عبدالباقي حسين.. كان عليك أن تنتظر أكثر..!

إبراهيم اليوسف


ينتمي الباحث عبدالباقي ملا حسين أحمد “نجل العالم ملا حسين خريجكي” إلى هؤلاء الذين يعملون كل ما في وسعهم بمنتهى الصمت، بعيداً عن الاستعراضية الجوفاء. فقد تعرفت عليه بعيد أيام من وصولي إلى دولة الإمارات  في بيت الشيخ البروفسيور أحمد معاذ حقي “نجل الشيخ  الجليل علوان حقي رحمه الله. عندما دعانا: أنا والصديق الحاج عارف رمضان إلى منزله، لتتوثق علاقتي بكليهما منذ ذلك الوقت، وأجد في كل منهما عالماً مبدعاً، بعد أن ضاق بهما وطنهما الذي ولدا فيه وظل حلم العودة إليه لا يكف عن بالهما  البتة.
ما شدني إلى أبي يمان ، أنيق المظهر، شفاف الروح، منذ هذا اللقاء الذي اجتمعنا فيه، هو أنه يتمتع بكاريزما جد عالية، ناهيك عن أنه متحدث بارع، قوي الحجة، متزن، حكيم، طيب المعشر، وفي، صادق، جريء، ودود، مخلص، مرح، حاضر الدعابة، سريع البديهة، قوي الذاكرة وغير ذلك من الخصال الرفيعة التي لا تجتمع في امرىء ما إلا ويكون من عداد المائزين في مجتمعاتهم، لاسيما في هذا الزمن الذي  ينداح فيه العطب الروحي على أوسع مدى،  نتيجة  هيمنة ثقافة التزوير التي نشأت في ظل  آلة الاستبداد الرهيب، ليكون هو وأمثاله من عداد هؤلاء الذين حافظوا على قيمهم الأصيلة.
 
أحار، في  معرفة: من أين أبدأ؟، وأنا أتناول سيرة صديقي أبي يمان، باعتبار عشرات المواقف والحكايات التي شهدتها أو سمعتها منه، خلال تواصلنا، ولقاءاتنا التي تكررت بشكل متواصل، إلى أن هدَّه المرض، وبدأنا نتواصل عبرالهاتف، ويسألني” متى تزورني؟” فأقول: قريباً، ليشدد عليَّ أن نلتقي- وهو عنوان السخاء والجود- قبل أن يتفاجأ بي وأنا أودعه للمرة الأخيرة، وأنا أنبئه قائلاً: لقد أوشك جواز سفري على الانتهاء، وسأسافر وأخشى ألا أعود، فيعرب لي عن تمنياته أن أحقق مبتغاي، ثم لايفتأ يسألني: في أية مدينة أنتم؟، وعندما أسمي له اسم مكان إقامة أسرتي لا يعدم أمله بزيارتنا، بزيارة-أبناء أخيه- birazyen min، كما يقولها، وهو يسميهم واحداً واحداً.
