«كسماء أخيرة» لعماد موسى: الإدهاش الشعري إلى جانب القول العادي

هوشنك أوسي

في مجموعته الشعريّة الجديدة «كسماء أخيرة»، الصادرة عن دار «فضاءات» الأردنيّة، (83 صفحة من القطع المتوسّط)، أكثر ما يشدّ الانتباه في لغة الشاعر السوري عماد الدين موسى، هي رشاقة وخفّة جملتهِ الشعريّة ورهافتها، بما يحفّز الذائقة النقديّة لدى قارئ هذه النصوص على خوض غمار عمليّة التنقيب عن الدلالات والإيماءات، أثناء متعة القراءة. بحيث يشعر المرء بأن اللغة بالنسبة لموسى هي كيس مليء بالريش الملوّن، يلوّحُ به، مهرولاً في حقل الشعر، فيتناثر الريش – الكلام، وتبعثره النسائم خفيفةً، بحنو ونعومة وهدوء، مشكّلة الفضاء الشعري الخاصّ به.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يخال المرء أن موسى، لا يعتبر الشعر، نافذةً ورئة للبوح وحسب، وبل السماء الأخيرة التي يمكن أن يطلّ منها الشاعر على نفسه، بما يعتملها من آلام وخيبات وانكسارات وحبّ وتوق وشغف وخيالات واغتراب. ذلك أن انتقاءه عنوان القصيدة الأخيرة من المجموعة، وجعلها عنواناً للكتاب، وما في هذا العنوان من تشبيه ودلالة، يشيرُ إلى استنفاد كل السماوات، وصولاً إلى السماء الأخيرة. شعريّاً، يوحي ذلك، من ضمن ما يوحي، بنظرة موسى للشعر، بوصفه تحليقاً وبوحاً بلسان الطائر، والملاذ الأخير للهروب من المعاناة والمآسي التي يعيشها الإنسان، بدليل تكرار استخدام كلمة الطائر أو ما يوازيها لفظاً ومعنى واسماً، في متون النصوص، وفي عناوينها أيضاً. وعلى سبيل الذكر في ما يتعلّق بالعناوين: «كيفما شاءت السنونوات» (ص25)، «من أجل تغريدة» (ص35)، «وإذ ترنو العصافير إلى غصنٍ بعيد» (ص39)، «الطائر هذا الصباح» (ص73). مضافاً لما سلف، تكراره في استخدام كلمة السماء في العناوين والمتون، مثلاً: «كمن يصطاد السماء» (ص17)، «أغنية السماء الهائلة» (ص55) و»كسماء أخيرة» (ص75). ففي هذه القصيدة، يواجهك موسى بحساسيّة شعريّة فائقة الشفافيّة والعمق، تنطوي في بعض تراكيبها على بثّ الحكمة، عبر جمل قصيرة وثاقبة، كقوله: «نقيّاً كدمعة طفل/ ومذعوراً كسارقٍ عند الظهيرة/ يتحسس الطائرُ أثر الرصاصة في عينه اليسرى»، ويقول أيضاً: «ما من منزلٍ من طين في هذه المدينة/ ما من أثر عشٍّ في هذا الخريف/ وما من تغريدةٍ أو طائر». وتنحو لغته منحى التفلسف والتأمّل في كينونة الحياة، بقوله: «من لم يحلم، كمن من لم يولد/ يحيا أبداً في عتمة قبرٍ مهجور». وقوله في قصيدة كمن يصطاد السماء: «الحياة سيرتنا الناقصة/ دفتر قيامةٍ مؤجّلة» (ص18).
وإلى جانب الإدهاش الذي ينضح به هذا النصّ، ثمة ما يمكن اعتباره حشواً لغويّاً، لا طائل منه، بل انعكس سلباً على البلاغة الشعريّة. طالما أن الشاعر اختار الاشتغال على تقنيّة التكثيف والاختزال والاقتصاد في عمارته الشعريّة، كان لزاماً عليه توخّي عدم السقوط في هذه الهفوة. وعلى سبيل الذكر قوله: «نقيّاً كدمعة طفل/ ومذعوراً كسارقٍ عند الظهيرة/ يتحسس الطائرُ أثر الرصاصة في عينه اليسرى / العين التي لم تعد ترى الصباح صباحاً، ولا الليل ليلاً». ذلك أنه لا يوجد هناك أيّ داعِ لشرح مآل العين المصابة برصاصة في الجملتين الأخيرتين المعطوفتين على بعضهما! وكمثال آخر على الزيادة في الكلام، قوله: «قليلةٌ هذه الحياة أيّها الطائر. وناقصة». إذ لا داعي لإضافة كلمة «ناقصة»، بحكم أن ذكر القلّة في الشيء، يفيد معنى النقص. كمثال آخر على الجمل التي أتت لزوم الحشو اللغوي، وليست لها أية قيمة شعريّة وجماليّة، قوله في قصيدة لا بدّ من امرأة: «الحياة في الليل، ليست الحياة في النهار» (ص21). زد على ذلك، قصيدة «كسماء أخيرة» التي تتألّف من فقرات قصيرة، تكررت كلمة «طائر» خمس مرّات. وفي قصيدة «الطائر هذا الصباح» كررها أربع مرّات، كما نجد هذه الكلمة مع كلمات: الشجرة، السماء، الرماديّة، الصباح، الحطّاب، الخريف، الورد… تتكرر في معظم القصائد، إلى جانب تكرار استخدام الصورة الشعريّة نفسها، مثلاً، «قبر مهجور» في قصيدة أثر (ص12)، وفي قصيدة كسماء أخيرة (ص78)، ما يشي بفقر القاموس اللغوي الشعري لدى موسى، الذي من المفترض أن يعتمد على غزارة المفردات، منعاً لتكرار استخدامها في البناء الشعري، وسعياً وراء استدرار طاقة الكلمات، وشحن الجملة الشعريّة بالمزيد من التنوّع، ما من شأنه توسيع نطاق الفضاء اللغوي الشعري، وصولاً إلى زيادة مساحة الدهشة والدلالات والإيحاءات ومكنونات المجاز في النصّ. من دون أن ننسى بأن تكرار المفردة أو الجمل في العبارات الشعريّة، بحثاً عن الإيقاع أو الموسقة اللغوية، لا يفيد في خلق جو راقص ضمن البناء الشعري، بقدر من يعيده من فضاء الحداثة إلى تقاليد «السلف» في النظم الشعري، أكانوا من بناة القصيدة العموديّة أو التفعيلة، أو ما يتأرجح بين هذين الصنفين، تحت مسمّى قصيدة النثر. وتمثيلاً وليس حصراً، تكرار قوله؛ «أيها الطائر» 5 مرات، في الفقرة رقم 3 من قصيدة كمن يصطاد السماء. علماً أن ذكر الجملة «أيّها الطائر» مرّة واحدة فقط، كان يفي بالغرض. 
