في وضع غير محسود عليه في الاتجاه المعاكس لما هو منشود عملياً !
هنا، وكما لاحظت في معارض الكتاب ” معرض الكتاب العربي في هولير “، تابعت مدى الإقبال على نوعية معينة من الكتب ” دينية خاصة، وفي كراتين، ومدى توجهاتها، وكيفية إدارة أمورها، وقول ذلك لا يعني تثبيت ملاحظة على هذا الإجراء من موقع ” الذمّ “، وإنما، وكما الحال في مدن أخرى ” عربية ” في هذا الاتجاه، وصلات القربى، ودور الكتاب الديني في تفعيل سياسات وتعميق رؤى، وتوجيه مشاعر وتصورات صوب مواقع لا أظن أن الكرد عموماً، وفي الإقليم في وضع يمكن الطمأنة عليه .
هنا، أكاد أقول، إن عدد الذين يقرؤون الكتاب، لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة قياساً إلى الحضور الديموغرافي والعلمي الطابع، وأنا كاتب هذا المقال ذي الغرض الخاص، محسوب عليها، رغم أن صفة الكردستانية لم تشملني بعد واقعاً، وهذا يعني إخراجي من تلك الدائرة الحسابية المحدودة .
هنا، يستمر عزاء الكتاب وما يُتخوَّف منه في النتيجة، حباً بالكتاب، وبالمكان الجغرافي الذي أشرت إليه ببنان مصاب بداء الكتاب !