طالما سرد لي  أبو يمان يوميات دراسته، وعلاقاته الأولى بأحد أطراف الحركة الكردية-رغم نشأته الدينية الصرفة – التي لم تمنعه من الانفتاح على ماحوله-وكان يسترسل في توصيف الأجواء السياسية المهيمنة في تلك الفترة، مشخصاً آلة الاستبداد، وظروف عمله في سلك التعليم، و شؤون كتبة التقارير الذين كانوا يحاربونه، ناهيك عن دراسته الجامعية، وانتقاله إلى دمشق، ومن ثم”بيروت” ليعمل في إحدى دور النشر-الممنوعة سورياً ولربما كانت “العربية للمطبوعات”- واعتقاله في بيروت من قبل أجهزة المخابرات السورية لتنقله إلى أقبية فروعها، متعرضاً لأشد أنواع التعذيب، من دون أن تعترف بوجوده لديها، إلى أن تذهب أمه إلى منزل الأستاذ عبدالحميد درويش لتروي له تفاصيل ما حدث لابنها، كي يعلم بدوره “المام جلال” الذي يتدخل لدى أعلى الأبواب آنذاك، كي يفك أسره، ليمنع من المغادرة، ويعمل مدرساً في إحدى مدارس دمشق نظراً لكفاءاته العالية، ويكتشف أن من بين طلابه: بشار الأسد وأخوه ماهر. ولينتهي العام الدراسي، وليلتف المدرسون والإداريون من حولهما، يطلبون من ورثة صاحب” مصباح علاء الدين السحري” “طلباتهم” الخاصة، وكانت آنذاك عبارة عن: خطوط هاتفية- شقق- نمر سيارات إلخ، فيتقدم منه بشار ويقول له : لم لا تطلب منا شيئاً وأنت أستاذنا الخلوق ..إلخ؟، ليكون رده: شكراً، لا أريد شيئاً. ثم يعلمه أحدهم بأنه ممنوع من السفر، كي يتفاجأ بعد أيام قليلة بورقة” السماح بالمغادرة” تصله إلى بيته الدمشقي، فيعد العدة للسفر إلى دولة الإمارات، يعمل هناك في مجالات عدة، من بينها: افتتاح مكتبة، إلى أن يقع الاختيار عليه، ليعمل ضمن الفريق الاستشاري لرئيس الإمارات المرحوم الشيخ زايد آل نهيان، يحضر مجالسه الخاصة، ويستشيره في بعض القضايا، وليحافظ على عمله في أحد مكاتب الدراسات تحت إشراف أحد أنجاله إلى لحظة وفاته يوم  إثر نوبة قلبية يتعرض لها، ليوارى الثرى في تراب أبو ظبي الذي احتضنه، وبعيداً عن مسقط رأسه “قامشلي” أو “دمشق”، وكأني به لم  يعد يحتمل الانتظار طويلاً، بعد كل ما رآه من أنهار دماء أبناء بلده  ووطنه، وآخرها دماء أهله في  المجزرة الإرهابية الرهيبة في كوباني. 
لقد عرفت في أبي يمان رجلاً نبيلاً-بحق- صادقاُ مع نفسه، وثمة  حادثة جد خاصة رواها لي تتعلق بموقفه ممن يكذبون، إذ أنه بسبب مجرد”كذبة” من أحد الأشخاص المقربين منه، في حدود علاقاته الأسرية، اتخذ منه موقفاً حاسماً ونهائياً، فكانت سبب”الفراق” الأبدي بينهما، ما أثر على مسار مجمل حياته، إلى جانب غربته الاضطرارية التي تجرع علقمها، ودفع ثمنها-غالياً- حتى آخر لحظة من حياته، بل ليدفن جسده الطاهر في تراب غريب، بعد أن ضاق به بلده.
عندما بدأت الثورة السورية، وجدت في أبي يمان أحد هؤلاء الذين كانوا دائمي التواصل معي ، لنتناقش حول المستجدات اليومية، بدءاً من يوميات الداخل، ومسارات الحراك، ومروراً بالتشكيلات التي تمت ومن بينها: المجلس الوطني السوري، كما أنني كنت أجد رغم امتلاء برنامجه اليومي-عادة- بشؤون الوظيفية، حيث كانت المجلدات البحثية التي يشتغل عليها ترافقه حتى بيته، ناهيك عن مجلدات العلم التي تستهويه وتعج به مكتبته الجديدة بعد مكتباته في: قامشلي- دمشق-بيروت، إلا أنه  كان على دائم الاطلاع على  تفاصيل الخط البياني الإعلامي، يتصل بي بعيد أي لقاء تلفزيوني مبدياً موقفه مما قلت، محللاً واقع وآفاق المشهد السياسي بإمكانات خبير سياسي متابع، ناهيك عن أنه يحملني بملاحظاته حول هذا الجانب أو ذاك، قبيل أي لقاء، أو مؤتمر.
