المثقف الكردي في مهب التحولات الدراماتيكية: واقع و آفاق ومهمات

إبراهيم اليوسف

يسجل للمثقف الكردي-وهنا أعني ذلك المثقف الفاعل- أنه ومنذ أن تمزقت خريطة وطنه إلى أربعة أجزاء، كان في طليعة حملة  جمر المقاومة، بأشكالها المتعددة، ، في الأجزاء الأربعة، على حد سواء.حيث كان الشيخ سعيد بيران مثقف عصره، كما كان القاضي محمد مثقف عصره، وكما كان الملا مصطفى البرزاني أو جلادت بدرخان أود. نورالدين ظاظا أو عثمان صبري  وغيرهم وغيرهم من الراحلين، ناهيك عن الأحياء، مثقفي عصورهم،  وقد أشعلوا وطيس الثورات في ثلاثة أجزاء منها، وكان غربي كردستان ذا وضع خاص، من حيث إمكان شعبه  الانتفاضة في وجه الطغاة، أو الثورة عليهم،  حتى  مطلع الألفية الجديدة ، بسبب طبيعته الجغرافية، بيد أن  مثقفه، أي مثقف غربي كردستان – وهوالسياسي- أو الثقافي الصرف،  دأب أن يؤدي ما يطلب من دور منه،، مع سواه من أهله، تبعاً لظروفه، في مواجهة أشرس استبداد شوفيني في التاريخ على الإطلاق..
ولعل الأسماء تكثر في كل جزء  من كردستان مقطعة الأوصال، على  مصلب سايكس  بيكو، كما أن الأمثلة التي قام بها هؤلاء، ومنهم من هو الجندي المجهول، تكثر، واستطاعوا أن يستقطبوا أهلهم، من حولهم، ويواصلوا فعل المقاومة، عبر الأشكال المتاحة، دافعين  ضريبة ذلك غالية، من أجل ذلك،  فكان أن أودعوا في غياهب السجون، ونالوا صنوف التعذيب، كي لا تقوم لهم قائمة، حيث انتبهت الأنظمة الشوفينية، المحتلة لوطنهم الأم، أن “ألفباء” محو هوية الكردي تكمن في محو ثقافته، وهو ما لا يتأتى إلا عبر محو لغته، ما جعله عرضة للتفريس في ما تسمى ب”إيران” الحالية، وللتريك في ما تسمى ب” تركيا الحالية” وللتعريب في تسميا ب” العراق”  وسوريا”.
 ومن هنا، فإن ضبط مجرد أغنية، أو ألفباء كردية، أو قصيدة حب مكتوبة باللغة الكردية الأم لدى أحد الكرد في كردستان سوريا- حيث سنركز الحديث هنا على هذا الجزء الكردستاني- كان يؤدي إلى مواجهته بشراسة كبيرة، ليتم اعتقاله، بتهمة دعوته إلى اقتطاع جزء مما تسمى ب” الجمهورية العربية السورية” ، وهي” الجمهورية السورية”،     بعد أن  حور الاسم في مختبرات شوفينيي النظام ، الحاكم، المتعاقبين، واحداً تلو الآخر،  أي الاسم  المرافق للمسمى” وليد 1932،وهو أيضاً قد تم دون إرادة الكردي، وإن راح يسعى من أجل بناء سورياه، هذه، منذ لبناتها الأولى، بيد أن المثقف الكردي- وهو الرائد- لم تلن له قناة، حيث ظل يناضل من أجل خصوصيته، أنى كان ثمن ذلك، ما جعل المثقف الكردي، من عداد طليعة حملة رسالة أهلهم، بلا هوادة، وما أكثر الأسماء..!.
وإذا كان المثقف الكردي في سوريا قد التزم بهمه القومي، لاسيما في ظل ممارسة سياسة التعريب بحق شعبه، على امتداد عهود الدكتاتوريات، المتعاقبة، بحيث أننا لوعدنا إلى تاريخ السجون في سوريا لوجدنا أن أغنية التحدي الكردية، لم تنقطع عن الترديد وراء قضبانها البتة، وما من جيل من  المناضلين السوريين في وجوه سياسات أنظمتهم الدكتاتورية، إلا وكان معهم بعض المناضلين الكرد، وقد كان لمثل هذا الاعتقال خطه البياني الذي ارتفع في ظل الدكتاتوريات، باستمرار، إلى أن وصل إلى أعلى درجاته في ظل نظام بشار الأسد.
