دلاور زنكي
ولىّ الهزيع الأخير من الليل وأنا ما أزال مؤرق الجفن مسهداً موغلاً في الصمت والتفكير وقد دهمتني حيرة تفوق الوصف، تمر على خاطري فكرة تومض لحظة ثم تتبدد حين أجدها قاصرة عن أداء عما يختلج في صدري ولا يحمل معنى كبيراً ذا بال، غيرَ وافٍ بالمرام الذي هجرني النوم بسببه. فماذا يسعني أو يسعفني في ابتكار كلمات جديدة للكتابة عن فنان كبير شغل الناس بفنه الرفيع وملأ سمع الدنيا بصوته الشجي وموسيقاه الرائعة وألحانه الرصينة وحسن أدائه للكلمات الجزلة، الرزينة التي يختارها بفطنةٍ وحكمةٍ وذكاء من قصائد فطاحل الشعراء وكبارهم.
وهل في وسعي أن اقترف عبارات مرصعة ليست لها سابقة في نعت هذا الفنان الفذ، أو كلمة شائقة تنجذب إليها نفوس القراء وتهفو إليها قلوبهم. وهل أستطيع أن أضيف جديداً إلى ما قال وتحدث عنه الكتُاب من الأوائل؟ مثل هذا السؤال كان يؤرقني ويضع خواطري في لجة من القلق والارتباك. فمن ذا الذي لم يسمع باسم هذا الفنان الكبير؟ ومن ذا الذي لم يصغ إلى تغريد هذا البلبل الحزين الذي تتسم أغنياته بنبرة من الحزن ومسحة من التألم والأسى؟ كانت أسئلة شتى تنهمر عليَّ انهماراً جعلني أتقاعس قليلاً عن الكتابة ولكنني لم أحبط ولم أيأس، فقد بانَ لي أنني أعرف عنه أموراً قلما عرفه الآخرون إذ كان صديقاً حميماً وكان أقرب المقربين إليَّ وكنت أقرب المقربين إليه فكنا إذا التقينا عن سابق موعد أو جمعتنا الصُدفة بثَّ كل منا نجواه إلى الآخر وأمضى إليه بدخيلة نفسه. لقد كان صديقاً وفياً مخلصاً لكل أصدقائه ومعارفه بكل ما تتسع هذه الكلمات من المعاني. كان دمث الأخلاق، رقيق الحاشية، عذب الحديث، محباً لقومه عاشقاً لوطنه متعلق القلب بأرض بلده متشبثاً بالذود عن الحقوق الإنسانية أينما كانت في هذا العالم الرحيب. رؤوفاً بالمستضعفين رهيف المشاعر، رقيق العواطف. وكان إذا ذكرت أمامه أحوال الملهوفين أو سمع بأنباء بعض المنكوبين ذرفت عينه العبرات، واعتراه كرْبٌ وهمُّ.
في قرية “خجوكي” القريبة من مدينة “القامشلي” ولد الصبي: محمد شيخو مفطوراً على الشغف بالألحان والموسيقى ومما زاد من ولعه وشغفه لقاؤه مراراً بأحد خلانه “الشيخ فاروق الحسيني” الذي كان يقيم في قرية “بركو فوقاني-بركو الشيخ حميد” المتاخمة لقريته. والذي كان يجيد العزف على “الطنبور” ويتمتع بصوت رخيم. ولم تكن الآلة الموسيقية التي داعبت أوتارها أنامل الصبي “محمد شيخو” أول وهلة سوى وعاء مستطيل من الصفيح “التنك” شدت عليه أوتار انتزعت من ذيول فرس أو دابة أخرى.
ومن هنا قد تتجلى لنا عبقريته، فهو لم يدخل معهداً للموسيقى ولم يتعلم في أكاديمية ومع كل ذلك استطاع بفضل موهبته العظيمة ونبوغه أن يكوّن شخصيته الفنية ويرتقي بها ثم يغدو فناناً كبيراً ويبتدع مدرسة موسيقية فنية سار على مناهجها فنانون آخرون وانتفعوا بها انتفاعاً كبيراً. وما زال الفنانون الناشئون يحذون حذوه محاولين ولوج عالم الفن الرفيع.
في عام 1984م كان أول لقائي بالفنان “محمد شيخو” في مدينة دمشق في أحد أيام الاحتفال بعيد الـ “نوروز”، وقد ضم هذا اللقاء الشاعر الكبير “تيريز” والكاتب الكردي “بافي نازي” والرسام سعيد شوزي أبو جوان.