أطلعني صديقي أبو يمان ذات مرة على إحدى المراسلات التي كانت تتم بينه و قادة إقليم كردستان، حيث وجدته لايتردد في تقديم- المشورة-  لهم، ضمن الإطار الذي يستطيعه، وإلى جانبها “دعوة رسمية” إلى الإقليم، كانت وصلته عبر”فاكس مكتبه”. وعلق قائلاً:”قال لي مدير عملي وهو يسلمني إياها:”فرح لأن علاقتك مع أهلك الكرد على ما يرام”، و لطالما وجهني لأكون جد حذر أثناء مراسلاتي الإنترنيتية، قائلاً:  إن كل مايتم  ليس بمخفي على العيون، وصار يحكي لي قصصاً عن عالم الإنترنت المكشوف من لدن الرقباء المهتمين في كل مكان”، تبين مدى تجربته، وضلوعه في عالم الإلكترون، من دون أن يبخل علي بسرد تفاصيل بعض الحالات التي كان قد قرأ عنها في هذا المجال.
حياة أبي يمان كانت حافلة بالأحداث، فقد كان شاهد عصره وشهيده، في آن، حيث  أنه تابع دراسته في حلب، ونقل منها بشكل تعسفي إلى دمشق، بسبب موقف جريء من قبله، سجن على إثره، لأول مرة في حياته، كما أنه اشتغل في دور النشر والصحافة في بيروت،  بعد أن عمل مدرساً للدين والعربية في مدارس :زكي الأرسوزي -القادسية، في مسقط رأسه، قبل أن ينتقل إلى دمشق مكرهاً، بسبب الضغوط الأمنية التي كانت تمارس عليه.
ورغم أن دراسة الباحث عبدالباقي ملا حسين “الكتبي” كانت في عالم الشريعة، إلا أنه نال الإجازة الجامعية في الآداب، وكان قد كتب  أطروحة في الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، مايدل على انفتاحه على الآخر، ولعل سعة آفاقه هي التي جعلت الشيخ منصور نجل الشيخ زايد يتشبث به، ويقرِّبه منه كما والده، ويسلمه أحد أهم الملفات في ما يتعلق بكل ما يكتب عن حياة والده، إذ كان من مهماته مراجعة ذلك، وضبطه، وتصويبه، وكان يشفع له في ذلك قوة بيانه، وفصاحته، ورجاحة عقله، وجدارته في حفظ الأسرار التي يؤتمن عليها.  
روى لي صديقنا المشترك – عبدالباقي حاج سليمان- الذي كان يعمل في مكتب نجل رئيس الإمارات الشيخ خليفة بن زايد أن عنصراً من السفارة السورية-ذات يوم، التقى أبا يمان، وقال له: ها أنت منذ ثلاثين عاماً-هنا- في الإمارات ولانعرف عنك شيئاً، فهل ممكن أن تبين لنا”أين كنت تعمل؟” فراح الرجل يسرد له سيرته على صعيد العمل، بشكل عفوي، وما أن وصل إلى عبارة” إن يشارالأسد كان من طلابي” حتى اعتذر منه الرجل وقال: الآن سأمزق كل مابين يدي عنك…
عملت أنا وأبو يمان، على امتداد أربعة أشهر، من أجل توحيد إدارتي الجالية الكردية في الإمارات، إذ كانت بين هاتين الهيئتين خلافات بدت مستعصية، آنذاك. وبدأ العمل الحقيقي من أجل وحدتها في صباح اليوم الثالث بعد وصولي الإمارات، بعد أن  مهد  ودبر الكاتب وليد عبدالقادر موعداً مع هيئة  الجالية التي كان يعمل فيها ، قبل أن أصل الإمارات، وكان من بين أعضاء الهيئة كل من: محمد فوزي دادا ومحمد حمو وفتحي أبو حميد وآخرون  بإدارة الفنان وليد توفيق-  مقابل هيئة الجالية التي كان يديرها الحاج عارف رمضان ومعه آخرون منهم:  خورشيد شوزي-  محمد صالح خليل-كمال أحمد-عبالباقي حاج سليمان –  فدوى كيلاني- ريم كنجو وآخرون. أتذكر أني وزميلنا قاسم دياب عضو مجلس أمناء ماف سابقاً، حضرنا أول لقاء مع الإدارة الأولى في فندق-نوفا بارك- الشارقي، الذي سأسكن بالقرب منه في مابعد، وكان ذلك أحد أيام الجمعات التشرينية من عام 2008،ليستمر اشتغالنا على لم شمل الجاليتين، في إدارة واحدة، ولنحدد يوم 13 شباط 2009 مؤتمراً عاماً حضره لأول مرة حوالي ستمئة شخص أدلوا بأصواتهم، مختارين لأنفسهم إدارة جديدة، وهويوم  غدا مريراً في حياتي برغم الإنجاز الكبير الذي حققناه فيه، لأني تلقيت خلاله نبأ وفاة أمي، ليبقى ذلك ندبة في روحي، ماحييت، لأنني عندما غادرت أطفالي، وأسرتي، مكرهاً، بسبب الضغوطات التي واجهتا، لم أتجرأ على وداع أمي، خوفاً على قلبها الحنون، ولئلا أبصر عينيها وهما تدمعان، وصوتها وهو جريح بألم الوداع، رغم أنها هي من قالت لي، وهي تشهد تفاصيل هذه الضغوطات، وتحرسني ذات مرة إلى الصباح:، ماترجمته من الكردية “بني، سافر، لم يبق لك”خبز” في ظل هؤلاء المجرمين”..!.