وما ميز المثقف الكردي، الملتزم، على نحو خاص، شأن الكردي المدرك لخصوصيته القومية، عن وعي، أياً كان، داخل السجن وخارجه،  أنهما عملا في اتجاهين، حيث التزما برسالتهما القومية، كما أنهما التزما برسالتهما داخل سوريا، كوطن، راهن،  ولطالما التقيا مع صنوهما السوري، حول النقاط المشتركة، في مواجهة سياسات الأنظمة، على نحو جزئي، أوكلي، إذ لم تخل صحافة الحزب الكردي- في الإطار العام- من نقد سياسات النظام، من موقع المعارض، ولا يغيب عن بال المتابع للشأن السوري، أن الكرد هم من عداد الأوائل في تنظيم التظاهرات في قلب دمشق، كما في مدنهم، ولم تكن هناك مظاهرة سورية، إلا وكان للكرد حضورهم البارز فيها.
    ومن   يعد إلى بدايات ما سمي ب” ربيع دمشق” فإنه ليجد أن المثقفين الكرد، تفاعلوا معه، على نحو كبير، من خلل كتاباتهم التي راحت تعرِّي مفاسد النظام، وجرائمه بحق السوريين، ومن بينهم الكرد، ولعل هذا الخط الذي اتخذه بعض المثقفين الكرد، لما يزل مستمراً، وكان له دوره الكبير في استنهاض الهمم، والتحريض ضد آلة النظام، لاسيما في المحطات المتعاقبة: 12 آذار2004- واختطاف ومن ثم اغتيال الشهيد محمد معشوق الخزنوي- 2-11-2007-20 آذار2008- ومروراً بمواجهة المراسيم العنصرية التي استهدفت المناطق الكردية، تحت هذه الذريعة أو تلك، وكان لهذه الكتابات التي كتبها عدد من المثقفين الكرد أثرها الكبير، وقد استهدف النظام هؤلا المثقفينء، إما بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، عن طريق بعض أدواتهم التي كانت تعمل عنهم، في التشويش، كما تم ذلك-جلياً- ضد الشهيدين الخزنوي و التمو كمثالين فحسب.
وبعد اشتعال أتون الثورة السورية، فإن الكثيرين من المثقفين الكرد، انخرطوا فيها مع أهلهم ، بعد أن ترجم الشباب الكردي مشاركته في الثورة، على نحو لافت، حيث هبت: قامشلو-عامودا- تربسبي- سر ي كانيي- دربيسيي- تربسبيي- ديرك إلخ  كما شقيقاتها: كوباني عفرين، وإن بشكل متدرج، من حيث التواقيت، بيد أن ذلك الخطّ الثقافي الذي ناوأ النظام، ظل عبر أكثر ممثليه حاضراً في أتون هذا الحراك، وانضمَّ كثيرون إليه، من أصحاب الأسماء الجديدة التي شقت طريقها، بدأب، وجسارة، في تواز مع بركان الشارع الكردي، بيد أن محاولات إسكات أصوات المثقفين، سرعان ما ظهرت على نحو أشرس، وأكثر وضوحاً، عبر استهداف التمو، وكان ذلك بمثابة رسالة إلى المثقفين الكرد،  إذ سرعان ما تصادت أصوات الجوقات المشوشة، على هذه الأصوات، بأشكال عديدة، في محاولة وأدها، لاسيما أن ذلك تم في موازاة مع خط إسكات الحراك الشبابي، إما عبر استمالته، وشراء ذمم بعض رموزه، أومن خلال مواجهته، ومحاولة إطفائه، ما اضطر الناشط، كما المثقف، إما إلى الهجرة، أو السكوت، أو الانصراف إلى نقد من هو عديم الأذى، أو الصمود، في حدود الممكن، مواجهاً الاحتمالات المفتوحة كلها.
مؤكد، أن ظروف النضال، في ظل تكاثف “البندقيات” المتضاربة، داخل الوطن، باتت أكثر تعقيداً من أي وقت في تاريخ سوريا، حيث لم يعد هناك طرفان متضادان-فحسب- يمكن اتخاذ موقف من أحدهما، بل إن أي سوري بات الآن في رأس قائمة المطلوبين من قبل أطراف عديدة، ولكن، إن كان في هذا تسويغاً لبعضنا، بيد أن هناك من أسهم في إيصال الأمور، لاسيما في مناطقنا الكردية إلى ما آلت إليه، ناهيك عن أن من لم يقل كلمته-من قبل- لن يقولها الآن- بل وأكثر من كل ذلك أن هناك من راح يستثمر هذا الوضع القائم، من خلال التمترس وراء شعارات محددة، لجني مكاسب شخصية، دون أن يبذل ما يلزم لذلك من مواقف لأجل إنسانه، ووطنه، بل ومحنة جيرانه، شركاء السقف المستعار.
أجل، لا ملامة لأحد، في اتخاذ الطريقة التي يراها، لممارسة دوره الثقافي، حيث أننا لوعدنا إلى زمن كومونة باريس1871، لوجدنا أن هناك من لم يكن إلى جانب الكومونة، بل هناك من عاداها، نتيجة رؤاه، بل تحديداً نتيجة مصالحه، بيد أن الملامة تسجل على من يشوش على سواه، وألا يتركه يعمل، مادام أنه لا يعمل، ويبلغ الأمر أعلى درجات الانسلاخ عن الأخلاق، حين يتم  استقواء  أبعاضهم-وهم جد نادرين- من خلال بندقية غيره، أو غياهب زنزانة غيره، وهو استقواء منبوذ، لا مستقبل له.
