يوم للأرض يوم للحلم والخلاص

إبراهيم اليوسف

المرأة الثمانينية
التي تكنس ما تبقى لها
من أنفاس
في روزنامة الزمان
واحديداب الظهر
تصر على ألا تذهب بغبار باحة البيت بعيدا

“مطلع قصيدة لشاعرمشاكس”
 إبراهيم اليوسف

تعدّ الأرض الرَّحم الأول للكائن الحي، على وجه البسيطة كلها، بمن فيه الإنسان نفسه، ليكون وفق هذا التصورأشبه بشجرة، كلما تقادم الزمان شرشت جذورها أعمق.. أعمق، في باطن الأرض، أبجدية، وتاريخاً، وجغرافيا للحلم والواقع، ما يحدو بالشاعرالصوفي، وهو يُستنسخ في أسماءَ كثيرة ضمن متوالية خاصة، ليصور كل طبقة في أديم هذه الأرض على أنها جيل من البشر، وسفر من الرؤى، وهي كذلك، صميماً، في ما إذا انطلقنا من مسلَّمة معروفة، وهي أن التراب العنوان الأول والأخير، للآدميِّ، وسواه، من الكائنات الحية التي لايمكنه الحياة، في معزل عنها، ليتبادل معها السيرة، والعبق، والفرح،  والانتصار.

ولعلنا في ما إذا عدنا إلى المحاولات الأولى لتشكل فضاء الوعي الإنساني، فإننا لنجد أن الأرض استحوذت مكاناً جدَّ مهم، في أرومة هذا الوعي المتكون، كما أنها شكلت بنية الذاكرة الأولى للإنسان، وقس على ذلك في ما يتعلق بكل ضروب الفن والأدب. إذ أن الأرض كانت أول فضاء انفتحت عليه عيون آدم وحواء، على اتساعها، وأملها، وهما أمام أولى مهمة، ليدأبا على اختصارها، كي يلتقيا، بعيد بعاد، قسري، وفق الإرادة الأعلى، منذ أن غدت التفاحة مدعاة غواية الأم الأولى، والسيدة الأولى، لتؤول الغواية نفسها إلى التجسير بين عالمين متواصلين، بخيط السرة الواحد، منفصلين، انفصال الزمن الموقوت بالأزلي، ولتصير الأرض -بهذا المعنى- عنوان عقاب، وتجربة، واختبار، برأي بعضهم، كما هي لوحة القراءة، والدَّهشة، والاكتشاف، برأي آخرين، او أنها اختزال الفردوس، وصورته البهية، البهيجة، تجمع بين سؤال الطبيعة وما وراءها، حيث روعة صنيع الخالق، تقترن بأصداء صنيع المخلوق، وفق مسار مسبق الرسم، وهو ما يجعل اللوحة مفتوحة على التأويل والرسوخ، لتكون لكل من يدب على سطح الأرض أثره، نائساً بين عمران هو الأصل، ودمار طارىء كما صانعيه، أنى كانت نياشينهم، وألقابهم، ولغاتهم، وأنواع الفؤوس التي يعيثون بوساطتها هدماً وفساداً.  

والأرض، في الترجمة الأكثر شبهاً بها، الأقنوم بين البرزخين، والمحطة المؤقتة، يرمي الكائن الحي عليها أثقاله، وركام لحظاتها الميتة، وأشجاره، وعماراته، كي تبدوقزمة أمام ملامح هذا البعد المكمل للفضاء، قاعاً، ومسرحاً آدمياً، يطوي أكداس الأسرار، والأسماء، والبحار، والأنهار، والجبال:

لكأنها الأرض
حاضنة الحلم والجسد
دفترالحياة الأبقى
كل يترك خطواته أثراً
يدلُّ عليه
كلّ  يعلق على مشاجبها
صوته
في انتظار موشور اللحظة
أو الغد
كي يقرأه
عارياً من أي دثار
ساطعاً كبرق
يظلّ يواصل نذيره الضوئي
نارنجاً
ونعناعاً
وأسئلة
نفكُّ ربطاتِ عنقها
أبداً…

 وللأرض، مدى الحبر هنا، يتردّد بين يومه البيئي، ويومه لدى الإنسان المقهور، مسلوب المهاد، كي يواصل أصداءه، أنى كان هناك خلل في المعادلة الكبرى، في ظل من ينفخ في المدى الخوف، وأكسيد الكربون، واشتقاقاته، نقيض الأوكسجين، بنّاء الحياة، وأسطون الأرواح، في وجه المصانع، وشغب الكائن البشري، يواصل خراب خلايا المكان، بل في أنموذجه القابيلي، يشطر الخريطة الكردية أربع جهات، أو يصادر أرض الفلسطيني عن بكرة سندات تمليكه الروحية، في ذيل آذار1976، كي يهيكل الدم أصداءه، في الجليل، ومثلث الاغتصاب على إيقاع الرصاص، والمذابح، ويجعلنا اليوم نستذكر جبلَّة التراب والدم، في يوم نسميه ب”يوم الأرض”. يوم يقرأ فيه الشاعرقصيدته، فيحاول الرقيب لجمه، بيد أن ذلك لن يحول دون مواصلة نشيده، على طريقته الخاصة، لتكون الأرض مدى أصداء إيقاعاته، وصوره الموغلة في الحلم، يتجاوز ألغام الحزن والانكسار:

هي الأرض
في يومها
توزع مفاصلها
على اللغات
والألوان
وتغص
في دمع وبكاء
أنى اختلت موازينها
الموقوتة
فاتحة صدرها
للمليارات من الأبناء
يحفنون الوقت
وهم يتهجون ماءالحياة
في إهاب حلم
سماوي
فارع

ومفكرة آذار التي تدلّ منذ مطلعها على ولادة عظمى، في قامة تشبه الوتد الأرضي، طوداً، عالياً، فارع البسالة، تسيرعلى هدي الدم والعزيمة، محطة تلو أختها، لتظهرالمرأة،وهي تنورز حنوها، في هيئة إحدى وعشرين حديقة، وقارة، تشير إلى”يوم الأرض” في طبعة أخرى، وترجمة أخرى، إذ تقترن المدن ببعضها بعضاً، في كرنفال، يؤكد اخضراره فحوى انتصارالمكان على الظل الغريب، أنى تلون، في ثياب الحرباوات، مخبئاً أدوات الموت التي يحملها، ضد ابن المكان نفسه، لأنه يرى في استمرارحياة سواه، ما ينغِّص عليه الهواء، واستساغة الدم البريء، والنظرية الكاذبة، مايدفعه للهرولة في الاتجاهات جميعاً، مهجوساً بالاستعلاء والغرور وغريزة القتل:

لك أن تسمي بيتي باسمك
لك أن تطلق علي
 أي اسم آخر
كسهم
او رصاصة
أو قذيفة
لك أن تغير اسم قريتي
لك أن تبدل اسم مدينتي
والكرة الأرضية
لك أن تبدل
اسم الدالية وشجرة الجوز
لك أن تذبح اسم الينبوع والنهر
والجبل
في لحظة ما
عابرة
لك أن تبدل ملامح الكواكب
الكرة الأرضية
-إن استطعت-
بيد أنني سأظهر من تحت الأنقاض
سأظهر
سأظهر
حيث لا أثرلك
ولمجازرك الشاسعة
في  تخوم خريطتي وأنفاسي

كلها
 كي أعلن
عن أسماء الأشياء الأولى
في عمق عذريتها
وطهرها
كما هي محفورة في الأذن
كما هي ممهورة
في الروح
والدم
كما أنا
كمي هي
تماماً

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…