المحامي محمد سليمان
تتحاشى الغالبية العظمى من أهل القرية ذكر شيء من الخلاف الذي بلغ أوجه بين حسو , العامل , وجوهر الزغال , بنفس الطريقة والأسلوب الذي كان حسو نفسه يتحاشى بهما سابقاً ذكر تصرف جوهر الزغال الفظ , بشأن طلاقه المجحف لأم أولاده الثمانية وتركهم وشأنهم لمواجهة مصيرهم المجهول , ومن ثم زواجه من زوجته الجديدة , التي رضيت به هيَّ و ذووها زوجاً لها , مقابل المال المقبوض منه
تتحاشى الغالبية العظمى من أهل القرية ذكر شيء من الخلاف الذي بلغ أوجه بين حسو , العامل , وجوهر الزغال , بنفس الطريقة والأسلوب الذي كان حسو نفسه يتحاشى بهما سابقاً ذكر تصرف جوهر الزغال الفظ , بشأن طلاقه المجحف لأم أولاده الثمانية وتركهم وشأنهم لمواجهة مصيرهم المجهول , ومن ثم زواجه من زوجته الجديدة , التي رضيت به هيَّ و ذووها زوجاً لها , مقابل المال المقبوض منه
ورفع جوهر الزغال كلفة تجهيزها عن أهلها , وأخذه لتلك النفقات على عاتقه , بعد انبهاره وافتتانه بجمالها الأخَّاذ , فأفحم بذلك كل من راودته نفسه اعتراض سبيله , وكل من كان يحزُّ في نفسه الإشارة إلى فارق العمر الشاسع بينه وبينها , لإدراك الجميع أنه ليس بمقدور أحد مضاهاته فيما دفع في حينه , بعد أن ابتسم له الحظ وانفتح عليه باب الرزق في رحاب الخليج . بل أن حسو نفسه تأثر في حينه بشخصية جوهر الزغال , حيث كان يردد نفس المثل الذي طالما ردده جوهر الزغال وفي أكثر من مناسبة , عندما كان يسعى جاهداً لإقناع حسو بالسفر والعمل لديه في الخليج (( وين ما ترزق إلزق )) .
وحينما كان يدور الحديث في مجالس القرية , حول الخليج وسبل العمل فيه , تراهم يمطرون حسو , بوابل من أسئلتهم التي لا تنتهي , حول أوفر السبل وأقلها نفقة للحصول على التأشيرة .. ظروف العمل في تلك الأجواء الحارة .. مقدار الأجور ..
وما أن يتطرق حسو في حديثه إلى مسألة خلافه مع جوهر الزغال ويسترسل في شرحه , حتى تتوقف جميع الأسئلة , ويسود الحضور صمت مطبق , متقصد , ومشوب بالحذر , لهذا يأخذ حسو راحته التامة في شرح الخلاف منذ البداية , وكيف أنه انخدع بجوهر الزغال وأولاه كلَّ ثقته , فيما كان الأخير يعامله بتسيسٍ بالغ و وفق أسلوب مبرمج , مجرب ومدروس .
كان ذلك بعد الأشهر الستة الأولى التي قضاها هناك , أرسل خلالها عدة دفعات نقدية إلى أهله , لسداد بعض الديون السابقة لمجيئه , إلى أن انتهت المهلة الممنوحة , لتسفير العاملين غير الحاصلين على الإقامة هناك , واقتراب موسم الحج , حيث اختفى حسو عن أعين السلطات , وانضم إلى ورشة عمل في المناطق البعيدة عن المدن , على حفارة آبارٍ ارتوازية لجوهر الزغال , بناءً على نصيحة الأخير له , وتعهده بدفع مبلغٍ شهري قدره سبعمائة ريال سعودي , ومع أن شريكه السعودي غير موجود الآن , وهو بصفته وكيل عنه , لا يستطيع التعاقد هكذا مع حسو , لكن شريكه لن يعارض ما يفعله , وسيقبل بكل بساطة , بدفع المبلغ الذي تعهد به لحسو , لكونه من قرية جوهر على الأقل .
* * *
بعد هذا الوعد المعسول واهتمام جوهر الزغال الملحوظ به , أولى حسو كل ثقته بجوهر الزغال وتابع عمله بكل همة ونشاط , إلى أن أمضى شهراً كاملاً على هذا المنوال , واستلم رفاقه أجورهم , أما هو فجزءاً من الأجر المتفق عليه , لا لشيء ـ كما قال جوهر ـ فقط من الناحية الأدبية , ولحسن تعامل شريكه السعودي معه وإيلائه كل ثقته به , يجد أنه من غير المناسب أن يدوِّن أجر حسو وفق المبلغ المتفق عليه , إلا بعد أن يعلمه بذلك , من باب الإعلام ليس إلاَّ . ليكون على اطلاعٍ , مع أنه سوف يكون الأمر طبيعياً إن دفع له الأجر بالكامل , ولكن لا ضير في ذلك , إلى أن يعود شريكه من الخارج , فكل شيء يهون بيننا .
* * *
لم يشغل مسألة الأجر بال حسو , بقدر ما أشغله الخوف من أن تضبطه إحدى الدوريات الحكومية العابرة وترسله عنوة إلى بلده . لقد نبهه جوهر الزغال في زياراته الثلاث بذلك , وأوصاه بضرورة الاحتراس وأخذ الحيطة والحذر اللازمين , موضحاً له في كل زيارة أنه أثناء مجيئه التقى بإحدى تلك الدوريات ودبَّر الأمر معهم , بادعائه أنه لا يعمل لديه أي عامل بصورةٍ غير نظامية .
ولأخذ الاحتياطات اللازمة , أخذ منه جوهر الزغال جواز سفره , حتى لا يتم ضبطها معه , فيما لو حدث لا سمح الله أن ألقوا القبض عليه , ناصحاً إياه بعدم التخوف من الدورية , حتى لا يخالجهم الشك في أمره , وأن يخبرهم بكل بساطة وهدوء ودون تكلِّف , بأنه أرسل جواز سفره مع صاحب عمله , ليقطع له تذكرة السفر بالطائرة , وأن باستطاعتهم في زيارة قريبة , بعد يوم أو يومين التأكد من ذلك بالاطِّلاع على جواز السفر , وبعد ذلك قال جوهر , نحن سندبر الأمر إن رجعوا ثانية .
