الهَجَّانَة

قصة قصيرة

القَذًائِفْ كَانَتْ تَنْهَمِرُ بِغَزَارَةٍ مِنْ جِهَةِ الجَنوبْ فَمَا كَانَ أَمَامَ أَهْلِّ الحَيِّ إِلّا أَنْ يِتّجِهُوا دُفْعَةً واحِدَةً  شَمَالاً, هَائِمينَ عَلى وجوهِهمْ في القِفارِ بَعْدَ أَنْ تَحوّلَتْ مُعْظَمَ أَحْياءِ مَدِينَتِهِمْ إِلى رُكامْ , عائلةْ الجيرانْ التي أَخَذَتْ على عاتقِها التَكَفُلَ بِهِ على الرَغمِ مِنْ أَعباءِهمْ الثِقيلة انضمَّتْ إِلى قَوافِلِ الناسِ الهارِبَةِ مِنْ جَحيمِ المَدينةْ.
 هُناكَ في المنطقةِ الشِبْهِ سَهْلية المُتاخمةِ للحُدودْ تَاهَتْ بِهمُ السُبُلُ وانْقَطَعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابْ, حينَ ظَهَرَ مِنْ خَلْفِ إِحْدَى التِلالِ قَطيعٌ مِنَ الكائناتِ عَلى هَيئَةِ ذِئَابٍ سوداءٍ شَرِسَةٍ,  تَلاهُ  قَطيعٌ آخرٌ توأمْ خَرَجَ مِنْ جَوفِ الوادي السَحيقْ  , ثُمَّ ازْدادتْ قطْعان الذِئَابِ السَوْدَاءِ في الظُهور تِبَاعَاً…..
 دَبَّ الرُعْبُ في نُفوسِهم ْ ..
.كانوا قَدْ سَمِعوا عَنْ شَراهَةِ تِلكَ الوحُوشِ للدِماءْ فَلاذَ الجَميعُ بالفِرارِ في اتِجْاهَاتٍ شَتّى , خِشْيَةً مِنَ الوقُوعِ فِي بَراثِنِهمْ .
  هُوَ بَقيَّ في مَكانِهِ ثابِتاً دونَ حِراكْ رَغْمَ نِداءَاتِ الجيرانِ  و مُحاوَلَتِهمْ جَرّهِ مَعَهُمْ. غَصّةً خانقةً كانَتْ في حَلْقِهِ ,فهو في قَرارةِ نَفسهِ كان َيَحُسُّ بالخزيِّ وَ العارْ لأَنَّهُ لا يَزَالُ عَلى قَيدِ الحياةِ و لَمْ يُرافِقْ والِدَهُ في رِحْلَةِ مَوتِهِ, حَيثُ انتَشَلَهُ المُسْعِفونُ مِنْ تَحتِ جَسدهِ الذي كَانَ مُهَشَّماً تَحْتَ الأَنقاضْ , مِن ْيَومِها لا تَكادُ تَمْرُّ عَليِهِ  ثَانيةٌ وَاحِدة ٌ دُونَ أَنْ يَتَلظّى بِنَارِ الشُعُورِ بالذَنْبْ ,كأنَّهُ هُو المَسْؤُولُ عَن ْمَوتِهِ وَ لَيْسَ مَنْ أَمرَ بِهَجَماتِ البَرامِيلِ المُتَفَجِرَة ِعَلى حيَّهمْ الشَعْبيِّ  في تِلكَ الأُمسيةِ الكَئيبةِ مِنْ عُمرِ المَدينةِ القَابِعَةِ في اللَهيبِ مُنذُ أَعْوامْ .    
أَلْقَى بِنَظَرَاتٍ سَريعَةٍ في شَتَّىَ الاتِّجاهاتْ ,شَعَرَ بِأَنَّ مَساحاتْ الأَرْضِ المُتَرَاميةِ الأَطْرَافِ عَلى اخْتِلافِ تَضَاريسِهَا لا تُريدُ احْتواءَ جَسَدِهِ الهَزيلْ …. تَساءَلَ في قَرَارَةِ نَفْسِهِ: 
لِمَاذَا الهُروبُ إِذاً وإِلى أَينْ؟
نَظَرَ بصَمْتٍ إِلى الفَضَاءِ الفَسيحْ , تَضَرَّعَ لِخَالِقِهِ بِصَوتٍ خَافِتْ… فَتَحَ ذِرَاعَيهْ مُتَلَعْثِمَاً بِكَلِمَاتِ ابْتِهالٍ مُبْهمَة , قَبْلَ أَنْ يَحْسَّ بِأَنَّهُ بَدَأَ يَفْقِدُ وَزْنَهُ تَمَاماً و تَرْتَفِعُ أَقْدَامُهُ عَنِ الأَرْضِ , يَصْعَدُ مُحَلِّقاً في السَمَاءِ بَعيداً بَينَ الغُيومْ. لأَوَلِ مَرَّةٍ  يَنْتابُهُ هَذا الشُعُورُ الغَرِيبْ, إِنَّهُ يَرْكبُ الريحْ ….يُغادِرُ الأَرْضَ و سُكانَهَا في طَريقهِ إلِى حَيَاةٍ أُخْرَى. 
 يَرتَفِعْ …
 يَرْتَفِعُ عَالياً… 
يَمْضِي دُونَ أَنْ يُكلِّفَ نَفْسَهُ عناءَ الاِلتِفاتِ إِلى الوَرَاءْ ….
