من وحي نوروز 1986.. الى روح الشهيد: سليمان اّدي

 بقلم : فرمز حسين

الزمن يمضي حقا، الغريب أن كل واحد منا يظن نفسه بمعزل عن هذا المضي ، أقولها بطريقة أخرى:

هذه الحياة هي مسرحية كلنا أبطالا فيها، لكن الكل يظن نفسه متفرج!! الحاصل…. هذه الفلسفة تعلمتها من صديقي زورو الذي الذي لم تفته فرصة مشاهدة فيلم سينمائي واحد ، منذ أيام الطفولة المبكرة وحتى سنين الشباب الأولى. تعلم الانكليزية من أفلام رعاة البقر(الكاوبوي)والهندية من أغاني شامي كابور ومقارعة الأعداء بالسيف من (هرقل يس). عالم كامل يحمله في رأسه الصغير.
دمشق من الأماكن القليلة الذي لاينتابني فيه الشعور بالغربة على الإطلاق، بل أنني أستطيع أن أجزم بأنه المكان الوحيد في العالم الذي يمنحني ارتياحا لا تشوبه غصة. أتمتع بتنشق كل نسمة من هوائها ، دون التفكير بتلوث البيئة الغريب فيها .على الرغم من ذلك كان الحنين إلى مدينتي القامشلي  يشدني أحيانا، ! التقطت
علبة السجائر وقداحة (الرونسون)، اللتان كانتا من أهم مقتنياتي، يأخي لوقال لي أحدهم حينها لماذا تدخن السجائر، فهي مضرة بالصحة لضربته باللكمة على وجهه مباشرة. سلكت الطريق الجبلي الوعر، نزولا باتجاه سهل ميسلون، ومنها الحافلة التي تعود من الزبداني إلى دمشق .
توقعت مجيئك هذا المساء قالها  زورو وهو يبتسم من خلف مكتب الفندق العالي، الذي يعمل كاتبا في استعلاماتها، غدا عيد نوروز ولقد تواعدنا مع بعض الأصدقاء الفلسطينيين الذين سوف يحتفلون بالعيد تضامنا معنا. سوف تأتي أليس كذلك؟
صباحات الشام جميلة على مدار السنة ، لكن النصف الأخير من شهر آذار له خصوصية شاعرية فريدة، ليس النصف الأخير كله بل أيام أقل من أصابع اليد الواحدة منه، هي التي تعطيك هذا الإحساس الجميل عبر انتقال انسيابي خفيف من فصل الشتاء إلى الربيع . لفحة الهواء العذب في الأفق القريب، والشعور بأن الملابس التي على جسدك بدت وكأنها فجأة أكثر مما يجب.
كانت الساعة السادسة صباحا ، التقينا أنا و زورو مع بقية الشلّة ، التي كان قد تواعد معها على الرصيف الأيمن إذا كنت متجها إلى دمشق المدينة، من الشارع الرئيسي العريض في حي ركن الدين ،قبالة جامع صلاح الدين ،موقف المقاومة.
توافد الناس بالمجيء ومعهم حقائبهم المتخمة بالأطعمة والشراب،وأغلب النسوة قد لبسن زيهن الكردي بألوان جميلة صاخبة، بين كل مجموعة وأخرى هناك واحد أو اثنين يحمل (طنبوره) , نساء أطفال ورجال انه يوم النوروز . ازدحمت الأرصفة تدريجيا على طرفيها بالمشاركين. بدأت بعض الأغاني المتقطعة هنا وهناك. الجميع في انتظار الحافلات التي تم الاتفاق معهم مسبقا للانتقال إلى مكان إقامة الحفل خارج دمشق.
تجاوزت الساعة السابعة ثم الثامنة وبدأت عقارب الساعة تقترب من التاسعة ،حين بدأت الجموع بالتململ، وشوشة هنا وأخرى هناك ، فجأة وإذ بنا نسمع أحدهم يقول :المخابرات واقفين عند مشفى ابن النفيس ، يأخذون الأوراق من جميع سائقي الباصات ويأمرونهم بالعودة من حيث أتوا. فجأة
تغيرت سحنة وجوه الأطفال بقسماتها البريئة، من وجوه  مغمورة بالسعادة الى وجوه مقتضبة كئيبة وكأنهم يستهجّنون تصرفات الكبار الغريبة هذه. لم يمضي وقتا طويلا، حتى سمعنا هتافات تنادي بالحياة للكرد وكردستان ، والنزول من على الرصيف إلى الشارع ، بشكل تسلسلي عفوي بديع، من ابن النفيس مرورا بكيكية ، مقاومة، جسر النحاس وحتى ساحة شمدين حيث احتشدت بالناس، في تظاهرة عفوية مثخنة بإحساس عميق بالتظلم.
ماذا نفعل ؟ إلى أين نتجه؟ لم يستغرق وقتا طويلا حتى
قررت الجموع التوجه إلى القصر الجمهوري ، بالضبط وكأننا في ضيعة ويجب أن نشكو همّنا للأغا!
عبر حي المهاجرين الراقي ،توجهت القافلة إلى القصر ، بعض أهالي الحي خرجوا على شرفات منازلهم، أصبحوا أيضا يلوحون بأيديهم تأييدا لنا، حيث الجموع كانت تنادي  :(بچي كردستان بمره كوله دار  ) : (Bjî Kurdistan bimrê koledar  )
على الأغلب كانوا يظنّون بأننا من أفغانستان، باكستان أو ماشابه. لم يكن أحد يتخيل بوجود من يجرأ، على الخروج في مظاهرة مناوئة للسلطة، في قلب دمشق، باتجاه القصر الجمهوري سكن حافظ الأسد بشحمه ولحمه.
عشرة أمتار قبل وصولنا إلى الباب الرئيسي للقصر، حينئذ بدأ ت قوات الأمن بوابل من النيران الكثيف على المتظاهرين السلميين.لم تمضي سوى ثواني معدودة حتى سمعت أحدهم يصرخ بصوت مملوء بالأسى لقد أصيب سليمان…… لقد قتلوا سليمان !! قوات الأمن مدججة بالأسلحة بدأت تتدفق بغزارة إلى المكان لاعتقال كل من يقع في قبضتهم .فجأة سمعت صوتا مألوفا ينادي: ( سليمان خاطرى كردا )، حين التفت باتجاه الصوت، شاهدت صديقي زورو بين ثلاثة من عناصر الأمن وهم يجرّونه إلى الحافلة العسكرية .

قصة قصيرة
 بقلم: فرمز حسين
ستوكهولم 21-03-2012

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…