* * *
بهذه الطريقة استطاع جوهر الزغال أن يشغل حسو لديه لمدة ستة أشهر كاملة , لم يذق حسو خلالها طعماً للراحة , لخوفه في البداية من أن تضبطه إحدى الدوريات التي كان جوهر يتحدث عنها باستمرار , هذا من جهة , مع أن هذا الخوف قد زال تماماً , لأنه لم يحدث أن مرت , ولو دورية واحدة على الأقل خلال عمل حسو طوال الأشهر الستة كاملة . ومن جهة ثانية لتمادي جوهر الزغال وتماطله في دفع أجوره الشهرية كاملة , بحجة أن شريكه السعودي لازال موجوداً في الخارج , وكونه وكيلاً عنه , فليس بمقدوره بهذه الصفة دفع أجور حسو وفق المبلغ الموعود به في بداية العمل .
كان هذا هو عذر جوهر الزغال وحجته , منذ نهاية الشهر الأول إلى نهاية الشهر السادس , حيث لم يجد حسو أي بد سوى الرضوخ لمشيئة جوهر الزغال , وترك باقي الحساب , لحين رجوع شريك الأخير من الخارج .
* * *
غادر حسو الأراضي السعودية , عائداً إلى قريته بقلبٍ مليء بالمنغصات . ووفق تصوره فقد غادر جوهر الزغال , الذي طغت صورته على مخيلته , فجوهر الزغال لديه هو السعودية والسعودية هي جوهر الزغال ولا فرق بينهما .
و مضت أشهر عديدة , لم يرد خلالها من جوهر الزغال أي خبرٍ , سوى أن بعضهم قال لحسو , أن جوهر الزغال يقول , أنه لم يبق لحسو أي حساب, وأنه رأفةً بحسو وكونه ابن قريته فقد شغله على حفارته , دون أن يكون لشريكه السعودي رأي في ذلك , وأنه حاول جاهداً لتحصيل كامل المبلغ الذي وعد حسو به , لكنه لم يفلح في ذلك , فهو ليس أكثر من وكيل , وكل الأمور مرهونة بمشيئة السعودي .
* * *
في الواقع لم يكن حسو ينتظر من جوهر الزغال , إرسال باقي الحساب , فقد ترسخت القناعة في ذهنه , بلؤم وجشع وخساسة جوهر الزغال , وأنه كان يكذب عليه طوال فترة عمله هناك , وأن السعودي لا دخل له في الموضوع , بل أن جوهر الزغال , هو الذي امتهنه واحتال عليه وسرق أجوره جهاراً .
أدرك ذلك أثناء وجوده هناك , ولكن كما يقول المثل (( ما كان باليد حيلة )) , فوضعه غير النظامي لم يمكِّنه من التقاضي معه , زذ على ذلك أن جوهر الزغال نفسه , لم يمنحه جواز سفره المنتحل ومنعه من السفر , إلى أن بصم له على ورقةٍ , صرح فيها , أن جوهر الزغال بريء الذمة تجاهه وأنه يسقط حقه من الادعاء بالغبن أو كذب الإقرار أو طلب تحليف اليمين , وبناءً على ذلك فقد بصم تلك الورقة , واحتفظ بها جوهر الزغال لنفسه .
* * *
الفصل صيف , وحسو منهمك في هذه الأيام الحارة , بالعمل على حفارة شخصٍ من أهالي المدينة , فلأكثر من ثلاثين يوماً لم يغادر لا الحفارة ولا الخيمة المنصوبة بالقرب منها ولم يكن يفكر قط في طلب أية إجازة , رابطاً مصيره في الإجازة والراحة بانتهاء الحفر من هذا البئر الذي بين أيديهم , أضف إلى ذلك أن طلبات حفر الآبار في هذا الفصل ضئيلة , إذا ما قيست بالفصول الأخرى , ولحينه ليس هناك أي طلب بحفر أي بئرٍ جديد , فلماذا لا يصبر و ينتهي من هذا البئر , بعدها بإمكانه زيارة أهله في القرية , أو لعلهم أثناء الانتهاء من هذا البئر يجدون من يطالبهم بحفر بئرٍ آخر . عندها سينقل الحفارة إلى البئر الجديد , وبعد حفر عدة أمتار سيكون الأمر أسهل على بقية العمال , مما يمكنه عندها زيارة أهله لمدة يوم أو يومين , ومن ثم الرجوع إلى عمله .
لكنه ما أن سمع بقدوم جوهر الزغال إلى القرية و تأكَّد من صحة النبأ , حتى ترصد و تحيَّن فرصة زيارة صاحب عمله لهم , وفور قدوم الأخير , استأذن منه أن يمنحه مدة أسبوعٍ كامل و بدون أجر , ليسعى خلاله بمطالبة جوهر الزغال بحقه المسلوب في وضح النهار .
* * *
واتت صاحب عمله الفرصة , وها هي ذي الذريعة ترد إليه بكل سهولة ويسر . سابقاً كان يخشى من سمعته بين العمال , فيما لو أراد التخلص من حسو .
صحيح أنه خبير بأمور الحفر وحريص على ماله , كما أنه ملم كامل الإلمام بتصليح تعطيلات الحفارة العابرة و بأقصر وقتٍ ممكن , لكنه بالمقابل يشاركه في قبض مبلغٍ ليس باليسير من غلة العمل , وذلك بما يعادل أجرة عاملين بالتمام و الكمال . و ها هم بقية العمال قد عملوا معه فترة ليست بالقصيرة , فلا بدَّ أنهم تعلموا منه الشيء الكثير , من تصليح المحرك ومراقبة الإزميل . لقد شاهد بنفسه العمال وهم منهمكون لوحدهم في تصليح جانبٍ معطلٍ من الحفارة , في حين أن حسو كان منصرفاً لتنظيف مضخة المازوت , دون أن يعيرهم الأخير أي اهتمام أو مراقبة . حيث أنهى الطرفان عملهما سويةً وشغلا الحفارة بعد ذلك . ولكن إذا حدث وعجزوا عن تصليح عطلٍ ما , عند ذلك يمكن تصليحه في المدينة , إذ في كل شهرين قد يحدث عطل من هذا النوع , أو قد لا يحدث في أكثر من شهرين , وهذا لن يكلف مبلغ شهرين من أجر حسو الباهظ على أكثر تقدير .
* * *
صحا صاحب العمل من غفوته عندما أعاد حسو على مسامعه أمر الإجازة:
صاحب العمل : كم متراً حفرتم ؟
حسو : حوالي ستين متراً تقريباً .
صاحب العمل : ستين متر ! لماذا ؟ أول أمس التقيت صاحب البئر في السوق وأخبرني حينه أنه بلغ خمسة وخمسين متراً !
