الضحك إلى الأبد!!

جهاد أسعد محمد

دخل “أبو عرب الشامي” في حالة مدهشة من الضحك المزمن منذ الربيع الماضي، وراح صوت قهقهته المدوّي يملأ الأرجاء منذ الفجر حتى آخر الليل، مخترقاً الجدران والنوافذ وغرف النوم وأسوار المدارس والجوامع وخرسانات القصور ونقاط التفتيش الحدودية… ولم يستطع أحد حتى الآن أن يخرجه من هذه الحالة، أو يخفف من وطأتها… أو يكتم صوته!.
هذه “الحالة الغريبة” كما يراها “(الحكيم) أبو مسعود العطّار” الذي كان أول من حاول معالجته وفشل فشلاً ذريعاً، لم يشهد مثلها العرب أو العجم من قبل، ولم يسبق أن تحدثت عنها كتب الطب العربي التي يحفظها عن ظهر قلب، ولا كتب الطب الإفرنجي التي يزعم أنه اطّلع على معظمها وهو يدرّس ابنه “الغرّ” مسعود الأجدب الذي تخرج حديثاً من كلية الطب!
وهذا الرأي يوافق عليه الشيخ “شعبان أبو خف” الذي جرّب مع “أبو عرب” كل وصفات الطب النبوي، والمعوّذات، والأدعية، والآيات السرية، المقلوب منها والجالس، ولم يترك أميراً من أمراء الجان، ولا عفريتاً ولا مارداً مسلماً أو كافراً أو مجوسياً أو بوذياً إلا واستحضره واستعان به لمعالجة “أبو عرب” من دون جدوى.
إلا أن المعلم “أبو كرش”، الأستاذ الرصين وصاحب الدم البارد، لم يوافق الاثنين على خلاصتهما رغم أنه لم يفحص “أبو عرب” عن قرب، وأكد للجميع وهو يتجشّأ أن المسألة “فيها إنّ”، ومن الضروري التروي قبل إطلاق الأحكام، فـ”أبو عرب” منا وفينا.. وهو رأي آزرته فيه العرّافة “نبيهة أم البسس” التي أكدت أن “أبو عرب” آدمي وعاقل، “بس أكيد فيه حدا عامل له عملة، وأنا من جهتي رح وقّف معو ورح أعطيه من اللي الله قاسمو بركي بيتحسّن”.
توصّف زوجته الداية “أم عرب” حاله بأنه أشبه بمن سمع نكتة “بتطيّر العقل”، ولم يعد بإمكانه منع نفسه من الضحك.
وتقول ابنته الصغرى “لطيفة” أنه صار فجأة مثل الأولاد الصغار، مرحاً ومشاكساً ونشيطاً، وغابت من محياه ملامحه الواجمة والأخاديد والتجاعيد التي حفرها الزمن والمحن الصعبة والصمت الطويل.
ويقول جاره وصديق عمره “أبو مستو الجزراوي” الذي لم يتخلّ عنه أبداً في أي ظرف، إنه بات كمن تطوف الملائكة حوله، قدماه بالكاد تلامسان الأرض، وروحه تحلق عالياً في السماء.
أما ابن عمته “تحسين الفسّاد” وهو أهم مخبر وكاتب تقارير في الجوار، فيصرّ أنه صار مجنوناً وعدوانياً و”ما بينطاق”، وإذا مات “بيرتاح وبيريّح”، لأنه منذ دخوله في هذه “الحالة الهيستيرية” لم يعد أحد يستطيع أن يمشي بأمان في الشارع، أو ينام مرتاح البال، أو يعمل أو يدرس دون قلق أو ضجيج.
يختلف الحلاقون هنا حول اليوم الذي هاجت على “أبو عرب” عاصفة الضحك.. فالحلاق “أبو لسانين” يروي لزبائنه كيف دخل أبو عرب في حالته الاستثنائية هذه فيقول: “الرجّال كان ما أحلاه، بس بآخر نيسان الماضي تجادل مع ابن عمته تحسين الفسّاد اللي فسد عالشباب اللي طلعوا أول مظاهرة، قام تحسين وقف على حيله وقال له: أنت واحد مندس!!.. قام أبو عرب من ساعتها ما عاد إجاه غير الضحك”.
