الأغنية الشعبية الكوردية بين الإهمال والتشويه

 علي شيخو برازي

 
الأدب الشفاهي : هو أهم أنواع الفلكلور وخاصة القصائد الشعبية (الأغنية الشعبية) التي أخذت حيزا كبيرا في حياة الناس , ودوّنت مآثرهم وبطولاتهم ومعاناتهم, وكانت المرآة الأكثر صدقا لماضيهم ولقيمهم الثقافية والروحية, والأعمق تأثيرا في وجدانهم وضمائرهم, وكانت أوسع انتشارا في المجتمع , كونها تحمل مفاهيمهم وتصوراتهم وقناعاتهم الاجتماعية والجمالية .
بعد رحيل الفنانين الشعبيين الكبار أمثال : كاويس آغا – حسن زيرك – گربيت خاو– صديق كارلوا- حسين فاري – جميل هورو – باقي خدو, وغيرهم من الجيل الذي حمل لواء هذا الفن العريق (الأغاني الملحمية والقصائد الشعبية) والذي حافظ على هذا اللون من الأدب الشعبي, بكل أمانة ومسؤولية ورفع من مستوى الفن وقيمة .
الجيل الذي توارث الغناء الملحمي والشعبي عن آبائه وأسلافه بكل حرفية , مدركا أبعاد هذه القصائد الخالدة, لذا حفظه دون تشويه ودون المسّ بجوهر القصيدة, التي تطرح مشكلة اجتماعية وأحيانا سياسية بحتة كملحمة (درويشي عدي) , ناهيك عن إدراك هذا الجيل للموسيقى , ورغم أميته  الموسيقية كان يعرف الكثير من المقامات ويتقيد بها, و بالعلامات الموسيقية عند البدء بكل أغنية, سواء كانت ملحمية أو قصيدة غنائية .
وهنا لا بد أن نشير إن الأغنية الشعبية الكوردية تنقسم إلى ثلاث أقسام : ديلوك = (الأغنية الإيقاعية) – لولوك = (الأغاني العاطفية والملحمية) گوران,گوراني = (أغاني الرّثاء) وكذلك تنقسم الموسيقى إلى : موسيقى الجبل – موسيقى السهل – وفي الآونة الأخيرة الموسيقا التي تأثرت باللون الغربي في المدن الكوردية .
في البداية كانت الأغنية الشعبية أما قصة صاغها قاص بارع, أو قصيدة غنائية صاغها شاعر مبدع, ولعدم إمكانية التدوين نتيجة انتشار الأمية في المجتمع الكوردي, وخاصة في الأرياف, فكانت تحفظ هذه القصائد على ظهر قلب من قبل المغنين المهرة ,والذين كانوا يمتلكون ذاكرة نادرة تستوعب كما هائلا من المعلومات .
وانتقلت هذه القصائد من جيل إلى آخر, وكانت ضمن العائلة الفنية غالبا , دون أن يتجرأ من لم يحسن الغناء وفق أصوله ومبادئه, الاقتراب من هذه المهنة , وكان من يحاول دون ذلك يتعثر في أول درجات السلم الفني ويتراجع ويبقى على الهامش , عدا عن خامته الصوتية إن كانت تؤهله لهذا المجال أم لا ؟ .
وقد استمرت هذه المدرسة الفنية حتى السبعينيات من القرن الماضي, ثم انحسرت في العائلات الفنية الكبيرة , وذو الشأن والاهتمام بهذا النوع من الفلكلور, من الهواة والباحثين .
من جهة أخرى كان لتلك للقصائد الفلكلورية ولا يزال , دورا هاما في تطوير الحس الجمالية لدى العامة, وقد نهل منها الكثيرون من الرّواة و من الشعراء المعاصرين والمحدثين, كونها مادة غنية بالمفردات اللغوية الأصيل , وهي بمثابة لغة جامعة كل أبناء كوردستان .
و مع كل أسف أصبح اليوم فن الغناء هواية العامة, حيث تجد في كل بيت أكثر من مغني دون وجود مؤهلات , من صوت وأداء ولغة وحتى ذاكرة قادرة على الحفظ , وباتت تتعرض هذه القصائد الجميلة اليوم للتشويه والتحريف , على يد هؤلاء المغنين , الذين لا يدركون قيمة التراث الغنائي  وأبعاده الثقافية والإنسانية , وإن غنوا من تلك القصائد أفرغوها من مضمونها ومغزاها , وذهبوا بالموسيقى إلى حيث أهوائهم , داعين بذلك التجديد والحداثة دون أن يعترفوا بفشلهم وعدم قدرتهم على أداء هذا اللون العريق من الغناء .
وكذلك الأغاني الإيقاعية التي حرفت وتعرضت كلماتها للتغيير والتزوير , نتيجة قلة إلمام المغنين بلغتهم الأم وابتعادهم عن اللون الشعبي,الذي هو أساس الفن الكوردي .
 
إن كيفية إعادة وإنتاج هذا اللون الشعبي من الغناء , والاهتمام بالفلكلور بكل أصنافه , وترويض الذائقة الفنية لدى الشعب, تقع على عاتق الجهات المعنية بهذا الشأن , من مؤسسات ونقابات وجهات داعمة وراعية, فعندما يكون لدينا فنا راقيا , سيكون لدينا متلقيا ذو ثقافة قادرا على إدراك ما يتلقى, وسنصبح في مصاف الشعوب المتقدمة , ولقد عملت في هذا السياق حركتا الرومانسية والقومية في أوربا في بداية القرن التاسع عشر على الاهتمام بالفلكلور وجعله من أولويات قضاياها , كون الفلكلور يحدد الهوية القومية ويرجع بالإنسان إلى جذوره وأصوله , لزيادة وعيه القومي , فجعلتا هذه المادة الجزء الأساسي من أيديولوجيتها في سبيل التحرر القومي. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…