حسو : صحيح ! فهو بعد أن غادرنا إلى المدينة , بعد مغادرته بنصف ساعة على الأكثر استعصى الإزميل في البئر . يبدو أنه كان يوجد لسانٍ صخري بعمق حوالي خمسة وخمسين متراً , لكنه لم يكن سميكاً بالقدر الكبير .. هناك الكثير من أصحاب الحفارات , ما أن يستعصي إزميلهم في البئر , نظراً لتعثره ببعض الصخور التي تظهر أحياناً في أعماقٍ مختلفة . تراهم يجهدون في إخراجه بزيادة سرعة المحرك القصوى وعلى دفعاتٍ قوية ومتقطعة في سحب الإزميل , حتى ينقطع الكابل أو ينكسر اللحام الذي يربط الكابل بالإزميل فيستقر الأخير في قاع البئر . قد يحدث هذا في حين لا يكون قد بقي أمامهم سوى حفر آخر مترين للانتهاء من بئرهم .
لكننا نتصرف دائماً بحكمة وتعقل . فقد تركنا الكابل مشدوداً وبذلك يبقى الإزميل مشدوداً إلى الأعلى , وبعد ساعة , أقل أو أكثر , يرتخِ الكابل , حيث يتحرر الإزميل قليلاً , فنشد الكابل ثانية باستعمال قوة المحرك قليلاً وبحذر , حتى نتفادى تقطع الكابل , أو انكسار اللحام الذي يربط الكابل بالإزميل , ونترك الكابل مشدوداً فيرتخي ثانية , وهكذا نصبر حتى يتحرر الإزميل بالكامل .
لكن هذه المرة كان الاستعصاء قوياً جداً , فلم يرتخِ الكابل في أول الأمر لأكثر من ساعتين , بعدها كان يرتخي بمنتهى البطء , وكأنه مربوط من الأسفل . لهذا استمرينا نعمل بصبرٍ وتأنٍ على هذا المنوال , طوال يوم أمس بالكامل , حتى أفلحنا في النهاية بتحرير الإزميل .
صاحب العمل : كم يوماً تريد ؟
حسو : حوالي أسبوع , أكثر أو أقل , لا أدري بالضبط !
صاحب العمل : كيف لا تدري ؟
حسو : لأنني قد لا أجد جوهر الزغال في القرية , فهو كثير التنقل , وقد يسمع بقدومي ويغيب عن القرية لمدة أسبوع , وقد أجده فوراً , بالضبط لا أدري كم يوماً أحتاج لحل مشكلتي معه !
صاحب العمل : قد تغيب شهراً كاملاً ولا تجده ؟
حسو : والله إن مشكلتي معه عويصة , فهو محتال ومتنبه كالثعلب !
صاحب العمل : وكيف ستترك العمال لوحدهم ؟
حسو : أنا مضطر ! ويجب أن أذهب وأجهد في العثور على جوهر الزغال , فماذا أعمل لو مكث في القرية لفترة قصيرة وسافر ثانية , عندها سأعاني من غصة مريرة في قلبي , سوف لن تفارقني مادمت حيا .
العمال يمكنهم العمل بدوني خلال هذا الأسبوع . وإن شاء الله سوف لن تحدث معهم أية أعطال من شأنها إعاقة العمل , وإن حدث معهم ما يستلزم تواجدي , عندها سأرجع ولكن آمل من الله ألاَّ يحدث معهم ما يستلزم تواجدي , وإن طال غيابي لأكثر من أسبوع , فقد اكتسبوا خبرة لا بأس بها و ألموا بتصليح بعض التعطيلات الطارئة , وقدرتهم على العمل والتصليح أعلى مما هو معتاد لدى عمال الحفارات عموماً . وإن شاء الله سيتيسر أمرهم بدوني , فالتعطيلات التي تتكرر دائماً معروفة ومحددة , فإما أن تنسد إحدى البخاخات بسبب الوسخ والصدأ المترسب في قاع البراميل , وسأوصيهم بأن يتركوا خلال هذه الفترة قدر صفيحة كاملة من المازوت , في كل واحدة منها , حتى لا يسبب لهم انسداداً في إحدى البخاخات . أو قد يكون هناك القليل من المياه بين المازوت , فتنسد البخاخات بسببها أيضاً , وهم قد تعلموا على معرفة هذه العوارض . أو قد يدخل بعض الهواء إلى مضخة المازوت . في هذه الحالة أيضاً يستطيعون استخراج الهواء , ويعرفون كيف يفرغون المضخة منه . وما عدا ذلك , إن شاء الله سوف لن تحدث معهم أية أعطال أخرى .
صاحب العمل : إذا توقف العمل . فمن سيبحث عنك عندئذٍ , وكيف يمكنهم السؤال عنك ومتابعتك ؟
حسو : لا . إن شاء الله سوف لا يحدث معهم أي عطل , ومتى ما أرادوا , ما عليهم إلا أن يعلموني عن طريق أي شخص , عندها سأحضر حالاً .
صاحب العمل : والله ياحسو أرى في ذلك صعوبة بالغة , فأنت تعلم أنه ليس لدينا أي طلب بحفر آبارٍ جديدة , وهذا هو البئر الوحيد الذي نعمل فيه وتريد أن تتركه أيضاً , فالمرء لا يدري متى يأتي إليه رزقه , ولا أحد يعرف اللحظة التي نتلقى فيها الطلب بحفر بئرٍ جديد !
حسو : الطلب قليل , عموماً في فصل الصيف هذا . فضلاً عن أن الأعطال نفسها تكثر في هذا الفصل بالمقارنة مع الفصول الأخرى من السنة . فحرارة الجو في هذا اليوم هو أربعون درجة , حسب النشرة الجوية ولكنه في الواقع أعلى من ذلك بكل تأكيد . فكيف لا تحدث الأعطال في مثل هذا الجو الجهنمي !
صاحب العمل : والله حسو . هناك حفارات لا تتوقف عن العمل , لا في فصل الصيف ولا في الفصول الأخرى !
حسو : والله معلمي , الشغل نصيب , فأحياناً نحن أنفسنا نعمل بشكلٍ دائم ولفتراتٍ طويلة . فمنذ الشتاء لم نتوقف لهذه اللحظة , وحتى الآن لم نتوقف عن العمل بسبب قلة الطلبات !
صاحب العمل : هذا لأنكم موجودون على رأس عملكم ! فعندما يكون المرء جاهزاً ومستعداً للعمل , لابدَّ أنه سيلاقي بئراً يحفره , أما إذا تغيب المرء وترك عمله وجاء إليه من يطلب حفر بئرٍ ما ولم يجده , فكيف سيلاقي هو العمل , وأنت تريد أن تترك العمل الذي بين يديك ؟
حسو : هذه حالة طارئة , هذا ظرف طارئ !
صاحب العمل : والله يا حسو , ليس من الصواب قطعاً أن يستمر العمل بدونك , فأنت الذي تدير العمال , وإن ذهبت فإما أن نوقف العمل أو نبحث عن شخصٍ آخر يكون قادراً على تجاوز التعطيلات الطارئة التي تعترض سبيل العمل .
