د. أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
قال الشاعر الياباني كوباياشي ذات مرة:
” ليس من السهل أن تولَد إنساناً“.
أجل، ليس من السهل أن تولَد إنساناً، وأن تعيش إنساناً، وتظل محتفظاً بإنسانيتك إلى آخر الشوط، إن انتمائك إلى (الإنسانية) يضعك أمام مسؤولية جليلة؛ ألا وهي الالتزام بالإنسان والدفاع عنه، حيثما كان، ومن أيّ قومية وعقيدة ومذهب كان، وبقدر ما تنهض بمسؤوليتك هذه تكون من صنّاع تاريخ (الإنسانية) الحقيقيين.
dralkhalil@hotmail.com
قال الشاعر الياباني كوباياشي ذات مرة:
” ليس من السهل أن تولَد إنساناً“.
أجل، ليس من السهل أن تولَد إنساناً، وأن تعيش إنساناً، وتظل محتفظاً بإنسانيتك إلى آخر الشوط، إن انتمائك إلى (الإنسانية) يضعك أمام مسؤولية جليلة؛ ألا وهي الالتزام بالإنسان والدفاع عنه، حيثما كان، ومن أيّ قومية وعقيدة ومذهب كان، وبقدر ما تنهض بمسؤوليتك هذه تكون من صنّاع تاريخ (الإنسانية) الحقيقيين.
وقياساً على قول كوباياشي نقول: ليس من السهل أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، وتعيش مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، وتحتفظ بأقصى قدر من انتمائك هذا إلى آخر الشوط؛ أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً يعني بالضرورة أن تتجاوز سلسلة طويلة من أزمنة الإقصاء والإلغاء، وتتخطّى ركاماً هائلاً من ثقافات القهر والصهر والنحر، وتدخل في صراع شامل ومرير ضد كهنة ثقافة التطبير والتكفير، وضدّ حَمَلة ألوية الفاشية والشوفينية والتخلف والظلامية.
أجل، أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني بالضرورة أن تتجاوز ثقافة الغزو القائمة على مبدأ (العالم مُلكٌ لي)، وعلى قاعدة (أنا أبطش، إذاً أنا موجود)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر الجاهلي عَمرو بن كُلثوم في قوله:
لنا الدُّنيا، ومن أضحى عليها ونَبطِش، حين نَبطِش، قادرينا
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (إرهاب الآخر) وإرغامه وإخضاعه وإركاعه؛ تلك الثقافة التي جسّدها الحاكم الأُموي زياد بن أبيه في قوله: ” وإنّي أُقسم باللّه لآخُذنّ الوَلِيّ بالمَولى، والمُقيمَ بالظّاعن، والمُقْبِل بالمُدْبِر، والمُطيع بالعاصي، والصحيحَ بالسَّقيم، حتى يَلْقى الرجلُ منكم أخاه، فيقول: انْجُ سَعْد فَقد هلك سُعَيْد“!
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة التلذّذ بسفك الدماء، ثقافة (اقتلْ، ثم اقتلْ، ثم اقتلْ، تكن عظيماً)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الحاكم الأُموي الآخر الحَجّاج بن يوسف الثَّقَفي في قوله: ” والله إنّي لأرى رؤوساً أَينعتْ، وقد حان قِطافُها، وإنّي لَصاحبُها، وإنّي لأرى الدماء تَرقرق بين العمائم واللِّحى“.
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (أنا الشعب المختار، والآخرون هم المَوالي والعبيد)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر العبّاسي أبو فِراس الحَمْداني في قوله مفتخراً ببني قومه:
ونحن أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا لنا الصدرُ دون العالَمين أو القبرُ
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (تأليه الحاكم واستعباد المحكوم)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر الأندلسي ابن هانئ في قوله مادحاً الخليفة الفاطمي المُعِزّ لدين الله:
ما شئتَ، لا ما شاءت الأقدارُ فاحكمْ، فأنت الواحدُ القهّارُ
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (إعدام الرأي الآخر)؛ تلك الثقافة التي جسّدها “الشيخ، الفقيه، الإمام، حُجّة الاسلام، ضياء الدين أبي الحسن شيث بن إبراهيم” في عنوان كتابه ” حَزّ الغَلاصِم في إفحام المُخاصِم“؛ والمقصود بالغلاصم هنا (الأعناق)، والتي جسّدها أيضاً” الفقيه ” عبد الله بن محمد في عنوان كتابه “إرسال الصواعق على ابن داود الناعق“.
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً يعني الكثير، ويضعك مباشرة في مواجهة مسؤولية لا أخطر منها، ولا أصعب منها، ولا أعظم منها في الوقت نفسه إذا قمت بها على الوجه الأكمل؛ إنها مسؤوليةُ تَجاوزِ هذه الثقافة التي ضخّها المتسلطون المتوحّشون المَكَرة في جينات شعوبنا قرناً بعد قرن، ورموا بأجيالنا واحداً بعد آخر بين أنياب الذهنيات الظلامية، إنهم رفعوا على الدوام أنبل الشعارات، وشرّعوا لأنذل الممارسات، وجعلوا الكل يكره الكل، ويحقد على الكل، ويرفض الكل، ويعادي الكل، ويُلغي الكل، ويكون على استعداد لذبح الكل باسم الدفاع عن الكل.