أعترف، أننا في اللجنة التي تشكلت لتوحيد طرفي الجالية، وانضم إليها كل من: أبي يمان- أدهم حسو-عبدالرحمن نعمو، بعد أن شجعهم على ذلك الشيخ د. أحمد معاذ، ذات زيارة لهم  والحاج عارف، درءاً من استفحال الفتنة، ومن أجل رأب الصدع.  وقد عمل هؤلاء الأفاضل جميعاً بوتائر جد عالية، وهمم صلبة، وعزائم لاتلين، على حساب راحاتهم، وأسرهم. اصطدمنا ببعض تفاصيل المعوقات التي كانت تظهر بين حين وآخر، بيد أن حكمة أبي يمان، وحنكته، وقوة شخصيته، بالإضافة إلى جهود الجنديين المجهولين: أدهم وعبدالرحمن، تمكنا من إنجاز المطلوب، ورددنا المياه إلى مجاريها، واستطعنا وضع حد لتلك الشنشنات التي تظهر هنا وهناك، ليسود التفاهم والتحابب بين جميع المعنيين،  وكان مؤتمر الجالية الذي كلفت -بعرافته- من أصعب المؤتمرات التي خضتها، وقد كانت جهود أعضاء اللجنة، ومن بينهم  أبويمان أقوى من أي كابح ينال مما كان حلماً لجميعهم
 
المرتان الأخيرتان اللتان التقينا خلالهما: إحداهما كانت قبل أشهر، خلال حضوره، رغم قوة ألم مرض كليتيه، جلسة عزاء ببعض شهدائنا  وراحلينا أقامتها إدارة الجالية الكردية في الشارقة، والثانية عندما تفاجأت بحضوره والصديق المشترك الكاتب كمال أحمد ندوة مشتركة ساهمت فيها مع آخرين في مبنى اتحاد كتاب “أبوظبي”، وألح علي بعد انتهائها أن أصطحبه لنسهر تلك الليلة في منزله الهادىء، والجميل، و الذي طالما ضمنا، بيد أن التزامي بزملائي وعودتي في تلك الليلة نفسها إلى الشارقة، جعلاني أعتذر منه، على أمل لقاء  آخر لم يتحقق، كما فكرة  الحوار معه والتي  طالما عرضتها عليه لتوثيق بعض الجوانب المهمة في سيرته، وهو الذي التقى أعلاماً  كباراً من مفكرين  ومبدعين  وزعماء من أنحاء العالم كله، وكان يعتذر نظراً  لتواضعه، وابتعاده عن  الولع بالأضواء. ولعل له مؤلفات ومخطوطات ما مطبوعة في هذه العاصمة أوتلك، من دون أن يترك”توقيعه” عليها،  وليظل موعدنا الأخيرفي بيت صديقنا البروفسيور حقي لنتناول معاً وجبتنا المفضلة هناك: “البرغل بالقرع”، من دون أن تتحقق.
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…