حسو : والله يا معلمي , إن جلبت عاملاً آخراً , فسوف لن يهتم بالحفارة والعمال قدر اهتمامي بهما , والأمر ليس بمصيبة موتٍ لا يمكن تداركه , فكلها أيام معدودة أرجع بعدها إلى عملي .
صاحب العمل : بصراحة يا حسو , إذا ذهبت وتركت الحفارة , لا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى رجوعك , فنحن حينها سندبر أمرنا بأنفسنا , فإما أن نوقف الحفارة أو نسيّرِ أمورنا على قدر استطاعتنا .
حسو : والله معلمي , إذا كان في نيتك الاستغناء عني وبغض النظر عن مسألة الإجازة , فأنا لا أفرض نفسي عليك قطعاً , فالله الرازق لا العباد .
* * *
في جامع القرية . كان الإمام وجمع غفير من أهالي القرية قد أنهوا صلاة العشاء . وجد حسو الفرصة مناسبة وذهبية , لعرض مشكلته مع جوهر الزغال الجالس قبالة الإمام .
دعا حسو الإمام والحضور للتحكيم بينه وبين جوهر الزغال الذي كان يظهر نفسه بمظهر المتقي المؤمن , بتقصده بالتحدث عن الأماكن المقدسة , طوال أماسي الصلاة هذه , لإبهار الإمام والمصلين بتقواه وطاعته .
بينما كان حسو يتحدث بلهفة , شارحاً كيف أن جوهر الزغال احتال عليه , كان جوهر يحرك حبات مسبحته , متظاهراً بصموده أمام ما يصرفه عن ذكر الله , وهو منصت إلى حديث حسو , بكل فتورٍ وازدراء وبرود .
الإمام نفسه كان قد تشرد منصرفاً بذهنه للمقارنة بين شخصية حسو وشخصية جوهر الزغال . وانشغل ذهنه بفرز الصفات العامة للشخصيتين , حسب أحاديثهما ومعرفته السابقة والحالية بهما .
حسو مسحوق مادياً . يركض دائماً وراء النقود . رجع من السعودية , ولم يتحدث أمامه وأمام الناس , سوى عن أجوره , فهو لم يزر الأماكن المقدسة هناك . لم يدرك الإمام أسباب عدم زيارة حسو للأماكن المقدسة , أهو وضعه غير النظامي أم ضنك العيش الذي دفعه إلى الاغتراب , ومن ثم الاغتراب إلى أماكن بعيدة عن المدن في بلد الاغتراب نفسه . لا يهم الإمام ذلك . إنما المهم أنه هو وجوهر الزغال كانا في السعودية ولمدةٍ طويلة . فجوهر وحسب ما حدثه , زار الأماكن المقدسة عدة مرات , أما حسو فلم يزر أي مكانٍ مقدس , ولو لمرةٍ واحدة على الأقل .
هنا كان ذهن الإمام يرجح الكفة لصالح جوهر الزغال , بأنه أفضل إيماناً وتقوىً من حسو . فلا بدَّ أن يكون القول الصادق في جانبه .
جوهر يواظب كل مساء على الاعتكاف في الجامع , بيت الله , باستمرار أثناء تأدية صلاة المغرب والعشاء , أما حسو , حسب ما يرى الإمام , فإنه لا يأتي إلى القرية إلا نادراً ويمكث فيها ليومٍ واحد حوالي كل شهر أو أكثر , ومع ذلك فليس لديه أي اشتياق إلى بيت الله , ولو كان يحب الله حقاً , لمرَّ على الجامع ولو خطأً وصلى فيه .
لهذا أيضاً رجح الإمام الكفة لصالح جوهر الزغال .
في كل سنةٍ عندما يقدم جوهر من السعودية , يطلب من الإمام مصاحبته في سيارته الفخمة إلى زيارة الشيخ , أما حسو فليس في باله قط زيارة الشيخ , ولو لمرة واحدة وللتوبة فقط , بل أزيد من ذلك فإن الإمام تذكر أنه سمع من بعضهم بتفوه حسو بكلماتٍ نابية وغير مستحسنة بحق الشيخ .
هنا ألقى الإمام نظرة هادئة على جوهر الزغال تنم عن الخشوع لله تعالى , صابغاً نظرته بتقوى الله وإطاعة أمره , مستخلصاً بما لا يقبل الشك والجدل , بأن جوهر يحب أولياء الله وأنه من أهل الذكر والتقوى , وتذكر الآية القرآنية (( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطرٍ إلا من تولى وكفر )) .
هزَّ الإمام رأسه قناعةً بأن حسو قد تولى وكفر , وأنه يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة (( بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى )) , وذلك بإحراجه أولياء الله وخاصةً جوهر الزغال الساعي إلى ذكر الله دائماً .
ألقى الإمام نظرة أخرى على جوهر الزغال وبنفسه إنما يغمره بالآية القرآنية (( فذكر إنما أنت مذكر )) . بعدها ألقى بنظرته المزدرية على حسو وبنفسه إنما يغمره بالآية القرآنية (( لست عليهم بمسيطرٍ , إلا من تولى وكفر )) , مركزاً بذهنه على الكلمتين الأخيرتين من الآية الأخيرة , وتساءل في سره , لماذا لا يسيطر على حسو ؟
ذهب الإمام بعيداً جداً وتعمق في تصوراته , إلى أن أنهى بحثه الذهني في المقارنة بين الشخصيتين الماثلتين أمامه , إذ بدا له حسو ـ الذي لا يزال يتكلم ـ بدا بأنه يخاطبه من بين نيران جهنم الهائلة . وأنه هو وجوهر إنما يستمتعان بالجلوس في مراتع الجنة , تشاركهما الملائكة في الاستماع في يوم الحساب هذا , إلى حسو , ذلك المغفل الضال , المنشغل بدنياه الفانية .
استخلص الإمام هنا , بأن الملائكة قد انضمت إليه هو وجوهر الزغال وحثهما على عدم تصديق حسو وتفنيد مزاعمه الباطلة .
ما أن وصل الإمام إلى هذا الاستنتاج الذهني , حتى توقفت التخيلات في ذهنه , شاعراً بأن حسو قد عكَّر عليه صفو الجنة ومباهجها وسحبه بكل صلفٍ من مراتع الجنة هذه إلى الحياة الدنيوية الفانية , عندما قال له حسو , رافعاً صوته قليلاً :
ـ هذا كل ما عندي سيدي الإمام , وأقسم بالله العظيم و بالقرآن , بأنني لم أقل شيئاً خلاف ما جرى بيننا , وأنكم أدرى بالشريعة منا , فالشرع لا انحياز فيه لأحد !