وليس هذا فحسب، بل أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ذاتك أنت، أجل، ألم تنشأ وتترعرع- رغماً عنك- في كنف ثقافة القهر والصهر والنحر والتطبير والتكفير؟ ألست أنت- شئتَ أم لم تشأ- من نتاجات تلك الثقافة؟ وكيف لك أن تتجاوزها ما لم تتجاوز ذاتك التي فُرضت عليك؟ وما لم تصل إلى مقام “اعرفْ نفسك“، وتنطلق منه إلى مقام “حرّرْ نفسك“؟
أليس جديراً بك- أيها المثقف الشرق أوسطي- أن تكون كالصوفي أبي بكر الشِّبْلي: حينما سئل:” أين الشِّبْلي؟ فقال: مات، لا رحمه الله“! يقصد أنه تجاوز ذاته السابقة، وارتقى عليها، واستردّ هويته الأصيلة.
يا مثقفي الشرق الأوسط، لا يكفي أن نتباهى قائلين: عمر الحضارة في بلادنا سبعة آلاف عام! بلادنا موطن أقدم الحضارات! في بلادنا ظهرت الأبجديات الأولى! بلادنا مهد الرسل والأنبياء! إن صكوك الغفران هذه التي نلوّح بها في المحافل لن تفيدنا شيئاً في محكمة التاريخ، قبل كل شيء ” يجب أن نملك كلاماً يتدفّق من القلب” كما قال موريس روبان ذات مرة، يجب أن نواجه الحقيقة، أن نُقرّ بها، أن نعترف بأن شعوبنا ما تزال مختطَفة في قبضة المتوحّشين المَكَرة، وهي تستنجد بنا صباح مساء.
إن التاريخ – يا سادة- لا ينخدع بالعبارات البرّاقة، ولا تغرّه الكلمات المعسولة، إن التاريخ يطالبنا بالانتماء الحقيقي إلى جذرنا الإنساني النبيل، يطالبنا بأن نعيد نَصب الجسور بين (الأنا الشخصية) و(الأنا القومية) و(الأنا الإنسانية)، يطالبنا بأن ننقذ شعوبنا من براثن الذهنيات الشوفينية والفاشية والظلامية المتخلفة، وإنه لمن النبل أن نقوم بمسؤولياتنا الجليلة هذه، وأن يضع كل واحد منا نُصب عينيه قول ذلك الشاعر العظيم رابِنْدرانات طاغور:
” لماذا تغرق بعيداً في مطالبك الأنانية؟
انظر حواليك، وانشر قلبك في كل مكان“.
ويسترشدَ كلّ واحد منا أيضاً بقول طاغور:
” أيها المسافر الأبدي!
لا تهتمّ باسمٍ، ولا تطمحْ إلى مآثر.
من عصور سحيقة..
يتقدّم أولئك الذين يبغون تحطيم السدود.
يقفزون فوق الأسوار.
يتخطّون الجبال.
في السماء ينادي النفير الأبدي:
لا تتوقّفْ، واصل السير، تَجاوز الحدود“.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توضيح: نُشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة Pênûsa nû الألكترونية.
أجل، أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني بالضرورة أن تتجاوز ثقافة الغزو القائمة على مبدأ (العالم مُلكٌ لي)، وعلى قاعدة (أنا أبطش، إذاً أنا موجود)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر الجاهلي عَمرو بن كُلثوم في قوله:
لنا الدُّنيا، ومن أضحى عليها ونَبطِش، حين نَبطِش، قادرينا
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (إرهاب الآخر) وإرغامه وإخضاعه وإركاعه؛ تلك الثقافة التي جسّدها الحاكم الأُموي زياد بن أبيه في قوله: ” وإنّي أُقسم باللّه لآخُذنّ الوَلِيّ بالمَولى، والمُقيمَ بالظّاعن، والمُقْبِل بالمُدْبِر، والمُطيع بالعاصي، والصحيحَ بالسَّقيم، حتى يَلْقى الرجلُ منكم أخاه، فيقول: انْجُ سَعْد فَقد هلك سُعَيْد“!
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة التلذّذ بسفك الدماء، ثقافة (اقتلْ، ثم اقتلْ، ثم اقتلْ، تكن عظيماً)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الحاكم الأُموي الآخر الحَجّاج بن يوسف الثَّقَفي في قوله: ” والله إنّي لأرى رؤوساً أَينعتْ، وقد حان قِطافُها، وإنّي لَصاحبُها، وإنّي لأرى الدماء تَرقرق بين العمائم واللِّحى“.
