إن الجدة الصامتة طوال الفيلم والخائفة من أي يد تمتد إليها، واللائذة بصمت رهيب، والمميزة بصعوبة عيشها حتى مع زوجها، كما يقول أفراد أسرتها، كانت بقدر صمتها اللافت بليغة، بما أنها أسلمت القياد للوشوم المختلفة، وهنا تكمن حكمة الفيلم الوثائقي أو يكون سره، إذ لو أنها انفتحت على الآخرين لفقد الفيلم ميزته التي من أجلها كان إخراجه. لعل المخرجة أرادت أن تقول عبر مطالعة بصرية نافذة للوشوم هذه: عندما يكون العنف الجسدي مضاعفاً، تتوقف اللغة، ويكون الخرس، وما على المعاين سوى أن ينفذ عميقاً، والوشوم هي التي تولت مهمة سرد تاريخ موغل في المأساة. وشوم معتبرة، متنافرة، ذات دلالات موزعة بين صورة العلم التركي والصليب على ظاهر يد الجدة، وما في ذلك من عنف ومقاومة صامتة حيث العلم إحالة إلى السلطة القامعة والاغتصابية لجسدها، وقد اغتصبت منذ الصغر على يد تركي، وهو اغتصاب جاء من ” الخلف” وما في ذلك من اغتصاب مضاعف مهين تماماً لإنسانيتها وما تمثله نسَبياً، والصليب في الجوار يشير إلى المأسور والمضحَّى به وليس مجرد الانتماء إلى الدين المسيحي، لتبقى بقية الوشوم التي غطت جسمها بدءاً من الوجه تعبيراً عن الذين” استلموها” وتركوا عليها بصماتهم، وقد جُرّدت من انسانيتها، كأن الوشم شكل عنفاً على عنف، وليس مجرد انتساب إلى جماعة أو للتعبير عن زينة معينة، إنما علامة قهر واستبداد، ونزع ما هو انساني أو استئصالي فيها، ويكون صمتها شاهد عيان على هذه المأساة المتجددة في التاريخ. كما لو أنها وهي في صمتها الكلامي، راهنت عبر المخرجة والحفيدة على النظر، لأن اللغة لا تفي بالغرض، ولأنها أيضاً لا تريد وهي في قمة الشعور بما هو أضحوي روحي ومدمَّى، أن تسحب الماضي صوب المستقبل، بقدر ما أرادت لمن جاؤوا من بعدها أن يتابعوا حياتهم، وربما لأنها تكتمت على انجراحها الروحي والإنساني، لأن مصيبتها أبعد من حدود التصديق لفظاعتها المأسوية، وتركتهم نهب اجتهاداتهم وتفاسيرهم وتأويلاتهم، كما لو أنها نقلت المشاهد من حالة الوثيقة الداخلة في مهام التاريخي ومما هو متحفي إلى مهام الجغرافيا الجسدية، إلى حالة الفن وقدرته على إحداث أثر مضاعف أكثر، كما هو الشعور الذي رافق متابعة حيثيات المشاهدة حتى اللحظة الأخيرة. الذين من حولها، وقد تشتتوا في الجهات الأربع، عاشوا المأساة، كلٌّ على طريقته، دون مفارقة جماعته والأصل الواحد للمأساة، وتناثروا في الجهات تعبيراً عن استمرارية الشتات، وتأكيداً على رعب الجينوسايد بعلامته التركية وصمت العالم المعني حول ذلك، لأن مجرد الاهتمام لا يعني مجرد التفاعل مع حدث يعاش ولا يروى فقط، لتكون أرمينيا وعبر سرد متقطع جرَّاء رعب المسرود من ” ماريا” الطاعنة في السن وهي تعيش رعب ما كان بدورها، لتكون أرمينيا كما قلتُ قِبلة الأرمني، والعزاء في أن تاريخاً يعاش لا بد أن يجمع شمل من تشتتوا، إنما دون نسيان الذاكرة الجريحة في العمق. ثانية، وبصدد جملة وشوم الجدة، أذكّر بالعلامة التي جعلها الرب لقابيل إثر قتله لأخيه هابيل في ” سفر التكوين” حتى لا يتعرض له أحد، أي شبح هابيل نفسه حيث الوسط المحيط به كان خلاء، هذه العلامة ربما كانت وشماً ما، في مكان معلوم مسايرة لتقليد قديم في سياق التعامل الوشمي الجسدي، أما بالنسبة لوشوم الجدة، فإن وشومها لم تخترها هي، إنما الآخرون الذين لا صلة لها بهم، إنها علاماتهم المتداخلة وحتى المتضاربة التي تدل عليهم، ونفي كل ما له صلة بالإنسانية عنها، وهي في صمتها وبقائها” جثة تمشي” كما ورد ذلك على لسان المخرجة، إنما تدين الجميع، بقدر ما تدين العالم الذي وقف وراء هؤلاء، كلٌّ حسب نوعية جرمه أو عنفه فيها، بقدر ما تخاطب العالم الذي تابعها على الشاشة، وتستجوب أصحاب الضمير عبر إشارة نافذة مرسلة من العين الأصدق إنباء من الأذن، سائلة عما يمكن فعله، بصدد مأساة معاشة تقولها عظام من دفنوا هنا وهناك، وليس في مرقدة وحدها، والتراب الشاهد على مذبحة تاريخية، لما يزل جناتها خارج قفص العدالة، وفي النقطة هذه يمكن مكاشفة الدور المنتظر للمعنيين بالعدالة عالمياً والاقتصاص من المجرمين. شكراً للمخرجة سوزان خارداليان على وثائقية فيلمها، وشكراً للصديق أنطوان أبرط على سلاسة الترجمة، وللحذق جاك على نباهته في التنفيذ، حيث وشوم الجدة الأرمنية ترافقت مع لغة لم تجارها، ولكنها أدت مهمتها في تبين مأساتها.