قال الإمام : جيد قلت أنت ما عندك .
وأدار الإمام وجهه إلى جوهر الزغال وقال : ماذا تقول أنت يا جوهر ؟
قال جوهر : سيدي الإمام ! المسألة منتهية بيننا ! أعطيته حقه الذي عندي وكتبنا سنداً بذلك , وخص جوهر الإمام بالحديث , برفع صوته وتركيزه على كلماته بقوله : سيدي الإمام ! خلق الله الإنسان وفي نفسه طمع بالغ في المال , فالله تعالى يقول : (( ويحبون المال حباً جما )) , وهذا ما يصرفهم عن الآخرة . نعم سيدي الإمام , فالمسألة منتهية بيننا ولا يحتاج إلى توجيع رؤوسكم بدون سبب , وأرجو أن تعذروني على تشغيل بالكم بهذا الأمر المنتهي وألاَّ تلوموني , فإنني غير قادر على تحمل ذنوبي , حتى أتحمل ذنوب إدخال الهموم إلى قلوبكم .
هنا تذكر الإمام الكتب الدينية , باحثاً بذهنه عن أقوال جوهر الزغال هذه , أين وجدها ؟ حتماً أنه قرأها في إحدى تلك الكتب , ورجح الكفة أيضاً لصالح جوهر الزغال .
* * *
توترت أعصاب حسو . احتار وارتبك . غضب في جريرة نفسه . لماذا لا يقدم على شتم جوهر الزغال وضربه .. لا .. لا .. إن أقربائه معه .. واحد مقابل ثلاثة , وجوهر أربعة .. لا .. لا .. يجب أن اشتمه .. أن ألعنه .. أن أضربه .. لكنه عراك خاسر في النهاية .. وبقية الحضور أيضاً , سيرجحون الكفة لصالح جوهر الزغال .
* * *
للمرة الألف شعر حسو بغربته الخانقة .. الكل تنكر له .. جوهر الزغال .. السعودية .. صاحب عمله الجديد .. الإمام ..
قوة الذاكرة الخارقة صفعته , هشمت كيانه المحطم , ذكرته بقوة بابنته المتوفاة . نعم ابنته التي كانت من لحمه ودمه . ابنته هو , ابنة حسو , ذلك الشخص الذي تمثل يومها أمام المحكمة رغم تنكرها له .
أعادته الذاكرة إلى تلك اللحظات الأليمة , التي ذاق مرارتها قبل عشر سنواتٍ خلت . الزمن هو الزمن , والتوقيت هو التوقيت . السيارة المتغطرسة اخترقت روحه ودهست ابنته الوحيدة حينها . وجوهر الزغال والإمام المتغطرسين يدهسانه هو . المنظر هو هو , يعيد نفسه ولم يتغير . الإمام تنكر له , والقاضي تنكر له على قوس محكمته .
أجل سيدي القاضي ! الكل يشهد أنها ابنتي , وأنها كانت برفقتي عندما دهستها السيارة !
القاضي : هذا لا ينفع ! كيف لي أن أحضرك الجلسة , وليس لديك بيان يشعر أنها ابنتك ؟
حسو : سيدي القاضي ! ثلاث مرات متتالية , قدمت معاملة زواجي , لكنها كانت ترجع مرفوضة !
القاضي : أقرر تأجيل الدعوى إلى حين ظهور ولي أو وصي للمغدورة وتعليق الجلسة إلى يوم الثلاثين من شهر شباط من العام القادم .
حسو : ابنتي سيدي القاضي .. ابنتي .. من لحمي ودمي !؟ .. متى الجلسة سيدي !؟
القاضي : أعطيه الموعد يا محضر ! 30-2 بعد رأس السنة .
حسو : سيدي شباط ما فيه ثلاثين يوم !؟
القاضي : لا تناقش ! خذ الموعد وروح ! بس تجيب إثبات . . وقتها احكي اللي بدك !
حسو : بس شباط ما فيه ثلاثين يوم ؟
المحضر : خلاص اطلع . خذ . الموعد مسجل على الورقة .
* * *
أنهكه التعب والإعياء .. فهو لم يقطع تلك المسافة القصيرة , الكائنة بين جامع القرية وبيته فقط , بل قطع مسافة تلك السنوات الزاخرة بالملمات والأحزان .
عاش مسرحيته التراجيدية طوال الليل . وفي الصباح حملها معه إلى المدينة , وشرع يوزع اليأس والقنوط في شوارعها المنتظمة وهو في طريقه إلى آخر خطوطه الدفاعية .. مكتب المحامي .
* * *
لقد كان من المستبعد جداً أن يدور في خلد حسو يوماً احتياجه إلى محامٍ يساعده في شؤونه البائسة , وكان التوجه إلى مكتب المحامي أشق عليه من تلك المشيات الجنائزية البطيئة المنفرة . فكلما اقترب من مكتب المحامي , شعر باقترابه من جوهر الزغال .
في المكتب اختلطت عليه شخصية المحامي بشخصية جوهر الزغال . حدث ذلك لأكثر من مرة , مع أنه كان بخياله يبعد طيف جوهر الزغال , لينقي لنفسه الجو ويستقل في تعامله مع المحامي لوحده .
سأله المحامي : وكيف دخلت السعودية ما دمت مجرداً من الجنسية !؟
حسو : هذه مسألة أخرى أستاذ .
المحامي : لا تخفي عني شيئاً . يجب أن أعرف كل جوانب الموضوع , حتى أتمكن من تكوين رأي يفيدك .
حسو : دخلتها بأوراقٍ نظامية .
المحامي : لا أفهم الأوراق النظامية هذه !؟
حسو : الحقيقة أن جوهر الزغال هو الذي دبر لي التأشيرة وجواز السفر اللبناني , وأخذ مني مبلغاً أكثر من اللازم ثمناً لذلك .
المحامي : وهذه هي العقدة الأساسية في نزاعك مع جوهر الزغال . ففي وضعٍ كهذا ليس بمقدورك مقاضاته , لا وفق جواز السفر اللبناني الذي انتحلت فيه شخصية أخرى , ولا وفق صفتك المجردة من الجنسية هذه . لذا عليك نسيان هذا الموضوع , وعدم التفكير في إثارته , لا في المحاكم ولا في الدوائر الرسمية .
حسو : شكراً أستاذ فهمت .
وهم حسو بالخروج .
المحامي : إلى أين !؟ .. !؟
التفت حسو إلى المحامي , عائداً إلى نفس الكرسي الذي نهض منه دون أن يتفوه بأية كلمة تصدر عنه .
المحامي : شو ! فاتحين مكتب حتى نقدم استشارات مجانية لله بالله ؟
حسو : ماذا تأمر أستاذ ؟
المحامي : أكثر من ساعة وأنا أتحدث معك . ادفع حق استشارة والله معك.