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (أنا الشعب المختار، والآخرون هم المَوالي والعبيد)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر العبّاسي أبو فِراس الحَمْداني في قوله مفتخراً ببني قومه:
ونحن أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا لنا الصدرُ دون العالَمين أو القبرُ
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (تأليه الحاكم واستعباد المحكوم)؛ تلك الثقافة التي جسّدها الشاعر الأندلسي ابن هانئ في قوله مادحاً الخليفة الفاطمي المُعِزّ لدين الله:
ما شئتَ، لا ما شاءت الأقدارُ فاحكمْ، فأنت الواحدُ القهّارُ
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ثقافة (إعدام الرأي الآخر)؛ تلك الثقافة التي جسّدها “الشيخ، الفقيه، الإمام، حُجّة الاسلام، ضياء الدين أبي الحسن شيث بن إبراهيم” في عنوان كتابه ” حَزّ الغَلاصِم في إفحام المُخاصِم“؛ والمقصود بالغلاصم هنا (الأعناق)، والتي جسّدها أيضاً” الفقيه ” عبد الله بن محمد في عنوان كتابه “إرسال الصواعق على ابن داود الناعق“.
أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً يعني الكثير، ويضعك مباشرة في مواجهة مسؤولية لا أخطر منها، ولا أصعب منها، ولا أعظم منها في الوقت نفسه إذا قمت بها على الوجه الأكمل؛ إنها مسؤوليةُ تَجاوزِ هذه الثقافة التي ضخّها المتسلطون المتوحّشون المَكَرة في جينات شعوبنا قرناً بعد قرن، ورموا بأجيالنا واحداً بعد آخر بين أنياب الذهنيات الظلامية، إنهم رفعوا على الدوام أنبل الشعارات، وشرّعوا لأنذل الممارسات، وجعلوا الكل يكره الكل، ويحقد على الكل، ويرفض الكل، ويعادي الكل، ويُلغي الكل، ويكون على استعداد لذبح الكل باسم الدفاع عن الكل.
وليس هذا فحسب، بل أن تكون مثقفاً شرق أوسطياً نبيلاً، يعني أن تتجاوز ذاتك أنت، أجل، ألم تنشأ وتترعرع- رغماً عنك- في كنف ثقافة القهر والصهر والنحر والتطبير والتكفير؟ ألست أنت- شئتَ أم لم تشأ- من نتاجات تلك الثقافة؟ وكيف لك أن تتجاوزها ما لم تتجاوز ذاتك التي فُرضت عليك؟ وما لم تصل إلى مقام “اعرفْ نفسك“، وتنطلق منه إلى مقام “حرّرْ نفسك“؟
أليس جديراً بك- أيها المثقف الشرق أوسطي- أن تكون كالصوفي أبي بكر الشِّبْلي: حينما سئل:” أين الشِّبْلي؟ فقال: مات، لا رحمه الله“! يقصد أنه تجاوز ذاته السابقة، وارتقى عليها، واستردّ هويته الأصيلة.
يا مثقفي الشرق الأوسط، لا يكفي أن نتباهى قائلين: عمر الحضارة في بلادنا سبعة آلاف عام! بلادنا موطن أقدم الحضارات! في بلادنا ظهرت الأبجديات الأولى! بلادنا مهد الرسل والأنبياء! إن صكوك الغفران هذه التي نلوّح بها في المحافل لن تفيدنا شيئاً في محكمة التاريخ، قبل كل شيء ” يجب أن نملك كلاماً يتدفّق من القلب” كما قال موريس روبان ذات مرة، يجب أن نواجه الحقيقة، أن نُقرّ بها، أن نعترف بأن شعوبنا ما تزال مختطَفة في قبضة المتوحّشين المَكَرة، وهي تستنجد بنا صباح مساء.
إن التاريخ – يا سادة- لا ينخدع بالعبارات البرّاقة، ولا تغرّه الكلمات المعسولة، إن التاريخ يطالبنا بالانتماء الحقيقي إلى جذرنا الإنساني النبيل، يطالبنا بأن نعيد نَصب الجسور بين (الأنا الشخصية) و(الأنا القومية) و(الأنا الإنسانية)، يطالبنا بأن ننقذ شعوبنا من براثن الذهنيات الشوفينية والفاشية والظلامية المتخلفة، وإنه لمن النبل أن نقوم بمسؤولياتنا الجليلة هذه، وأن يضع كل واحد منا نُصب عينيه قول ذلك الشاعر العظيم رابِنْدرانات طاغور:
” لماذا تغرق بعيداً في مطالبك الأنانية؟
انظر حواليك، وانشر قلبك في كل مكان“.
ويسترشدَ كلّ واحد منا أيضاً بقول طاغور:
” أيها المسافر الأبدي!
لا تهتمّ باسمٍ، ولا تطمحْ إلى مآثر.
من عصور سحيقة..
يتقدّم أولئك الذين يبغون تحطيم السدود.
يقفزون فوق الأسوار.
يتخطّون الجبال.
في السماء ينادي النفير الأبدي:
لا تتوقّفْ، واصل السير، تَجاوز الحدود“.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توضيح: نُشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة Pênûsa nû الألكترونية.
13 – 9 – 2012