في عام 1985م دعوت بعض المعارف والأصدقاء إلى المشاركة في حفلة عرسي التي كنت أزمع إقامتها في “عاموده” وكان الصديق “محمد شيخو” أحد الذين وجهت إليهم الدعوة وقبل موعد ابتداء الحفلة بعدة ساعات فاجأني بحضوره ترافقه فرقته الموسيقية، وهو الذي لم يكن يلبي الدعوات لإقامة حفلات الأعراس ومناسبات الأفراح العائلية الخاصة.
وفي الحقيقة فقد وضعني حضوره في موقف حرج وأشعرني بخجل عميق فقلت له في استحياء: “ليتك لم تفعل ذلك” فقال: “هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لصديق أكن له الود والاحترام”.
لقد كان حضوره مثلاً رائعاً وبرهاناً ساطعاً على مدى تقديره ووفائه لأصدقائه، وكانت هذه البادرة الكريمة حجة دامغة على سمو هذا الصديق وعظيم قدره، وسوف تظل راسخة في ذهني إلى أبد الآبدين. لأنّ المآثر العظيمة تكون دائماً، في كل زمان ومكان عصية على النسيان.
في قرية “خجوكي” القريبة من مدينة “القامشلي” ولد الصبي: محمد شيخو مفطوراً على الشغف بالألحان والموسيقى ومما زاد من ولعه وشغفه لقاؤه مراراً بأحد خلانه “الشيخ فاروق الحسيني” الذي كان يقيم في قرية “بركو فوقاني-بركو الشيخ حميد” المتاخمة لقريته. والذي كان يجيد العزف على “الطنبور” ويتمتع بصوت رخيم. ولم تكن الآلة الموسيقية التي داعبت أوتارها أنامل الصبي “محمد شيخو” أول وهلة سوى وعاء مستطيل من الصفيح “التنك” شدت عليه أوتار انتزعت من ذيول فرس أو دابة أخرى.
ومن هنا قد تتجلى لنا عبقريته، فهو لم يدخل معهداً للموسيقى ولم يتعلم في أكاديمية ومع كل ذلك استطاع بفضل موهبته العظيمة ونبوغه أن يكوّن شخصيته الفنية ويرتقي بها ثم يغدو فناناً كبيراً ويبتدع مدرسة موسيقية فنية سار على مناهجها فنانون آخرون وانتفعوا بها انتفاعاً كبيراً. وما زال الفنانون الناشئون يحذون حذوه محاولين ولوج عالم الفن الرفيع.
في عام 1984م كان أول لقائي بالفنان “محمد شيخو” في مدينة دمشق في أحد أيام الاحتفال بعيد الـ “نوروز”، وقد ضم هذا اللقاء الشاعر الكبير “تيريز” والكاتب الكردي “بافي نازي” والرسام سعيد شوزي أبو جوان.
في عام 1985م دعوت بعض المعارف والأصدقاء إلى المشاركة في حفلة عرسي التي كنت أزمع إقامتها في “عاموده” وكان الصديق “محمد شيخو” أحد الذين وجهت إليهم الدعوة وقبل موعد ابتداء الحفلة بعدة ساعات فاجأني بحضوره ترافقه فرقته الموسيقية، وهو الذي لم يكن يلبي الدعوات لإقامة حفلات الأعراس ومناسبات الأفراح العائلية الخاصة.
وفي الحقيقة فقد وضعني حضوره في موقف حرج وأشعرني بخجل عميق فقلت له في استحياء: “ليتك لم تفعل ذلك” فقال: “هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لصديق أكن له الود والاحترام”.
لقد كان حضوره مثلاً رائعاً وبرهاناً ساطعاً على مدى تقديره ووفائه لأصدقائه، وكانت هذه البادرة الكريمة حجة دامغة على سمو هذا الصديق وعظيم قدره، وسوف تظل راسخة في ذهني إلى أبد الآبدين. لأنّ المآثر العظيمة تكون دائماً، في كل زمان ومكان عصية على النسيان.
ها هو ذا الليل قد طوى بساطه وانبلج الصباح ولم أستطع أن أضفي على هذا الخل الوفي ما يستحق من الثناء الحسن لأنه فوق كل إطراء.