حسو : عفواً أستاذ . وكم ثمن الاستشارة ؟
المحامي : ألف ليرة . كما نأخذ من غيرك . الاستشارة الكتابية بألفين والشفهية بألف !
أخرج حسو رزمته النقدية الوحيدة . وضعها بين يديه . عزل عنها ثلاثمائة ليرة سورية وقدمها للأستاذ .
شعر حسو بامتعاض المحامي من المبلغ , فأكمله إلى خمسمائة ليرة ووضعها على الطاولة .
حسو : هذا يكفي أستاذ .
وهمَّ بالخروج ومغادرة آخر خطوطه الدفاعية . ليعود إلى واقعه القسري ألا وهو الغرابة ومغادرة الأشياء وفق السكة المرسومة له .. مغادرة قريته .. مغادرة السعودية .. مغادرة صاحب عمله الجديد .. مغادرة جوهر الزغال .. مغادرة ابنته .. مغادرة المحامي .. مغادرة شخصه هو , حينما حمل جواز السفر اللبناني , ليعود اسماً من ثلاثة أحرف لا أكثر , ويدفن حياً ضمن قمقمه المسمى بصورة قيد فردي خاص بالمسجلين في سجلات أجانب محافظة الحسكة ويحفظ في صندوق إحصاء عام 1962 المحكم الإغلاق .
* * *
التاريخ المجازي لبداية هذه القصة يبدأ من إحصاء عام 1962إلى يومنا هذا وستستمر القصة نفسها مع حسو وأبناءه المجردين من الإنسانية ( الجنسية ) وأحفاده ( المكتومين ) إلى أن يضع السيد رئيس الجمهورية نقطة النهاية الأبدية لهذه القصة المأساوية جداً بجميع أبعادها والمنافية لأبسط القيم الدينية والإنسانية . ولأنها تتعلق بمكونٍ أساسي مقيد من مكونات الشعب السوري والذي عانى ولا يزال .
وحينما كان يدور الحديث في مجالس القرية , حول الخليج وسبل العمل فيه , تراهم يمطرون حسو , بوابل من أسئلتهم التي لا تنتهي , حول أوفر السبل وأقلها نفقة للحصول على التأشيرة .. ظروف العمل في تلك الأجواء الحارة .. مقدار الأجور ..
وما أن يتطرق حسو في حديثه إلى مسألة خلافه مع جوهر الزغال ويسترسل في شرحه , حتى تتوقف جميع الأسئلة , ويسود الحضور صمت مطبق , متقصد , ومشوب بالحذر , لهذا يأخذ حسو راحته التامة في شرح الخلاف منذ البداية , وكيف أنه انخدع بجوهر الزغال وأولاه كلَّ ثقته , فيما كان الأخير يعامله بتسيسٍ بالغ و وفق أسلوب مبرمج , مجرب ومدروس .
كان ذلك بعد الأشهر الستة الأولى التي قضاها هناك , أرسل خلالها عدة دفعات نقدية إلى أهله , لسداد بعض الديون السابقة لمجيئه , إلى أن انتهت المهلة الممنوحة , لتسفير العاملين غير الحاصلين على الإقامة هناك , واقتراب موسم الحج , حيث اختفى حسو عن أعين السلطات , وانضم إلى ورشة عمل في المناطق البعيدة عن المدن , على حفارة آبارٍ ارتوازية لجوهر الزغال , بناءً على نصيحة الأخير له , وتعهده بدفع مبلغٍ شهري قدره سبعمائة ريال سعودي , ومع أن شريكه السعودي غير موجود الآن , وهو بصفته وكيل عنه , لا يستطيع التعاقد هكذا مع حسو , لكن شريكه لن يعارض ما يفعله , وسيقبل بكل بساطة , بدفع المبلغ الذي تعهد به لحسو , لكونه من قرية جوهر على الأقل .
* * *
بعد هذا الوعد المعسول واهتمام جوهر الزغال الملحوظ به , أولى حسو كل ثقته بجوهر الزغال وتابع عمله بكل همة ونشاط , إلى أن أمضى شهراً كاملاً على هذا المنوال , واستلم رفاقه أجورهم , أما هو فجزءاً من الأجر المتفق عليه , لا لشيء ـ كما قال جوهر ـ فقط من الناحية الأدبية , ولحسن تعامل شريكه السعودي معه وإيلائه كل ثقته به , يجد أنه من غير المناسب أن يدوِّن أجر حسو وفق المبلغ المتفق عليه , إلا بعد أن يعلمه بذلك , من باب الإعلام ليس إلاَّ . ليكون على اطلاعٍ , مع أنه سوف يكون الأمر طبيعياً إن دفع له الأجر بالكامل , ولكن لا ضير في ذلك , إلى أن يعود شريكه من الخارج , فكل شيء يهون بيننا .
* * *
لم يشغل مسألة الأجر بال حسو , بقدر ما أشغله الخوف من أن تضبطه إحدى الدوريات الحكومية العابرة وترسله عنوة إلى بلده . لقد نبهه جوهر الزغال في زياراته الثلاث بذلك , وأوصاه بضرورة الاحتراس وأخذ الحيطة والحذر اللازمين , موضحاً له في كل زيارة أنه أثناء مجيئه التقى بإحدى تلك الدوريات ودبَّر الأمر معهم , بادعائه أنه لا يعمل لديه أي عامل بصورةٍ غير نظامية .
ولأخذ الاحتياطات اللازمة , أخذ منه جوهر الزغال جواز سفره , حتى لا يتم ضبطها معه , فيما لو حدث لا سمح الله أن ألقوا القبض عليه , ناصحاً إياه بعدم التخوف من الدورية , حتى لا يخالجهم الشك في أمره , وأن يخبرهم بكل بساطة وهدوء ودون تكلِّف , بأنه أرسل جواز سفره مع صاحب عمله , ليقطع له تذكرة السفر بالطائرة , وأن باستطاعتهم في زيارة قريبة , بعد يوم أو يومين التأكد من ذلك بالاطِّلاع على جواز السفر , وبعد ذلك قال جوهر , نحن سندبر الأمر إن رجعوا ثانية .
* * *
بهذه الطريقة استطاع جوهر الزغال أن يشغل حسو لديه لمدة ستة أشهر كاملة , لم يذق حسو خلالها طعماً للراحة , لخوفه في البداية من أن تضبطه إحدى الدوريات التي كان جوهر يتحدث عنها باستمرار , هذا من جهة , مع أن هذا الخوف قد زال تماماً , لأنه لم يحدث أن مرت , ولو دورية واحدة على الأقل خلال عمل حسو طوال الأشهر الستة كاملة . ومن جهة ثانية لتمادي جوهر الزغال وتماطله في دفع أجوره الشهرية كاملة , بحجة أن شريكه السعودي لازال موجوداً في الخارج , وكونه وكيلاً عنه , فليس بمقدوره بهذه الصفة دفع أجور حسو وفق المبلغ الموعود به في بداية العمل .