غير أن خصمه في الكار الحلاق “أبو ضرس” فيروي قصة مختلفة كلياً فيقول: بأول أيار من العام الماضي كان أبو عرب حايص ولايص مشان يطلّع ابنو من الحبس بعد ما شحطوه من المظاهرة، ومر لعند “أبو مالك العيوشي” لعل وعسى يساعده لأنه ما بيبطّل حكي عن نصرة المظلومين، قام العيوشي المفزلك -الله يصلحه- طرقه محاضرة عن حقوق الفقراء والتغيير الثوري، قام لما سمع أبو عرب كلمة “ثوري” فرط من الضحك ومن يومها وهوّه على هالحال”..
أما حلاق الحارة الغربية فيقص على زبائنه قصة ثالثة: “يا جماعة خذوا الحقيقة منّي.. أبو عرب كان سهران مع مرتو وأولادو عم يتابعوا الأخبار على تلفزيون الدنيا، والمذيعة نازلة حكي عن المؤامرة والممانعة.. كل كلمتين وراهن مؤامرة وممانعة.. مؤامرة وممانعة.. مؤامرة وممانعة… قام فقع الزلمة هديك الضحكة، ومن يومها خود على ضحك.. ما ظللّو خواصر المسكين”!!.
“أبو عرب”، الذي ما انفكت موجات متتالية من الضحك تداهمه ليل نهار، صار حديث الناس في كل مكان، وعبرت شهرته الحدود وانتشرت في الجهات الست، واجتمع كبراء الأرض أكثر من مرة لإيجاد حل له لكنهم لم يتفقوا على شيء..
أخوه في الخليج الذي لم يكن في يوم على وفاق معه، دقّ على صدره حين سمع قصته، وقال: “يا باطل.. أنا لها”، ثم أرسل له مع وكيل أعماله مالاً للعلاج وبعض النصائح و”الجلابيات”.. لكن ذلك لم يجد نفعاً..
أخوه غير الشقيق الموجود في تركيا، غضب وانزعج حين سمع الخبر، وأقسم من ساعته أنه سيشفيه من دائه مهما كلّف الثمن، ومنذ ذلك اليمين المعظّم وهو يرغي ويزبد دون أن يعلم أحد إن كان قد فعل شيئاً مفيداً حقاً أم لا..
أخته المتزوّجة في الأردن التي فتحت مضافتها المغلقة منذ الأزل لاستقباله، حلفت وتحلّفت وتعاطفت، لكن “أبو عرب” ما يزال يضحك..
ابن عمه الذي يعمل في ليبيا صرخ: “أبو عرب.. حبيبي.. لعينيك..”، لكن صراخه ضاع سدى في الصحراء مع أصوات الثأر وحفارات النفط.
أبناء خالاته وأخواله في المهاجر جافاهم النوم منذ أن وصلهم خبره، وتبنوا قضيته، وحملوها معهم إلى كل المحافل الدولية، وتحدثوا باسمه، وشرحوا حالته في الجامعات والمستشفيات والبرلمانات والقصور الرئاسية وعلى شاشات التلفاز.. لكن لم يتغير شيء، وظل الضحك مستمراً..
يضحك أبو عرب الشامي.. يضحك.. رغم كل شيء يضحك.. اعتقل معظم أبنائه بالتتالي وظل يضحك.. سقط أكبر أولاده شهيداً في إحدى المظاهرات وظل يضحك.. اعتدوا على إحدى بناته وظل يضحك.. هرب ابنه الأوسط إلى الجبال وحمل السلاح وظل يضحك.. داهموا بيته مرات عديدة وسرقوا بعض محتوياته ولم يتوقف عن الضحك.. يسير في المظاهرات وهو يضحك.. ويقلّم أشجاره وهو يضحك.. ويصلح الخزانات والأبواب الخشبية والمفروشات القديمة وهو يضحك.. يضحك في الليل، وفي النهار، وفي الحر والبرد.. يضحك كلما انقطعت الاتصالات، وكلما انقطعت الطرقات، والكهرباء، والمياه، والمحروقات.. ويضحك كلما نُصبت حواجز جديدة، أو انتشرت آليات ثقيلة، أو قُصفت مدينة عاصية.. ويضحك كلما سمع من مسؤول محلي رواية عجيبة أو خطاب وطني محكم..
تقول زوجته: من الآن فصاعداً لن يتوقف “أبو عرب الشامي” عن الضحك أبداً، فقد عبس في حياته بما فيه الكفاية”..
Jihadam2009@hotmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…