الجامع ذي الحجارة البيض

دلور ميقري

شجرة التوت:
حيّنا الدمشقي، ركن الدين، هوَ جارٌ قديم للغوطة؛ الحسناء ذات الوَشم الأخضر.

بساتين الحيّ، المونقة بشتى أنواع الشجر المثمر، كانت ملعبَ طفولتنا. إلا أن رَمية أقدامنا، كانت تصل أيضاً إلى قاسيون؛ الجبل المقدّس، المحتضن منذ الأزل اللؤلؤة الدمشقية، النادرة. صغاراً كنا، تشمل نظراتنا المشهدَ المخضوضر للغوطة، ونحن في موقفنا على صخور السفح الأكثر علواً. آنذاك، كانت جدّ محدودة رقعة ُ العمران في الشام، مقارنة بغوطتها وبساتينها ومزارعها وحدائقها: لا غروَ، إذن، أن يشبّه الشعراءُ الأقدمون دمشقَ بالفردوس الربانيّ، الموعود، غابطين ساكنيها لنيلهم ثوابَ الآخرة في حياتهم الدنيا.
أسطورة قابيل وهابيل، المروية يقيناً في القرآن، جرَتْ أحداثها ثمة، في سفح قاسيون؛ أين مغارة الدم، التي ما تفتأ ملطخة بنجيع الأخ القتيل. بالمقابل، جسّدَ فن النهضة، الأوروبيّ، جانباً من تلك الأسطورة، عبرَ لوحات كبار الرسامين؛ كما في مشهد معرفة الخير والشر، المتمثلة بشجرة التوت. عورة الأم الأولى، كانت في كثير من لوحات ذلك الزمن مستورة بإحدى أوراق شجرة التوت، المباركة؛ الشجرة نفسها، التي كانت الأشهى في ميزان ذوقنا، الطفوليّ. إحدى الأشجار تلك، كانت تظللُ ببركتها الفناءَ الداخلي لمسجد سعيد باشا؛ وهوَ المسجد، المتوسط موقعه سلسلة الأزقة الضيقة، الكائنة في شرقي الحيّ. بالرغم من وفرة ثمار التوت، سواءً بسواء أكان في بساتين المنطقة أو جنائن المنازل، بيْدَ أننا ما كنا نتورع وقتئذٍ عن الإغارة على شجرة المسجد، اليتيمة، غير عابئين بنظرات السخط من لدن بعض المصلين.
*
منذ اشتعال الثورة الحالية، رأيتني مشدوداً للأخبار المتعلقة بالحيّ، والتي كانت تتفاوت تأججاً وخموداً، بحَسَب نسبة القمع والحصار. ومثلما في موقعه الجغرافيّ، المميّز، دأبَ مسجد سعيد باشا على كونه مركز الاحتجاجات في شرقي ركن الدين؛ خصوصاً في أيام الجُمَع وكذا خلال تشييع بعض الشهداء. هذه الحقيقة، دفعت الأجهزة الأمنية لاحتلال المسجد من خلال عناصرها، علاوة على الشبيحة. ربما أن هؤلاء الأشخاص، الدخلاء، يحاولون تبديدَ ضجر مهمتهم عبرَ السطو على شجرة التوت في ميقات نضج ثمارها، المُبكر. أتخيّلُ اللحظة عيونَ مُريدي الصلاة، التي اعتادت على رمينا بسهام شررها المتوعّد، مفترضاً أن معظمها أضحى الآن تراباً رميماً. أما أتراب طفولتنا، فلا بدّ أنهم اليومَ في عمر أولئك الأسلاف، ومثلهم على السواء يرمون بنظراتٍ جانبية، مواربة، جماعة الأمن والشبيحة، التي تحتل المكان المقدّس.
أبو شير:
مقابل مدخل مسجد سعيد باشا مباشرة ً، كان منزلٌ متواضع، أثريّ، يقبعُ ثمة وكأنما هوَ حارسٌ للمكان المقدّس. غيرَ أنّ صديقنا، أبا شير، ابن صاحب المنزل، كانَ آنذاك شيوعيّ العقيدة. بالرغم من أنه يكبرني بعقدين من الأعوام تقريباً، فقد كانت حجرته الصغيرة، الفقيرة، معقداً أثيراً لصُحبَة شلتنا. لقبُ صديقنا، كان يوائم شخصيته الجسورة ( شير: تعني أسد، بالكردية )؛ مثلما يتواشج مع الجادة، المُحتفية باسم القائد الأيوبيّ شيركو؛ أو أسد الدين.
في زمن الوحدة المصرية، صادف وجود أبو شير في سجن القلعة حينما امتلأ بالسجناء السياسيين، وغالبيتهم من الشيوعيين. من جهته، فإنّ صديقنا كان آنذاك محكوماً بجرم جنائيّ؛ هوَ المُشتهر بالحارة بصفة ” العكَيد “. أشهر قليلة، على أثر لقائه بأولئك الضيوف الجدد، وإذا به قد تحوّلَ إلى انسان آخر تماماً. هكذا خرج من السجن بعدَ انتهاء حكمه الجنائيّ، ليدخله من بعد بتهمة سياسية هذه المرة. حينما كنتُ في بداية وعيي، كثيراً ما مررتُ خافقَ الفؤاد قدّام دكان الخضار، العائد لرزق فتحي آل رشي، والذي كانَ مزيناً مدخله بصوَر لينين وبكداش؛ هناك، أين اعتاد صديقه أبو شير على الجلوس مع آخرين من ” الرفاق “.
حادثتان، رسختا الصورة الجسورة لابن الحارة أبي شير، في ذاكرتي على الأقل. ففي مستهل السبعينات، جرَتْ انتخابات مجلس الشعب على أثر الانقلاب الأسديّ؛ أو ما عُرف بالحركة التصحيحية. المنافسة في الحيّ، كانت على أوجها بين المرشح الشيوعي خالد بكداش والمرشح الاسلامي مروان شيخو. في أجواء الاحتقان تلك، كان أبو شير في حجرته ليلاً مع بعض الأصحاب، حينما تناهى من الخارج صوتٌ ينده باسمه. قبل ذلك بنحو ساعة، كان قد اصطدمَ مع شخصين يبدو من مظهرهما أنهما غريبان عن الحارة، وكانا منهمكين بتخطيط اسم المرشح الاسلامي على جدار منزله. ويبدو أنهما رفضا التوقف عن الكتابة، فاندفع نحوهما بغضب فانتزع من أحدهما الوعاءَ المملوء بالدهان الأسود ليرشه على اسم المرشح العتيد. وإذن، حينما خرجَ أبو شير ليرى من المنادي باسمه، إذا بوابل من الرصاص ينهال عليه من سلاح اوتوماتيكي، كان يحمله شخصٌ داخل سيارة ” سوزوكي ” متوقفة على مبعدة قليلة من المنزل. لدقائق، تبادل صديقنا النارَ مع ذلك المهاجم، المجهول، الذي فرّ من ثمّ بسيارته بعدما فاجأته ولا شك شجاعة الخصم. الحادثة الثانية، جرَتْ أيضاً في أجواء انتخابية، مشابهة. إلا أنّ المرشح الاسلاميّ نفسه، كان يواجه في بداية الثمانينات زوجة الرفيق بكداش. هذه، كانت صوَرها قد ألصقت في ليل أحد الأيام تلك على مدخل مسجد سعيد باشا، مما شكلَ استفزازاً لبعض مريديه من جماعة شيخو. في الليلة ذاتها، اعترض أبو شير أحدَ أولئك المريدين، وكان يقف فوق سلّم خشبيّ مشغولاً بإزالة صورَ الرفيقة الشيوعية. رشقة من طلقات صديقنا، المتجهة فوق رأس خصمه، كانت كافية لهذا الأخير أن يسقط على الأرض وليجثوَ هلعاً متوسلاً.
       