كان هذا هو عذر جوهر الزغال وحجته , منذ نهاية الشهر الأول إلى نهاية الشهر السادس , حيث لم يجد حسو أي بد سوى الرضوخ لمشيئة جوهر الزغال , وترك باقي الحساب , لحين رجوع شريك الأخير من الخارج .
* * *
غادر حسو الأراضي السعودية , عائداً إلى قريته بقلبٍ مليء بالمنغصات . ووفق تصوره فقد غادر جوهر الزغال , الذي طغت صورته على مخيلته , فجوهر الزغال لديه هو السعودية والسعودية هي جوهر الزغال ولا فرق بينهما .
و مضت أشهر عديدة , لم يرد خلالها من جوهر الزغال أي خبرٍ , سوى أن بعضهم قال لحسو , أن جوهر الزغال يقول , أنه لم يبق لحسو أي حساب, وأنه رأفةً بحسو وكونه ابن قريته فقد شغله على حفارته , دون أن يكون لشريكه السعودي رأي في ذلك , وأنه حاول جاهداً لتحصيل كامل المبلغ الذي وعد حسو به , لكنه لم يفلح في ذلك , فهو ليس أكثر من وكيل , وكل الأمور مرهونة بمشيئة السعودي .
* * *
في الواقع لم يكن حسو ينتظر من جوهر الزغال , إرسال باقي الحساب , فقد ترسخت القناعة في ذهنه , بلؤم وجشع وخساسة جوهر الزغال , وأنه كان يكذب عليه طوال فترة عمله هناك , وأن السعودي لا دخل له في الموضوع , بل أن جوهر الزغال , هو الذي امتهنه واحتال عليه وسرق أجوره جهاراً .
أدرك ذلك أثناء وجوده هناك , ولكن كما يقول المثل (( ما كان باليد حيلة )) , فوضعه غير النظامي لم يمكِّنه من التقاضي معه , زذ على ذلك أن جوهر الزغال نفسه , لم يمنحه جواز سفره المنتحل ومنعه من السفر , إلى أن بصم له على ورقةٍ , صرح فيها , أن جوهر الزغال بريء الذمة تجاهه وأنه يسقط حقه من الادعاء بالغبن أو كذب الإقرار أو طلب تحليف اليمين , وبناءً على ذلك فقد بصم تلك الورقة , واحتفظ بها جوهر الزغال لنفسه .
* * *
الفصل صيف , وحسو منهمك في هذه الأيام الحارة , بالعمل على حفارة شخصٍ من أهالي المدينة , فلأكثر من ثلاثين يوماً لم يغادر لا الحفارة ولا الخيمة المنصوبة بالقرب منها ولم يكن يفكر قط في طلب أية إجازة , رابطاً مصيره في الإجازة والراحة بانتهاء الحفر من هذا البئر الذي بين أيديهم , أضف إلى ذلك أن طلبات حفر الآبار في هذا الفصل ضئيلة , إذا ما قيست بالفصول الأخرى , ولحينه ليس هناك أي طلب بحفر أي بئرٍ جديد , فلماذا لا يصبر و ينتهي من هذا البئر , بعدها بإمكانه زيارة أهله في القرية , أو لعلهم أثناء الانتهاء من هذا البئر يجدون من يطالبهم بحفر بئرٍ آخر . عندها سينقل الحفارة إلى البئر الجديد , وبعد حفر عدة أمتار سيكون الأمر أسهل على بقية العمال , مما يمكنه عندها زيارة أهله لمدة يوم أو يومين , ومن ثم الرجوع إلى عمله .
لكنه ما أن سمع بقدوم جوهر الزغال إلى القرية و تأكَّد من صحة النبأ , حتى ترصد و تحيَّن فرصة زيارة صاحب عمله لهم , وفور قدوم الأخير , استأذن منه أن يمنحه مدة أسبوعٍ كامل و بدون أجر , ليسعى خلاله بمطالبة جوهر الزغال بحقه المسلوب في وضح النهار .
* * *
واتت صاحب عمله الفرصة , وها هي ذي الذريعة ترد إليه بكل سهولة ويسر . سابقاً كان يخشى من سمعته بين العمال , فيما لو أراد التخلص من حسو .
صحيح أنه خبير بأمور الحفر وحريص على ماله , كما أنه ملم كامل الإلمام بتصليح تعطيلات الحفارة العابرة و بأقصر وقتٍ ممكن , لكنه بالمقابل يشاركه في قبض مبلغٍ ليس باليسير من غلة العمل , وذلك بما يعادل أجرة عاملين بالتمام و الكمال . و ها هم بقية العمال قد عملوا معه فترة ليست بالقصيرة , فلا بدَّ أنهم تعلموا منه الشيء الكثير , من تصليح المحرك ومراقبة الإزميل . لقد شاهد بنفسه العمال وهم منهمكون لوحدهم في تصليح جانبٍ معطلٍ من الحفارة , في حين أن حسو كان منصرفاً لتنظيف مضخة المازوت , دون أن يعيرهم الأخير أي اهتمام أو مراقبة . حيث أنهى الطرفان عملهما سويةً وشغلا الحفارة بعد ذلك . ولكن إذا حدث وعجزوا عن تصليح عطلٍ ما , عند ذلك يمكن تصليحه في المدينة , إذ في كل شهرين قد يحدث عطل من هذا النوع , أو قد لا يحدث في أكثر من شهرين , وهذا لن يكلف مبلغ شهرين من أجر حسو الباهظ على أكثر تقدير .
* * *
صحا صاحب العمل من غفوته عندما أعاد حسو على مسامعه أمر الإجازة:
صاحب العمل : كم متراً حفرتم ؟
حسو : حوالي ستين متراً تقريباً .
صاحب العمل : ستين متر ! لماذا ؟ أول أمس التقيت صاحب البئر في السوق وأخبرني حينه أنه بلغ خمسة وخمسين متراً !