ولا يمكن هنا، أن نتحدث بلغة التعميم، عن أنموذج للمثقف الذي وقف مع المظلوم ضد الظالم، أو الضحية ضد الجلاد، عبر موقف أخلاقي، بل أننا أمام مجموعة نماذج، واضحة، لابد َّويتم استقراؤها، من قبل من كانوا شهودا على ما تم،  مادام أن هناك تاريخاً يدون، خارج مدونة  العقل التسويغي الذي انكشف على حقيقته، وإن كان دأبه-خلط الأوراق- وسط غبار الحرب، ورائحة بارودها، والجثث المتفسخة، مؤملاً النفس ببطولات دونكيشوتية، في العراء، على نحو يدعو إلى الشفقة، والرثاء، ناهيك عن الاستهجان.
ورغم كل ماتم، ورغم محاولة أبعاضنا حفر الهوات بين المثقفين، لخلق التنابذ في مابينهم، على إيقاع إيعازات بعض الساسة، لدواع، وأسباب شتى، بل والعمل من أجل تعميق هاتيك الهوات، تحت وطأة شهوة وحام سلطوية، محمومة، ليكون له موقعه، المشخص، لا الثقافي، في المشهد المتحول، وهو طموح محق، إن لم يكن محاولة للارتقاء إلى الطابق الألف، من دون التأسيس، للدرجات الممهدة، بل والأكثر قبحاً هو أن يتم ذلك، ضمن محاولة وأد الآخر، وهو سلوك لم  يظهر البتة، في مرحلة ما قبل الحرب، بل يعد  أحد الملامح القذرة للمرحلة الاستثنائية، ضمن الامتحان العام الذي يكشف-دواخل جميعنا- ولا أقول”معادن” جميعنا، لافتقاد هذا الأنموذج  خصيصة المعدن أصلاً.
لا تزال الفرصة أمام المثقف مفتوحة- وهنا أقصد المثقف الحقيقي لا من يتم إعداده ليكون رقماً لا أكثر في هذه المؤسسة أو تلك- كي يعيد حساباته، قبل أن يغرق في المزيد من وحل المستنقع الآسن، وأول ذلك، من خلال نبذ سوءات الذات، والتفكير الجماعي، مادامت رؤوسنا جميعاً- واقعاً لا مجازاً- مطلوبة، لمجزرة واحدة، أو مقصلة واحدة، أو مقشرة واحدة. حيث نحن في امتحان أكبر، ولابد للمثقف أن يكون القدوة ، والمقوم، أنى انحرف السياسي عن مساراته، و إلا فإن أية ثقافة خارج هذه الرؤى لا تشترى ب”قشر بصلة” إن كان ممثلها لا يحتج على انتهاك حرمة، أو دم قرينه، أو أخيه، ويطلب منه أن يكون مجرد كتاف، مبوِّق، هتاف،  لا أكثر، يردد ما هو ضمن السقف المرسوم له.
أجل، ثمة محاكمة للتاريخ، مقبلون عليها جميعاً، حيث لا تشفع لأحدنا غير مواقفه المبدئية الحقيقية، لاسيما في ما يتعلق بثنائية “الأولويات” و”ما بعدها”، حين يكون التهرّب إلى ما بعدها، قفزاً من فوقها، وحين يقبل أحدنا أن يكون عبارة عن قبضة مستوفزة في يدي السياسي يصوبها حسب مشيئته، في مواجهة” الآخر/ الأنا”، فهو استرداد لتاريخ ” مثقف السلطة”  الذي  بات منبوذاً، لا شأن له، بل بات يسيء إلى  فحوى خطابه وتاريخه، في آن معاً. ومن هنا، فإن هذه التحولات الدراماتيكية التي تجري من حولنا، تلقي علينا بوطء مسؤوليات جسيمة، لابد من أن نكون في مستواها، لأن الأجيال المقبلة، ستتوقف أمام اسم أي مدع ثقافة، لتتساءل: ماذا قدم؟، وفي هذا مدعاة لجميعنا لنعيد  استقراء المشهد الساخن،  من حولنا، وأن نلتم على كلمة سواء، هي كلمة المثقف، غيرالزئبقي، الإمعي،  المتلون بأفانين السياسي- وهنا أعني:  السياسي الرديء الببغاوي المنفعي وحسب- كلمة المثقف التي تمارس دورها التقويمي، لأنها أقرب إلى نبض شعبنا وإنساننا، بل ومستقبلنا جميعاً..؟.
  
جريدة بينوسانو العدد32

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…