إن الجسد هو في واقع أمره يمثّل هذا المعْلم الحضاري والفكري والأدبي والفني الذي يلفت النظر قبل لفت السمع، ولتكون اللغة في القول والكتابة ترجمة معيارية لهذه العلاقات التي تسيّر بها جسد المرأة، وبالتالي، فإن المرأة هذه، وبصفتها كردية، تسعى جاهدة، ومن خلال شعرها إلى تمثل: الحالة التعبيرية الأكثر تاريخية واعتماداً، لوضع تلك النقاط التي تستولدها رغبة المرأة في البروز بأناها، على الحروف التي يتباهى الرجل: الذكر بتمثلها، كما لو أن التلويح بندّية أو إثبات وجود أو كينونة مختلفة، هو الفاعل في هذا النسق الأدبي.
وإذا كان الرجل يخترع دائماً الحكاية التي يوحي بها إلى الآخرين، على أنه هو الذي ابتكرها واقعاً، ليكون له رواته أو حكواتيوه، وهو لاعب دور البطولة بامتياز، مشيراً إلى المكان الأرحب لهذه الحكاية التي تسمّيه بعنصره الذكري، واضع نظام خاص به، فإن المرأة طوال تاريخها الطويل” تاريخ الكتابة العائد إلى الرجل الذكر قبل كل شيء”، كانت تسعى بشراسة لافتة أحياناً إلى نزع الاعتراف بها، وتفنيد المزعم البطولي للرجل في فيلمه التاريخي الذي لا ينتهي، من خلال لفت الأنظار، وهي في ميدان منافسة ذوقية أو جمالية واستئثارية مع الآخر، لجعل الحكاية التي تسمّيها بدورها أكثر قيمة أو شفافية، إنها حكاية تلد من داخل حكاية، حكاية نفي النفي، بمنطق الجدل التاريخي المتشعب، وليجد الرجل مبتكر الحكاية الأولى نفسه في موقع المواجهة، حيث اللغة لا تعود هي نفسها، ولا الأزمنة تعود هي ذاتها، ولا حتى المشاهد التي يجري سبكها أو سرد وقائعها بداية ونهاية معينتين تبقى هي ذاتها، وما في ذلك من خلخلة مواقع وتوجيه رهانات وترقب نتائج، لكأنما تعيش المرأة واقع الانقلاب النوعي على الرجل، ساحبة البساط من تحت رجليه، أو على الأقل منبهة إياه إلى أنه ليس الوحيد ممن يتقن الكلام والقيام بدور الساحر، تذكيراً بما تردد ويتردد حولها، أو ما هو مشير إليها تاريخياً ومنذ قديم الزمان، كما لو أن مفهوم السحر هو شاهد عيان على ريادية المرأة في جعل اللغة أكثر طراوة أكثر قابلية للأخذ بها، ومن ثم تميزاً بما هو متعوي، لتكون تنوعاً في الكلام والفن وغيرهما.
في نصوص شعرية مختارة للمرأة الكردية ومن زاوية الحداثة، أجدني في مواجهة مفتوحة، وإشكالية، حيث إن الكلام الذي يتثبت هنا يحمل دمغة ذكورية، مهما زعمت من حيادية ما، ولكن المحاولة تقوم على نفي هذه الممارسة العنصرية النوعية، بجعل الأمور أكثر تكافؤية، أكثر جدارة واستحقاقاً بالنظر من زوايا عدة، تسهم المرأة، كما هو واقعها، وحقها، في إضفاء صبغة المغامرة على كل ما هو عائد إلى البشرية من مكوّن لغوي وفني: غنائي أو موسيقي أو تشكيلي..
في هذه النصوص الموضوعة والتي جرت ترجمتها من الكردية إلى العربية، وكلها من موقع” روزافا”، وقبل سنوات، لا بد أن يجد المعنيّ بإشكالية الجنسانية في التعبير الشعري وسرود التحولات الفنية، أن يجد نفسه في مواجهة هذا الاحتدام فائق الوصف أو التحفيز في جعل اللغة أكثر اتصافاً بالمرونة، أكثر طواعية وتجاوباً مع منطق المرأة: الأنثى المقاوِمة. نحن إذا في مسكب كرنفالي، وطراد في اقتناص المعنى واختبار جدته إذاً!
إنها المقاومة التي تندلع أو تندفع وترسم حدود اتصالها وتثبيت وضعها مواقعياً على عدة مستويات: في العنوان، وصيغة الخطاب، والصور المستحدثة، وطريقة المخاطبة، وفعل التوليد في الصور، والأمثلة التي تضفي على المقام الشعري طابعاً من المعيارية الذوقية المحرَّرة باسم المرأة.
