الطيبون حتى النخاع
النبلاء بأرواحهم
الحكماء بأناملهم النيّرة
أيها الذين توافدوا إلي، إلى خيمة عزاء الوالدة” الوالدة الوالدة” بقلوب ملؤها الأسى والحياة التي تسند حياة تلكأت بموت لا يقاوَم، والذين أتوا بأصواتهم وبرقياتهم، كما هي أسراب الينابيع في الهواء الطلق، ومن الجهات الأربع..
شكراً للأصوات المسموعة في جملتها، والمسطّرة في كلمات بالكردية والعربية عبر برقيات أبرقت حبَّها، شفافية، ومؤاساة.
لا آخذ بالكلمات في عددها أو بيان ودّها، إنما بدلالتها، بإشارتها، آخذ بها على أنها ضرب من ضروب الإنسانية..
لم تعد أمي التي آلمتني في فقدها الأبدي، هي ذاتها أمي التي عشت آلام آلامها بالحواس الخمس، وروحي طويلاً، وفي أيامها الأخيرة، وأنا أعاين فيها مشاهد تترى منها في وجهها الذي كان يتقلص ألماً، ووراء جلدها الذي استرق حيث قفصها الصدري يغور نحو الداخل، وأنا أبصر روحها الشامخة: ضلعها الأسطوري مذ كان الإنسان الأول، كانت حواؤها، حيث درس المجاهدة الحياتية.
إنها أمي التي شدتني برباط حميم بمعنى الأم الأعظم، لكل منكم، حيث تكون أمهاتكم: اللواتي ودعنكم واللواتي لما يزلن في الحياة برحابتها..
أشعر أن للأمومة أكثر من لائحة أسماء، ومن دائرة انتماء، ودلالة.
هل يمكن لي أن أكتب ذات ملحمة الأمومة الكبرى في الحياة.؟
لكَم جاءتني كلماتكم المسموعة وهي تمخر عباب الهواء الطلق مجدداً، خارقة الحدود تلو الحدود أو عابرة إياها، جوار الكلمات التي علت بياض الشاشة البيضاء، لتتناغم معاً في عبارة لا تقدَّر وجاهة ونباهة: العزاء!
الأصدقاء العزائيون، العزائيون الأصدقاء، أكثر من الموت وأكبر منه، يكون هذا المتلقى مما سمعت وقرأت، مما لمست وعشت في خيمة العزاء، وفي محيطها، حيث العزاء تعددت وجوهه ومقاماته، حيث تكونون في تنوع أصواتكم..
لكم جميعاً قلبي المفتوح، تقديري الذي لا أستطيع وصفه، موجزه الذي يقول: ثمة مجال للتعلم حتى في ذروة الألم، والموت ذروة المأساة، ذروة القيامة التي نحياها فيما بيننا، إلا أنها ذروة الشعور بالآخرين، حيث قلوبهم تنبض
وداً.
أعترف لكم أيها الأصدقاء بالجملة، أنني صرتُ في الحياة أكثر من خلال من نوَّهت إليهم بكلماتكم الضوئية، حيث يعرفون أسماؤهم، كما يعرفون أصواتهم، كما يعرفون خطاهم في محيط العزاء والحياة الحياة، وأن أفسّرها بمعنى لا
ينقسم: هو إمكان الحب الملهِم في أضنك اللحظات، خاصة لمن يعيش الحياة بأكثر من معنى.
شكراً لدرسكم البليغ، لأهدافه القيمية والعملية في أهبة الفراغ الذي خلَّفه رحيل الوالدة، كما لو أنكم شاركتموني طواعية روحية، في تحمل معاناة لم تعد تقتصر علي، وأنا طوع يقين لا يتردد في نفاذ فعل هذا الدرس الوجداني والجمالي.
كنت صغير أمي، حتى وأنا في السادسة والخمسين من عمري، وفجأة كبرت بما غمرتموني به وداً ومؤاساة..
سيكون هناك المزيد من التفرغ لهذا الجديد بكم ومعكم، في الكتابة وفي التواصل، في هذا الاكتشاف التالي: أن يعيش المرء أكثر من ذي قبل، كما لو أنه يعيش حيوات لا حياة واحدة، إنها لحياة أخرى، رائعة حياة أخرى، ستكون أصواتكم كما هي كتاباتكم، كما هي أناملكم التي خفَّفت هذا الألم وحرَّرته من ألميته ليكون زادتي وزوادتي في الطريق الذي سلكته، الطريق الذي انعطف بكم كثيراً، ستكونون ملء القلب، ملء المدى الذي استشرفته في هذه اللحظة الانعطافية.
أيها الأحبة في الأعالي، الأحبة حيث أنتم في سدرة الطمأنينة، أو العافية المرتجاة، أو الأمل المرغوب…
سلمتم مراراً وتكراراً! أستميحكم عذراً لأنني لا أستطيع التعبير أكثر مما عبَّرت، لأفي ودَّكم بما يستحق في التعبير..
كل حياة حيث تعيشونها منتصرين على آلامكم، وأنت بألف حبور، وأنتم في ألف إشراقة أمل..
كل حياة وأنتم الأصدقاء في الحياة أهلاً للحياة وأعزَّة مبنىً ومعنى.. أي أخوتي الكبار في الروح التي لما تزل تحيا.