إن لم يكن كلّها، أكثر النصوص – القصائد الـ19 التي طوى موسى مجموعته الشعريّة عليها، مقسّمة إلى مقاطع مرقّمة. ومع استخدام هكذا تقنيّة، من المفترض أن وجود الأرقام، ليس لمجرّد منح قيمة جماليّة للنص، بقدر ما هو الحاجز الذي يفصل بين فقرة وأخرى، لجهة الفصل بين خصوصّية الدفق الشعري في تلك اللحظة التي عبّرت عن نفسها بتلك المفردات والتراكيب والصور والواردة في تلك الفقرات، والمفصولة بعضها عن بعض بأرقام أو أنجم أو أيّة إشارة، لزوم الفصل وحسب. وفي حال كانت الفقرات تتمة لبعضها البعض، على المستوى اللغوي، وليس على المستوى الشعري وحسب، فهذا الأمر، يجعل من وجود الأرقام بين الفقرات، لزوم ما لا يلزم. مثلاً كقوله في الفقرة رقم 3 من قصيدة لا بدّ من امرأة: «المدينة خالية تماماً إلاّ من الذكرى/ المدينة التي تستوي على نارٍ هادئة»، والفقرة رقم 4 من القصيدة نفسها: «الأغنية كذلك، وهي تغادر حنجرة المغنّي كجثّة هامدة» (ص23). فإذا حذفنا الرقم 4 الفاصل بين هاتين الفقرتين، نجد انسياباً لغويّاً سلساً، ومتماسكاً، لم يعرقله إلا وجود هذا الرقم. بالتالي، أعتقد أنه مثلما أن تقطيع القصيدة التقليديّة، طبقاً لنظام العروض وبحور الشعر والتفعيلة، هو هندسة لغويّة شعريّة، تتطلّب مهارة ودقّة في ضبط الوزن والإيقاع والقافيّة، كذلك تقنيّة تقطيع النصّ في قصيدة النثر إلى فقرات – ومضات، يتطلّب هندسة لغويّة شعريّة، قد تفوق في حساسيتها وخطورتها، ما هو موجود في القصيدة العموديّة وقصيدة التفعيلة، بسبب مناخ الحريّة الذي تؤمنه قصيدة النثر لكاتبها. وعليه، التجريب الشعري متاح ومباح ومستساغ، وبل من الضروري، في قصيدة النثر، التي تمنح الشاعر فضاء أكثر رحابة من نظام الشطرين والتفعيلة، ولكن، بما يعزز التجديد في البنية الشعريّة في قصيدة النثر، لا أن يكون الأمر، سهو الخاطر، ومن باب التجميل البنياني المفتعل في القصيدة.
عماد الدين موسى المولود في مدينة عامودا الكرديّة في سوريا سنة 1981، من الشعراء الكرد السوريين الشباب الذين يكتبون بالعربيّة، لا شكّ أنه مجتهد ويتعب على نفسه ونصّه، وحاول تقديم أفضل ما لديه شعراً في كتابه كسماء أخيرة. وأتت محاولته ناجحة، وغنيّة بالدهشة والإمتاع، إلى جانب وجود ما هو عادي من الشعر. ولئن رحلته في كتابة الشعر بدأت في سنّ مبكّرة، سنة 1996، ومجموعة «كسماء أخيرة» هي الثانية له، بعد مجموعة «طائر القصيدة يرفرف في دمي» الصادر سنة 2001. فإن مسؤوليّته أكبر في منح الجديد والمدهش من الشعر، بخاصّة انه يكتب المقال الثقافي إلى جانب الشعر في عدد من الصحف والمجلات العربيّة كـ»نزوى» العمانيّة، و»الدوحة» القطريّة، و»أخبار» الأدب المصريّة، و»الرافد» و»المستقبل» و»النهار». وعمل رئيساً لتحرير مجلة «أبابيل» الشهريّة بين عامي 2006 – 2014. وإذا كان من الصعب القول: إن «كسماء أخيرة» أضافت جديداً إلى قصيدة النثر، إلاّ أنها خطوة مهمة في تجربة عماد الدين موسى 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…