إن الحداثة في واقعها دخول في المستجد والمختلف، واعتراف أوليٌّ بالآخر، وهي ما أن تنتقل من حالة الصمت إلى ساحة المكاشفة والمناظرة ضمنياً، حتى يشتغل العنف بما هو جنساني، أي من جهة النوع، كما لو أن سعي المرأة وهي في مجاهدتها الفنية شعرياً، هو كيفية إبقاء الرجل متنبهاً إلى ما بدأ به، وعزّز به موقعه بصفته المأخوذ بالحرية، وهذه في حقيقة أمرها تنوعاً في اختلاف، وفتح في المجال واسعاً، ليكون في وسع أي كان التقدم بأوراق اعتماده النوعية.
بالنسبة للمرأة الكردية، تبدو الحداثة بمثابة كرسي الاعتراف للرجل، وهو اعتراف لا مفر منه، ليبوح بسر لطالما تكتَّم عليه، أو تستَّر عليه، وهو أنه لم يعد وحيداً، هو أن القرون التي مضت باعتبارها ذكورية بامتياز، رغم تنوع الظروف وربما المسوغات التي قد تخفف من وطأة عنف الذكورة الكردية، وفي علامتها الشرقية الفارقة في المجمل، قرون لم تعد ضامنة للذكر هذه الحيازة للغة أو للفن، أو لكل ما يصلنا بالحياة ودون تشذيب أو حتى مراجعة شاملة لبنيتها.
وإذا كانت الحداثة هنا تشي بما هو ذكوري بداية، فإنها لا تنتهج مسلكاً صراطياً، إنما نجده وقد تشعَّب أو انحرف، لأن ثمة من دخل على الخط، ثمة من غيّر في الاتجاه: صوت المرأة، رغبتها في أنها باتت شريكة له في صنع التاريخ. كما لو أن الحداثة في وضعها المستجد إعلام مستمربما يغفل عنه الرجل لغاية في نفسه.
في النصوص المختارة، وهي لا تشكّل الحالة النوعية بامتياز لشعر المرأة الكردية، إنما عينات معينة، يمكن التوقف عند تلك الشفافية القائمة، أو حتى الغموض أحياناً، وفي المسارين وما بينهما يكون حضور المرأة استجابة لتنوع صيع التعبير، وفي الآن عينه، إشادة بالحالة الثقافية عبر النوعية للمرأة عندما تسمّي ما يعنيها على مستوى الجسد، وربما في أكثر حالات المكاشفة الجسدية، كما لو أن الرجل نفسه بات موضوعاً لها، أو داخلاً كمفهوم معين في البناء العمراني الشعري لها، ومتلوناً بتلك النظرة التي تعتبرها المرأة خاصة بها، إلى درجة الإيقاع بالرجل المأخوذ بالغطرسة النوعية، والكتابة هي التي تفصح عن هذا المختلف شعرياً، مهما ادّعينا وجود ما هو مألوف في هذه الصورة الشعرية أو تلك، هذا المقطع أو ذاك، فالمعنى الأثري أكثر من أن يكون في ” جسد المرأة”، إنه في عالمها النوعي الذي يلزِمنا بالإصغاء إليه، وهو في الحالة هذه ليس أكثر من المصادقة على هذه المشاركة النوعية الاثنينية، وإثراء للغة ذاتها حقاً.
گلنار علي- لاڤا درويش- شيلان حمو- منال حسيني- جانا سيدا.. أسماء تراود جسد الشاعر النظير عن نفسه، أعني أنها تدخل في الميدان الرحب للشعر وقد اكتسب حضوراً نوعياً، لا يعود من الممكن النظر خلفاً، وإنما النظر إلى الأمام وفي كل اتجاه، حيث تختلف الأصوات، كما هي المقامات القائمة بين اسم شعري وآخر، وهي تنتسب إلى هذه الحداثة التي لما تزل تحاول جاهدة إلى توكيد نسختها الاثنية: الكردية، وضمناً، حصتها النوعية: الجنسانية الطابع بالتأكيد، إنه التطويب المزدوج واختبار صلاحية الأجدى لدى الاثنين في المرة هذه، حيث يتداخل صوت كل منهما بالآخر، ويثري الذاكرة، وفي الآن عينه يكون تشكيل مختلف للكتابة وخطاب لغتها.
