إذا كانت بطون المطابع لا تفتأ تقذف يومياً الكثير من الأعمال الأدبية، في حقول الشعر والنثر الإبداعيين، ناهيك عن أن هناك مايقابل هذه الأعداد من الكتب المطبوعة، أو يزيد عنها، في مايتعلق بالفنون الإبداعية الأخرى، من موسيقا، وتشكيل، ومسرح، وسينما، وهذه الأعمال كلها، لتحتاج إلى أن يتم تناولها من قبل نقاد حاذقين، مختصين، في كل تلك المجالات المشار إليها.
ومن جهة أخرى، فإن من يمتلك الحسَّ والذائقة النقديين، يستطيع تسجيل مقاربة مقنعة من عوالم النص الإبداعي، حتى وإن لم يكن هذا الشخص، ناقداً، أكاديمياً، مختصاً، و إن نصه الموازي الذي ينتجه، قد لايكتفي بالتماهي مع النص النقدي، بل يكاد يبزُّه، من حيث إمساكه بهيولى النص الإبداعي، ومفاصله، ومحاولة استنتاج حكم قيمة فيه، حتى من دون أن يعترف بذلك، تماماً كما يفعل النقد الحقيقي.
وقد بات معروفاً، أنه لايمكن لنا أن نتصور أي نص إبداعي، في معزل عن النقد، لأن النقد يعد الحالة الراقية التي تتيح لنا استشراف حالة الإبداع، وتقويمه، ومعرفة الجوانب المضيئة، أو المعتمة فيه.
والنقد، قرين الإبداع، وامتداده، ومكمله، ومحاوره، أو هو الإبداع مؤسساً على الإبداع، مادام أننا لايمكن أن نتصور نقداً، في معزل عن الإبداع، إلا أن هناك علاقة تفاعلية، بين النقد والإبداع، وسبب ذلك يعود إلى أن النص الإبداعي العالي، يفرز نقده العالي، بيد أن النص الهابط، لايمكن له أن يرتقي بالنقد، بل سيأسره، ويكبحه، فيظل في أفق محدَّد، ما يجعل الحوارفي مستوياته الدنيا.
لقد عرف النقد، بحصافته، ورصانته، لأنه لايمكن أن يصدر إلا عن اثنين، أحدهما المبدع نفسه، حيث يستحصل ثقافة عامة، تحيط بالمجال الإبداعي الذي يشتغل عليه، يستوي هنا الشاعر، كما الموسيقي، كما غيره، وقد تأسست عليه البداية الهلامية للنقد، إلا أن هناك الناقد الحقيقي، وإليه-تحديداً- يعود الفضل في بلورة النقد في صورته المتطورة.
ومع تطور وسائل التكنولوجيا والاتصالات، فإنه ولدت الحاجة الكبرى لتسليط الضوء على الأنواع الإبداعية، عبر الصحف أو المجلات، سواء أكانت شعراً أو نثراً، أو فناً بصرياً أو سمعياً، وهذا ماكان يتمّ إما عن طريق إخباري، دعائي، لايمت للتقويم النقدي بصلة- نتذكرهنا إعلانات إصدارات الكتب أو زوايا عرضها لدى بعض الصحف والمجلات- أوأن يكون ذلك عن طريق معالجة مطوَّلة، تتوافر فيها بعض الشروط النقدية، من خلال حاسة التذوق لدى الصحفي، بما يتماهى، أو يتواشج، مع العملية النقدية، حيث تتعلق درجة عمق النقد-هنا- تبعاً لإمكانات الصحفي، الذي يضطر إلى سدِّ الفراغ الذي يتركه غياب النقد، لنكون بالتالي أمام ضربين من النقد الصحفيي: أحدهما، يستطيع أداء مهمَّته المنوطة به، ضمن إهاب النقد الصحفي، إذ يبين جماليات هذا الإبداع، ويفلح في توظيف المصطلح النقدي، في حدوده العادية، في النص الموازي للنص الإبداعي، وهذا النوع من النقد الصحفي، يقدم ناقداً إشكالياً، أو صحفياً ملتبساً بالنقد، حيث يظل النص الذي يكتبه، بحاجة إلى شيء غير متوافرفيه، إلا إذا كان ناقداً صحفياً، فاعلاً، حيث يزداد الإشكال ، في هذه الحالة، لاسيما إذا كانت الفروق طفيفة، بين نقود هذا الناقد في وعاء النشر الصحفي، وغيره من قنوات وأوعية النشر التخصصية، لأننا في مواجهة ناقد ملتبس بالصحافة، والفرق بين كلتا الحالتين واضح. بيد أن الضرب الثاني من النقد الصحفي، هو الكتابة العابرة التي تتعالق مع النقد، في نقاط غير مهمة، وتدور في سطح النص الإبداعي، من دون أن تتمكن من الغوص في أعماق هذا النص، وبالتالي، دون التمكن من سبره، وتحديد واكتشاف مواطن جمالياته، ونقاط قوته وضعفه.