          *
وإلى مبتدأ التسعينات، حينما وصلتني رسالة من الصديق أبي شير، كانت تنضح بالمرارة والخيبة والاحباط. خلال الفترة تلك، الشاهدة على انهيار دول المنظومة الشيوعية، كان صديقنا ما يزال موظفاً في وكالة أنباء موسكو. حيث سبق ونجيَ بأعجوبة من انفجار عبوة ناسفة، وضعها اسلاميون متشددون في أوائل الثمانينات عند مدخل بناء الوكالة في منطقة المالكي، الراقية. وإذن، علِمتُ من رسالة أبي شير بإغلاق مقر الوكالة وحصوله من ثمّ على تعويض هزيل. الشيء الأهم، ما وردَ بين سطور رسالته من حنق على سياسة أقطاب الحزب البكداشي، المُحابية لحلفائهم البعثيين.
بضعة أعوام أخرى، ثمّ باغتني صديق مقيم في السويد، كان بزيارة للوطن، عندما عرضَ على ناظري صورة لأبي شير وهوَ خارجٌ من مسجد سعيد باشا مع المصلين. رفيقنا الشيوعيّ، سابقا، اختارَ مثل كثيرين الانكفاء إلى الحالة الروحانية، التي اجتاحت المشرق على اثر انهيار الاتحاد السوفياتي. ربما جاز للصدفة، التي جمعت أبا شير بالشيوعيين لأول مرة في السجن، أن تتكرر بطريقة أخرى، مغايرة: أي أن تلاقيه، في المسجد هذه المرة، بنفس الأشخاص الاسلاميين، الذين تبادل معهم اطلاق الرصاص فيما مضى من عمر. وعلى أيّ حال، فإنّ مسجدَ سعيد باشا، كما سلف القول، صارَ رمزاً لحركة الاحتجاج في حيّ الأكراد منذ انطلاق الثورة قبل عام. في المقابل، يُقال أن منزلَ الرفيق بكداش، الذي كان بمثابة كعبة لشيوعيي الحي، قد أصبحَ اليومَ في دركٍ حضيض من المكانة والسمعة بين الأهالي.
خطيب المسجد:
في روايتي، ” برج الحلول “، يتساءلُ الراوي ما إذا كان يعيشُ في ” عصر الأساتذة “. مغزى السؤال، كان يشير إلى عدد من شخصيات هذا العمل الروائي؛ التي تداولت لقبَ ” الأستاذ ” فيما بينها اتفاقا. خطيبُ المسجد ذي الحجارة البيض، هوَ كنايَة عن شخص حقيقيّ كان يَخطب في مسجد سعيد باشا في بداية الثمانينات؛ أيْ في ذات الحقبة، المَبني على أساسها زمنُ الرواية. وإذن، حينما يقعُ خطيبُ روايتي بيد الأجهزة الأمنية، فإنه يعود إلى مريديه خلال خطبة الجمعة التالية وقد طرأ تغيّرٌ بيّن على أحواله. فلم يلبث أن صارَ داعيَة للجمعية ذات الشعار المثلث، مما دفعَ معظم مريديه للنفور منه ومقاطعة دروسه في المسجد.
” الأستاذ محي الدين “، هوَ شخصٌ يمتّ لي بقرابة بعيدة. كان يكبرني بعامين على الأقل، إلا أنه صارَ زميلاً لي في الصف السادس الابتدائي بسبب تكرار رسوبه. فيما بعد، برز اسمُ هذا القريب في الحارة بوصفه اسلاميّاً متشدداً. الحادثة الداهمة، المقدّر لها أن تجعل حياته على منقلبٍ آخر، كنتُ قد فصلتها في الجزء الثالث من سيرتي الذاتية. وباختصار شديد، أنّ الرجلَ كان قد اصطدمَ مع دورية للأمن السياسي، عند الطريق العام المؤدي لمشفى ابن النفيس. نبرَة التحدّي، التي جابه بها ” الأستاذ ” أفرادَ الدورية، كانت اعتيادية يومئذٍ في منطقة يطلق عليها الشوامُ نعتَ “حارة شيكاغو”. بيْدَ أنّ ما غابَ عن ذهن أستاذنا آنذاك، أنّ الزمن تغيّر تماماً مع سيطرة عسكريي الريف الساحليّ على مقاليد الحكم وفرضهم من ثمّ سطوة شديدة، مرعبة، على كل مناحي الحياة في البلد. على ذلك، تحوّل الاسلامي المتشددُ إلى مريدٍ مخلص لمفتي الجمهورية، ثمّ ما لبث أن تجاوز شيخه إلى التعاون مع ” شيخ الجبل “؛ الذي أسسَ جمعية المرتضى الطائفية. في بعض أعراس الحارة، كان من المعتاد وقتئذٍ رؤية هذا الخطيب وهوَ على رأس الزفة يهتف وأتباعه باسم ” أبي دريد “. كذلك تمّ تشجيعه على خوض انتخابات مجلسَيْ الإدارة المحلية والشعب، دونما أن يتاح له مرة حظ الفوز.
*
” الدكتور محيي الدين “؛ هكذا صارَ لقبُ خطيب مسجد سعيد باشا، منذ منتصف التسعينات. على حدّ علمي، فإنه كان قد فشل عدة مرات بنيل الشهادة الإعدادية حتى زهدَ فيها واتجه على ما يبدو لتحصيل الدكتوراه، غيابياً، من جامعة الأزهر القاهرية. وهذا تماماً ما سبق وفعله الشيخ الحسون، مفتي الجمهورية، الذي عينه وريثُ آل الأسد بمكان الشيخ الراحل، العلامة أحمد كفتارو؛ أحد أهم الشخصيات المتنوّرة في العالم الاسلامي.

وكما في حالة مصر، بعد انتصار الثورة، فربما يتاح لأمثال دكتورنا فرصة إعتلاء الموجة الدينية وارتقاء درجات مبنى مجلس الشعب، الذي لطالما حلمَ بعضويته فيما مضى من عمر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…