السِّيرة الذَّاتيَّة: مفتاح لابدَّ منه لولوج عالم المبدع

إبراهيم اليوسف

يعدُّ فنُّ السِّيرة الذاتية، من الفنون الأدبية الأكثرأهمية، بالنسبة للأعلام، سواء أكانوا في في مجال الثقافة، أو الفنون الإبداعية، أو في مجال السياسة، وغيرها من المجالات العديدة، حيث يسلط كاتب السيرة الذاتية الضوء على قضايا مهمَّة، تتعلق بحياته الذاتية، طالما كان المتلقي بحاجة إليها، ليكسر بذلك أي جدار بينه وصاحب السيرة، وهوما يعد في نظرالنقد التقليدي، من الوسائل المهمة، لمعرفة حياة صاحب السيرة، وفهم عوالم إبداعه والمؤثرات الأهمّّ في شخصيته، في ما إذا كان شاعراً، أو روائياً، أو قاصاً، أو رساماً، أو مسرحياً، أو غيرذلك، وهكذا بالنسبة للناقد، والسياسي، وغيرهما من المشاهيروالإعلام.
وحقيقة، إن لفنِّ السِّيرة خصوصيته الجمالية، والفنية، والفكرية، لأنه يتضمن شهادات ذاتية، من قبل المبدع، عن بيئته، والمراحل الحياتية، المتنوعة التي عاشها، ومدى تأثير كل ذلك على الجانب السيكولوجي في نفسه، بل والأهمُّ من كل ذلك، أنه يساعد المتلقي، والناقد، في آن واحد، لمعرفة جوانب مجهولة، من حياة المبدع، لابد من الاطلاع عليها، كي يفهم، على ضوئها إبداعه، بل وليطلعوا، على خصوصية نشأته، والمؤثرات الكبرى التي تركت بصمتها على الخط البياني، لحياته الشخصية.

ومن هنا، فإن مبدعين كثيرين، وبكل لغات العالم، قد انتبهوا إلى هذه المسألة، وكتبوا جوانب من سيرتهم، وهي من نوع الكتب المطبوعة الأكثرإقبالاً عليها، وتلقياً لها، والأكثرمبيعاً من قبل دورالنشر، لاسيما إذا كان لصاحب السير ةوزنه، وثقله الإبداعيان، ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا في هذا المجال، و كأنموذجين، فحسب: طه حسين في “الأيام” و سليم بركات في كتابيه السيرويين “الجندب الحديدي وسيرة الصبا”، حيث إننا نجد في أيام طه حسين، والمكتوبة بلغة بيانية، عالية، أسراراً شخصية، لم يكن بوسع أحد أن يدونها، أو يعرفها، لولاه، تتناول مجمل مراحل بيئته، وطفولته، ودراسته، وغيرها، كما أن بركات في كتابيه السيرويين، آنفي الذكر، تناول بيئة منطقة الجزيرة السورية، وتحديداً، مدينته “قامشلي” بكل تفاصيلها، وأوجاعها، ويومياتها، من حلم، وانكسار، وأفراح، وأتراح، ليكون الشاهد على كل عذابات ذويه، وأحلامهم، مقدماً بذلك، وثيقة فنية، نادرة، شكلت تحفة إبداعية حقاً.

وإذا كنا تحدثنا عن مثل هذين الأنموذجين، فإن عبدالرحمن بدوي كتب ضرباً مختلفاً من السيرة، اعتبره بعضهم مفاجأة لقرائه، وهو الفيلسوف، ومترجم الفلسفة اليونانية، لاسيما في ما يتعلق بمواقفه ممن حوله.

وفي ما لوعلمنا أن هناك، من الأعلام من قد تناول سيرته الشخصية، معلناً عن انتمائها الفني، صراحة، ضمن إطارفن السيرة، فإن هناك أدباء كباراً تناولوا جزءاً من سيرهم الذاتية، في أعمالهم الإبداعية، دون أن يشيروا علانية، على أنها جزء من حيواتهم، لنكون هنا، أمام سيرة ملتبسة، لايمكن الإشارة إلى انتمائها، إلى عالم الكاتب، وهومايتم على نحو واضح، في عالمي الرواية والقصة، وربما المسرحية، كما أنها قد تتم في عالم التشكيل، أوحتى الموسيقا، كما أننا على أي حال، لايمكن أن نفصل بين أي إنتاج إبداعي، لأي مبدع، وسيرته، لأنه العماد الفِقري، في هذا الإنتاج، ناهيك عن ذاته، المتوارية، لا محالة، في كل إبداعه، سواء أطلق حكم قيمة إيجابياً، أوسلبياً، في ما تناوله، أولا، لأن لا إنتاج إبداعياً بعيداً، عن شخص مبدعه، وإن كان لابدَّ ألا نحكم على النص الإبداعي، بمقاييسنا الأخلاقية، إلى درجة اعتبار، أن ما ينتجه المبدع إنما هو صورة فوتوكوبية عن عالمه، كأن نعد جريمة يقوم بها بطل رواية ما، على أنها جريمة المؤلف، حيث هنا، نكون أمام عسف وإسفاف، واضحين، وغيرمقبولين البتة.
 
وإذا كان هناك من رأى من النقاد التقليديين، أن معرفة عوالم المبدع مهمة بالنسبة لمتلقيه، ليكون ذلك بمثابة مفتاح  ليولج بوساطته مناخاته، وطقوسه الشخصية، وطفولته الأولى، ومرحلة شبابه، وعالمه الإبداعي، وانكساراته، وأفراحه، وأحلامه، وإمكاناته، وغيرذلك، بغرض فهم إبداعاته، بالشكل المطلوب، على ضوء ذلك، فإن هناك -في المقابل- من رأى أن النص الإبداعي للمبدع، لايحتاج البتة، إلى أي اطلاع على سيرته الشخصية، لأن النص هو من يقدم مفاتيحه، وإنه قادرعلى أن يعرف بإبداعه بأكثر، وإن معرفة تلك الجوانب الخاصة من حياة المبدع، قد تضلل المتلقي، وتقوده بعيداً عن خصوصية إبداعه.

ولابدَّ من الإشارة، أخيراً، إلى مسألة أخرى، وهي أن بعض النقاد، قد أشار، إلى مسألة تزويق بعض المبدعين، لسيرهم الذاتية، والتدخل في صياغتها، وإخفاء جوانب ما، والتركيز على أخرى، بل إن هناك، من قد يضخِّم دوره الشخصي، في أحداث شاهدها، وهي مسائل لا تخفف البتة، من قيمة الأدب السيروي، الذي يعد من الفنون الأكثرقرباً إلى متلقيها، كما هي الأقرب إلى شخص كاتبها نفسه..!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…