وربما هي دعوة إلى قراءة مختلفة، بعيداً عن المقاربة النقدية، كما لجأت إلى ذلك في مقالات مختلفة، وهذه بداهة، ولكنها لا تخفي مسعاها في تجذير الاختلاف، في التنازل عما هو أبدي ما، لما هو ذكوري، وتوسيع المكان لتمارس المرأة من خلالهاما هو حق لها، والسؤال لا يكمن في مقدار الذائقة الفنية التي تفعلت شعرياً هنا، أي ما يسمى بـ” أصالة المشهد الشعري”، وإنما قبل كل شيء، في الاحتفاء بالمختلف المنسي كثيراً كثيراً، وبصورة خاصة في النصوص الموسومة بالغزل، حيث اعتدنا أن نسمع صوت الغزل، وعبارات الغزل، والتصفيق على هذا الغزل، والتحفيز على قول الغزل، من جهة الرجل، وكأنه احتكاره أو امتيازه الخاص، وحين يكون الصوت الآخر هو المبادر: الأنثوي، في الغزل صوتاً وتجسيد كلمات، ورسم مشاهد، ويكون الرجل هو المتلقي، يكون الإصغاء المختلف، وحتى التصفيق المختلف، والشعور النفسي مغايراً، وهذا تمهيد لعقد قائم يتبلور في بنوده وشهود عيانه ومن يوقع عليه إزاء هذا النزال الأدبي- الفني، والصراع على الاسم واقعاً….الخ.
لعل في ذلك ما يحفّز على مكاشفة هذا الإلحاح في وجوه الغزل الأنثوية، والبوابة الكبرى له، إذ يكون وقع عبارة” أنا أحبك” تقولها امرأة لرجل، غير وقع لو جاء ذلك بالعكس. إنه في الحالة الأولى تعبير عن المكنون الأكثر عراقة وتأكيد ذات، وتمثيل لهذه المحاصصة التاريخية المغيَّبة في عرف الرجل، وفي العبارة تلك، وما يليها أو ما يأتي تحت ظلالها، تكون ثمة ذات ناطقة، لها خصوصيتها، وإقرار بمعْلمها الاجتماعي والثقافي، فيكون الآخر مطلوباً أومرفوضاً أو في دائرة المكاشفة الأنثوية، وهو ما لم يعتده، وربما لم يعتده حتى اللحظة.
حسبي أنني، رغم كل ما يمكن أن يقال عن الترجمة، حاولت التنويه إلى أهمية المختلف وحقانيته، لنكتشف ذواتنا من منظور مختلف، أو لنتحسس هذا الكائن المحمول داخلنا، وقد صار أكثر سوية جرّاء هذا الاختلاف!
النصوص المترجمة
ليلة واحدة- گلنار علي – 2 -2 /2007
ما بين اثني عشر شهراً
مثل القمر
في سماء سنَة معتمة
ومن ضوء متجلٍّ
بضوئه
تسعد اثني عشر شهراً
أنتظره من قريب
من بعيد
على حضن الأفراح والأتراح
أصفف مشاعري
في زينة الاشتياقات
أرحّل الكلمات
بحيث لا أدع أي كلمة
من أجل تلك الليلة
باستثناء لقاءات القلوب
وهي تعقد حلقة الرقص
على حضن الذكريات
إزاء مصباح حب غادر
بحيث تحرق الاشتياقات نفسها في نار الشمعة
و وعندما…
وعندما تقترب الشمعة من الانطفاء
تلقي السلام الأخير
على مقبرة الاشتياقات
تتوقف رقصة القلوب
من صفعة الأحاسيس
ومن بكاء البكاءات
وتُختَتم
على مقبرة الاشتياقات
===========
قصيدتان- لاڤا درويش-5 -2/ 2006
أشتاق إليك
أشتاق إليك
ومصباح حبك
يبهج أمسياتي..
يتوهج
بنار الكلام العذب ونظراته
وحبك
لا يدعني
في جهات آفاق عينيك ..
وتسير سفينة لقاءاتنا
في عبراتي…
أنا أشتاق إليك
والدقائق تستحيل ساعات
تستحيل أياماً
تستحيل أعواماً
وتطلق أعوام الفراق
رصاصات على هذا القلب
أرجوحة الغربة
حبي
في هذا البعد
قدِمت أحلامنا إلى الدنيا
وبرعمت زهرة الحب
بدموع الغربة
رأيتك
خفق قلبي
انجرف قلبي
في البعد
في أرجوحة البعد
========
القمر المضيء- لاڤا درويش – 5 -2/ 2006
في إثر القمر نصف المكسور
ألملم خرزات
واحدة واحدة
نقطة نقطة
حتى لا يعود الليل يتهاوى
من وجوه الأحلام..
خرزة خرزة ألملم نفسي
الألم كان يحتضن النظرة
عندما تهرب من نفسك فارس التخيلات
مثل سراب..