هُناكَ في نِهايةِ السَمَاءِ سَوفَ يَلْتَقي مَعَ مَنْ يَعْرُفُ ما يَجْري  في السَمَواتِ و الأَرْضِ, مَنْ يَسْتَطيعُ رَأْبَ تَصَدُعَات وجْدَانِهْ دُونَ مُقَابِلْ…أَخِيراً…
 هنُاكَ في نِهَايةِ السَمَاءِ سَوفَ يَهْتَدي إِلى مَكَانِ تَواجِدِ أَبيهِ بَعْدَ أَنْ نَجَحَ في دَفْعِ عَقاَرِبِ السَاعَةِ و اقْتَحَمَ الحاضِرَ ليَلتَفَّ مِنْ خِلالِهِ عَلى المَاضِي ويَسْتَحْضِرَهُ , سَوْفَ يَجْتَمِعُ بِهِ وَ لَنْ يَدَعَهُ أَ
 يَرحَلَ وَحِيداً أَبَدَاً…. أَبَدَاً هَذِه ِالمَرَّة.
 أَطيافُ أَنوارٍ إِلَهيةٍ ,مُتَنَاسِقَةٍ,جَميلة مَلأَتْ الآفَاقْ, اقْتَرَبَ حَتَى لامَسَ بِجَسَدِه ِأَطْرافَ ثَوبٍ نَقْيٍّ ناصِعِ البَياضْ , رَفَعَ بِرَأسِهِ عَالياً ثُمَّ امْتَطَى غَيْمَةً كَثيفَةً بِخِفَة… حَاوَلَ الصُعودَ بِهَا لِيَقْتَرِبَ أَكْثَرْ, ليَتَأَكَدَ بِأَنَّهُ بَاتَ مَرْئِيَّاً….فَقَدْ شَعَرَ بِضَآلةِ حِجْمِهِ و عَظَمَةِ الإِلَهْ… تَوَقَفَ بِخُشوعْ , إنَّهُ في وَاحَةِ الرّحْمَنْ  ,أَغْمَضَ عَينيهِ الإثْنَتَينْ فَأَصابَهُ ذُهُولٌ عَظيمٌ لأَنَّهُ ظَلَّ يَرَى كُلَّ ما حَولَهُ, أَحَسَّ بالدفءِ و الطُمأنينة. كُلُّ شيءٍ كانِ هادئً, صاِمتاً و نَسيمٌ طَيِّبٌ مُحَمَّلُ بالنَدَى لامَسَ خَدَّيْهِ بِرِفِقْ . كَانَ يَحْمِلُ في صَدرِهِ فَيْضَاً مُتَرَاكِمَاً مِنَ الشُجونِ  باِنْتِظارِ مِثْلِ هَذَا اليَومْ ليَبُوحَ بِهِ , لَكنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَفْغَرَ فَاهُ تَذَكَّرَ بِأَنَّ اللهَ سُبحَانَهُ و تَعالَى لابُدَّ أَنْ يَكُونَ  عَلَى مَعْرِفَةٍ كامِلةٍ بِكُلِّ ما يَجُولُ في خاطِرِه ِوما يَنْوي الإفشاءَ بِهِ .غَمَرَتْهُ في تِلْكَ اللحْظَةِ سَعادَةٌ لا حُدُودَ لَهَا , الحُلْمْ المُرْتَقَبْ في اليَقْظَةِ و الَمنامِ عَلى وشَكِ أَنْ يَصْبَحَ وَاقِعاً.
 كُلُّ شَيءٍ كَانَ يَسيرُ كَما يَبْتغَي أَوْ هَكَذَا تَهَيَّأَ لَهُ ,لَكِنَّ مَارِداً ضَخْمَاً ظَهَرَ مِنَ الْعَدَمِ في تِلكَ السَمَواتْ,جَرَّهُ مِنْ قَدَمَيْه ثُمَّ دَفَعَ بِهِ نَحْوَ الأّسْفَلْ…. وَمَضَاتٌ سَريعَةٌ وَ يَرْتَطِمُ جَسَدَهُ بالأّرْضِ الصَلْبَة … يَفْتَح ُعَينَيه…. يَرَى المَارِدَ وَ هُوَ يَحْمِلُ في يَمينهِ سَيفاً مَعْقوفَاً عَلى شَكْلِ هِلالْ ,  حَولَ عُنُقِهِ صَليباً طَويلاً  وَ عَلى رَأسِهِ خُوذَةً مَعْدَنيَةً مَصْقولَةً في أَعْلاهَا نَجمَة ًبِستَةِ رُؤُوسٍ مُدَبَبَة , تتوسطها نَقْشَةُ كَلِمَةِ (الهَجَّانَة).
يَقْتَرِبُ شُرْطِّيِّ الحُدودِ الضَخْمِ الجُثَّةِ وَ هُو يَصْرخُ بِأَعْلَى صَوتِهِ : لَنْ تَمْتَثِلَ أَمَامَ الإِلَهْ بِدُونِ سِمَةِ دُخُولْ ؟
الشُعُورُ بارْتِطامِ جَسَدِهِ بِالأَرْض أَعَادَ إِليهِ رُشْدَهْ , رَمقَ المَسافاتَ المُحيطَةَ بِنَظَراتٍ مُتْعَبَةٍ فِيمَا الذِئَابُ السَوداءْ كَانَتْ قَدْ حَاصَرتْ المَكانَ تَماماً عَلى بُعُدِ خَطَواتٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُ.
فرمز حسين
ستوكهولم
2015-11-13
Stockholm-sham.blogspot.com
    Twitter@farmazhussein