وحقيقة، ثمة بطء نقدي كبير، سواء أكان ذلك، في المؤسسات الثقافية، أو حتى في الجامعات، حيث أن النقد الإبداعي في الجامعات لايواكب حركة الإبداع، وإنما هو متخلِّف عنه، لدرجة أنه حتى الآن لم يتمَّ الاعتراف بقصيدة النثر، ناهيك عن هذه الصروح العلمية، تتناول النقد كماهو، ليستظهر السيرة الذاتية للنقاد القدامى، من دون أن ترتقي هذه الأساليب التعليمية إلى درجة الاقتران بالتطبيق، لذلك فإن خريج هذه الصروح والأكاديميات، لايستطيع أن يصل إلى المستوى الذي يتمكن فيه أن ينتج نصاً نقدياً، غيرمتعالق مع سواه، وهذه نقطة لابد من الانتباه إليها، لأننا إزاء مثل هذا الواقع نكون أمام شح نقدي، لايتناسب مع حجم الإبداع الذي يتطلب وجود ورشنقدية، تتابع النتاجات الإبداعية المتعددة، لذلك فإن أعمالاً إبداعية كثيرة، حرمت من مبضع الناقد الجاد.
إن الشحَّ النقدي الحقيقي، فتح المجال أمام النقد الصحفي، كي يتابع جزءاً كبيراً من النتاجات الإبداعية التي طالها النقد العميق، أو بعضها الآخر الذي لم يتوافرله نصيبه النقدي، لذلك فإن صوت الناقد الصحفي يعلو، في مثل هذه الحالات، لدرجة أن يكون التماهي، أو الالتباس بالنقد كاملاً، الأمر الذي يضعنا أمام إيجابيات وسلبيات هذ النقد الصحفي، فإيجابياته تكمن في أنه يسلط الضوء على النص الإبداعي، في غياب النقد، ويبين نقاطه المضيئة والمعتمة معاً، في ما إذا كان الناقد الصحفي متمكِّناً من أدواته، إلا أن خطورة الأمر تظهر تماماً، عندما نكون أمام ناقد صحفي، يتعامل مع هذا الضرب الكتابي، على نحو وظيفي، من دون أن يمتلك مايلزمه، من أدوات أولية لازمة، إذ يسيء بهذا إلى النص مرتين، مرة من خلال عجزه وكسله النقديين، ومرة أخرى من خلال عدم إضاءته، وهذا ما يفقد مبدع النص قراءة صورة نصه في مرآة النقد، من جهة، ناهيك عن أنه يخدع المتلقي، من خلال معالجته الخاملة، العقيمة، حتى وإن جاءت في إهابي القدح أو المدح اللذين هما سلاح الناقد العاجز، من جهة أخرى.
وأمام الفتوحات التي حققتها ثورة الاتصالات الهائلة، منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، وحتى الآن، على نحو خاص، حيث باتت الأمية الإلكترونية تمَّحى تدريجياً، وصارفي إمكان المبدع تقديم إبداعه، إلكترونياً، فإنَّ هذه النقلة الجديدة، سرَّعت من وتيرة الإبداع، في الوقت الذي بتنا نشهد عجزاً نقدياً هائلاً، ليس لتمييز الغثِّ من السمين، حيث كلاهما بات يطرح، على نحو هائل، يومياً،ما أوقع المتلقي، في دوَّامة حقيقية، حيث نلاحظ ارتحالاً للمعيار النقدي، لذلك فإنه من الممكن جداً، أن يتنطَّع الناقد الصحفي، لأداء دوره بالشكل اللازم، ليس عبر أوغية النشر التقليدية، فحسب، وإنما عبر الفضاء الإلكتروني، وإن كنا للأسف نجد أنه لايتم الانتباه إلى هذا الأمر، فالصحفي الناقد، قد يكتب في الرياضة، أو الصحة، أو غيرها، أحياناً، وز على ذلك أنه غير متخصص، عموماً، كما أن النقلة الكبرى في ميدان ثورة عالم النشر، تتطلب أن يكون هناك مايوفر موازة النقد للإبداع، في الصحافة الورقية، والإلكترونية، إضافة إلى ضرورة رفع العملية النقدية، عبر مؤسسات خاصة، كي توازي الإبداع، وهذا ما لم يتمَّ الانتباه إليه، بالشكل الكافي، للأسف….!.
وخلاصة القول هنا: إن الأكاديميات والمؤسسات التعليمية والثقافية، من جهة، ووسائل الإعلام الثقافية، من جهة أخرى، في حاجة ملحة، الآن، وفي هذه المرحلة التي رفعت ثورة الاتصالات والمعلوماتية من حجم نشرالإبداع، أن تضع سياسات جديدة، تتعلق بكيفية تطويرالعملية النقدية، لأن هناك خطراً كبيراً يهدد الأجيال الجديدة، لأن الإبداع كله أصبح في خطر كبير، محدق به، سواء أكان أغنية، أم موسيقا، أم تمثيلاً،أم قصة، أم رواية، أم شعراً، أم سينما، نظراً لاستسهال النشر، حيث بات كل شخص، ارتبط حاسوبه بالشبكة العنكبوتية، قادراً على أن يقدم نصوصاً ومواد تشبه الإبداع، بيد أنها ليست إبداعاً، وهذا ما من شأنه تخريب ذائقة الأجيال، والإجهاز على مستقبل الإبداع، إنها مجرد صرخة….فهل سنلاقي آذاناً صاغية…؟!.
ومن هنا، فإن هذا التطور الهائل، في مجال ثورة التقانة، ومراكمات النص الإبداعي، لابدَّ ستؤدي-في المحصلة-إلى ضرب نقدي جديد، يرتقي إلى أسئلة اللحظة المعيشة، وإن كان ذلك لايؤدي إلى ابتذال النقد، وخسارة عناصره الجوهرية، لأن من شأن توافر النص النقدي الأصيل، إلى الدرجة التي تؤهله للعب دوره، بالشكل المطلوب، ما يرفع من سوية النصين الإبداعي والنقدي، في آن واحد…..!.