تتألم على يدي الضياع
القمر، أمضُّه الوسن
الزمن يجري وسط تغضنك
يطير بصمت
الزمن.. القمر.. الكلمة
يتامى
تردد صدى الليل
على ظهر ريح العزلة
والقمر المضيء يمضي في الخسارة
خرزة خرزة
نقطة نقطة
========
زهرة دوار الشمس- شيلان حمو-10-11/2006
عاشقتك أنا، يا زهرة دوار الشمس
وأنت بدورك عاشقة الشمس
أبداً وجهك باتجاه الشمس
مثلك أنا يتها الزهرة
أنا عاشقة ذلك القنديل
زهرة الحياة
لماذا ذبلت الورود الأخرى؟
أيقظي الغارقين في النوم
قامشلو 1992
========
برّية الرحيل- منال حسيني-1 -2/2006
ماذا كانت تلك الآلات التي نهضت بيننا؟
بين حاضرنا وتكتكة زمن،
ما بين عساكري والقشعريرات، ما بين رحلتك وعبوري
أتراها آلات ذاهلة، أم آلات سؤال؟
أم تراها روائح رغبتنا؟
لكنك..ضيَّعتنا ما بين شامة وشامات
ما هذا الخلط،
أنت وسمت رسالتي روحي الرحالة بها
فأي إله يستطيع أن يعدمها في الوعي الجسدي؟
من أنا لأغنّي أهورامزدا في القصيدة
ومن أنت لتزرع ناري بسخاء
كنت إياك
لكنك كنت الضباب
كنت إياك
لكنك كنت السراب
كنت إياك
لكنك كنت الحرقة
كنت إياك
كنت إياك
لكنك
لم تكن إياي
======
حلماً كان- منال حسيني- 10-11/2006
ذات مرة كنت تقول:
معاً ،ولد الشعر والموسيقي مع عشقك
معاً نسجا هارمونيا
لكي يشعلا أغنية حب جديدة
في قلبك باسم الحب
ذات مرة كنت تقول:
كانت آريانا تقترب دونما خجل من ظرافة سماواتك
وعندما رأت الحور تلد في شرايين دمك،
كانت تتلاشى في آفاق روحك
ذات مرة كنت تقول:
تفتَح نوافذ الرغبة بضحكاتك
تتحفز وثبات المشاعر مع نظراتك،
تؤسَر أحلام الأوطان في شعرك
ذات مرة كنت تقول:
أنا مدمن خمرة ماء صوتك الوردي
أنا شهيد رائحة روحك
كأس أنا كرمى شفتيك
شارع أنا من أجل آثار ارتعاشات عمرك
أنا أنا أنت ِ
أخيراً كنت تقول:
صادف حلماً
و مضى..!!
عامودة 21-9/2009
=========
مختلف حيث الأيام
تحمل ذكراك
ودون وعي منها
تبكي على صدري
خداع
رحالة أنا، عنك
ولا تخدعني الليلة
باتجاهك
تفرعت طرق العودة
أخدعني الليلة
لن أعود
حقيقة
ذات يوم
سترحل عني
عندما أناديك
أنا وأنت
ظلي
ينقط في جسدك
نصبح اثنين
أنا
وظلك
تعبق رائحة تفاح
من صدري
ومن صدرك
رائحة الخطيئة
بقدر ما يتوقف الحسْن
عن زيارتي
لا أريد أن أحلم بك
أنا ضحكة تصادف عينيك
كلما ضحكت نجمة
في السماء
سراب
وداعاً
أيها الرجل الذي ينضب
يوماً بعد يوم
في دهاليز عشقي…!
نخب
كأسك مترعة بي
اشربني
نخب كذبة أجمل
رحلة
أعرف
أنك هذه المرة أيضاً
تمضي على جسدي
عابرَ سبيل
تغسل فجره من الأحلام
وللفرح
يوقد شموعاً
ذكراي
على شفتيْ امرأة عابرة سبيل
تنسى
غيرة
نظراتك
كانت تغترب في عينيها
تُرى أكنت
تعلَم بأمواج غيرتي؟
كرسيك
فارغ كرسيُّك
وجوه كثيرة أضعها فيه
دون جدوى..
أشتاقك
إذا أتيت يوماً
فاجلب معك أصيص ورد
لورودك
التي لم أعد قادرة
على حمْلها في قلبي
زوج
لا شجاعة أكبر من بعدك
أيها الزوج
الذي من محبرة ونسارين
النسيان
أنساك
لأعيش مجدداً
تُرى في لقائك تحمل الموت لي
أين أنت يا حقل ألمي؟
بين عينيك وعينيك
تعبت الطرق..
أيها الألم الذي لا ينتظر أحداً
وبسرعة نظرة خاطفة
يتبدد
سر
تُرى ألم تعلمك
هاتان اليدان
سر الاحتضان؟
أهديت كأساً لألمي
وأنا بدوري أعطيتك
نفِساً
ووردة وحيدة
لتذبل بجوارها
أثر
نظراتي
تستغيث بأحاسيسك الحاضرة
تلك التي لم تتعب من رغباتي
تبقى آثارها على دموعي
========