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد حسو

الأغاني والأهازيج الكوردية، والرقص الجماعي الذي يتجلى في تماسك الأيدي خلال الدبكات الكوردية، ليست مجرد طقوس فنية أو تعبيرات عن الفرح، بل هي شهادة حية على حيوية هذا الشعب وإرادته الصلبة. إنها دليلٌ واضحٌ على حبه العميق للحياة، وسعيه المستمر للعيش بكرامة وسعادة، رغم كل مظاهر وأشكال الظلم والطغيان والاستبداد التي حاولت…

سمكو عمر لعلي

مقدمة

لم يكن الحاج أحمد ملا إبراهيم مجرد اسم عابر في تاريخ الحركة الكردية، بل كان رمزًا للنضال والمثابرة من أجل قضية شعبه. وُلد عام 1923 في بلدة عين ديوار، التي تقع اليوم ضمن الحدود السورية، لعائلة مناضلة تمتد جذورها إلى شرق كردستان من اقرباء سمكو اغا الشكاك ، حيث كان والده الملا إبراهيم…

تقرير صحفي: شهدت جامعة النجاح الوطنية يوم الخميس الموافق 20/11/2025 إنجازاً أكاديمياً لافتاً، تمثل في مناقشة رسالة الماجستير المقدمة من الطالبة رجاء رشيد محمود الحلبي في برنامج اللغة العربية وآدابها، جاءت الرسالة تحت عنوان: “روايتا “الحاجز” و”حب في منطقة الظل” للكاتب عزمي بشارة دراسة تحليلية في المضمون والفن”، وقد أعلنت اللجنة نجاح الطالبة وحصولها على…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسَكِي

 

يَا لَيْلُ

أنَاجِي الرُّوحَ وَهِيَ بَعِيدَةٌ

تَلْهُو فِي صَمْتِي الْمَجْرُوحِ

آهٍ يَا لَيْلُ

صَمْتِي كَحَرِيقٍ فِي صَدْرِي

وَجُدْرَانُهُ تَكْتُمُ قَدَرِي

آهٍ يَا لَيْلُ نَوَافِذُ مُغْلَقَةٌ

وَأَبْوَابٌ صَامِتَةٌ

كَتِمْثَالٍ جَمِيلٍ

أُنَادِي وَكَأَنَّ السَّمَاءَ تَسْمَعُ صَوْتِي

وَلَا أَهْجُو أَحَدًا

بَلْ أَهْجُو كُلَّ النِّدَاءَاتِ

يَا لَيْلُ كَمْ طَوِيلٌ هَذَا الظَّلَامُ

كَمْ طَوِيلٌ هَذَا الْخِصَامُ

كَمْ طَوِيلٌ هَذَا الْحُسَامُ

الَّذِي يَقْطَعُ شَرَايِينِي

يَا لَيْلُ لَا أُعَزِّيكَ

وَلَا أَثْرِي بِكَ

وَلَا أُعَزِّي إِلَّا نَفْسِي

مُرَادُكَ…