حسو : صحيح ! فهو بعد أن غادرنا إلى المدينة , بعد مغادرته بنصف ساعة على الأكثر استعصى الإزميل في البئر . يبدو أنه كان يوجد لسانٍ صخري بعمق حوالي خمسة وخمسين متراً , لكنه لم يكن سميكاً بالقدر الكبير .. هناك الكثير من أصحاب الحفارات , ما أن يستعصي إزميلهم في البئر , نظراً لتعثره ببعض الصخور التي تظهر أحياناً في أعماقٍ مختلفة . تراهم يجهدون في إخراجه بزيادة سرعة المحرك القصوى وعلى دفعاتٍ قوية ومتقطعة في سحب الإزميل , حتى ينقطع الكابل أو ينكسر اللحام الذي يربط الكابل بالإزميل فيستقر الأخير في قاع البئر . قد يحدث هذا في حين لا يكون قد بقي أمامهم سوى حفر آخر مترين للانتهاء من بئرهم .
لكننا نتصرف دائماً بحكمة وتعقل . فقد تركنا الكابل مشدوداً وبذلك يبقى الإزميل مشدوداً إلى الأعلى , وبعد ساعة , أقل أو أكثر , يرتخِ الكابل , حيث يتحرر الإزميل قليلاً , فنشد الكابل ثانية باستعمال قوة المحرك قليلاً وبحذر , حتى نتفادى تقطع الكابل , أو انكسار اللحام الذي يربط الكابل بالإزميل , ونترك الكابل مشدوداً فيرتخي ثانية , وهكذا نصبر حتى يتحرر الإزميل بالكامل .
لكن هذه المرة كان الاستعصاء قوياً جداً , فلم يرتخِ الكابل في أول الأمر لأكثر من ساعتين , بعدها كان يرتخي بمنتهى البطء , وكأنه مربوط من الأسفل . لهذا استمرينا نعمل بصبرٍ وتأنٍ على هذا المنوال , طوال يوم أمس بالكامل , حتى أفلحنا في النهاية بتحرير الإزميل .
صاحب العمل : كم يوماً تريد ؟
حسو : حوالي أسبوع , أكثر أو أقل , لا أدري بالضبط !
صاحب العمل : كيف لا تدري ؟
حسو : لأنني قد لا أجد جوهر الزغال في القرية , فهو كثير التنقل , وقد يسمع بقدومي ويغيب عن القرية لمدة أسبوع , وقد أجده فوراً , بالضبط لا أدري كم يوماً أحتاج لحل مشكلتي معه !
صاحب العمل : قد تغيب شهراً كاملاً ولا تجده ؟
حسو : والله إن مشكلتي معه عويصة , فهو محتال ومتنبه كالثعلب !
صاحب العمل : وكيف ستترك العمال لوحدهم ؟
حسو : أنا مضطر ! ويجب أن أذهب وأجهد في العثور على جوهر الزغال , فماذا أعمل لو مكث في القرية لفترة قصيرة وسافر ثانية , عندها سأعاني من غصة مريرة في قلبي , سوف لن تفارقني مادمت حيا .
العمال يمكنهم العمل بدوني خلال هذا الأسبوع . وإن شاء الله سوف لن تحدث معهم أية أعطال من شأنها إعاقة العمل , وإن حدث معهم ما يستلزم تواجدي , عندها سأرجع ولكن آمل من الله ألاَّ يحدث معهم ما يستلزم تواجدي , وإن طال غيابي لأكثر من أسبوع , فقد اكتسبوا خبرة لا بأس بها و ألموا بتصليح بعض التعطيلات الطارئة , وقدرتهم على العمل والتصليح أعلى مما هو معتاد لدى عمال الحفارات عموماً . وإن شاء الله سيتيسر أمرهم بدوني , فالتعطيلات التي تتكرر دائماً معروفة ومحددة , فإما أن تنسد إحدى البخاخات بسبب الوسخ والصدأ المترسب في قاع البراميل , وسأوصيهم بأن يتركوا خلال هذه الفترة قدر صفيحة كاملة من المازوت , في كل واحدة منها , حتى لا يسبب لهم انسداداً في إحدى البخاخات . أو قد يكون هناك القليل من المياه بين المازوت , فتنسد البخاخات بسببها أيضاً , وهم قد تعلموا على معرفة هذه العوارض . أو قد يدخل بعض الهواء إلى مضخة المازوت . في هذه الحالة أيضاً يستطيعون استخراج الهواء , ويعرفون كيف يفرغون المضخة منه . وما عدا ذلك , إن شاء الله سوف لن تحدث معهم أية أعطال أخرى .
صاحب العمل : إذا توقف العمل . فمن سيبحث عنك عندئذٍ , وكيف يمكنهم السؤال عنك ومتابعتك ؟
حسو : لا . إن شاء الله سوف لا يحدث معهم أي عطل , ومتى ما أرادوا , ما عليهم إلا أن يعلموني عن طريق أي شخص , عندها سأحضر حالاً .
صاحب العمل : والله ياحسو أرى في ذلك صعوبة بالغة , فأنت تعلم أنه ليس لدينا أي طلب بحفر آبارٍ جديدة , وهذا هو البئر الوحيد الذي نعمل فيه وتريد أن تتركه أيضاً , فالمرء لا يدري متى يأتي إليه رزقه , ولا أحد يعرف اللحظة التي نتلقى فيها الطلب بحفر بئرٍ جديد !
حسو : الطلب قليل , عموماً في فصل الصيف هذا . فضلاً عن أن الأعطال نفسها تكثر في هذا الفصل بالمقارنة مع الفصول الأخرى من السنة . فحرارة الجو في هذا اليوم هو أربعون درجة , حسب النشرة الجوية ولكنه في الواقع أعلى من ذلك بكل تأكيد . فكيف لا تحدث الأعطال في مثل هذا الجو الجهنمي !
صاحب العمل : والله حسو . هناك حفارات لا تتوقف عن العمل , لا في فصل الصيف ولا في الفصول الأخرى !
حسو : والله معلمي , الشغل نصيب , فأحياناً نحن أنفسنا نعمل بشكلٍ دائم ولفتراتٍ طويلة . فمنذ الشتاء لم نتوقف لهذه اللحظة , وحتى الآن لم نتوقف عن العمل بسبب قلة الطلبات !
صاحب العمل : هذا لأنكم موجودون على رأس عملكم ! فعندما يكون المرء جاهزاً ومستعداً للعمل , لابدَّ أنه سيلاقي بئراً يحفره , أما إذا تغيب المرء وترك عمله وجاء إليه من يطلب حفر بئرٍ ما ولم يجده , فكيف سيلاقي هو العمل , وأنت تريد أن تترك العمل الذي بين يديك ؟
حسو : هذه حالة طارئة , هذا ظرف طارئ !
صاحب العمل : والله يا حسو , ليس من الصواب قطعاً أن يستمر العمل بدونك , فأنت الذي تدير العمال , وإن ذهبت فإما أن نوقف العمل أو نبحث عن شخصٍ آخر يكون قادراً على تجاوز التعطيلات الطارئة التي تعترض سبيل العمل .
حسو : والله يا معلمي , إن جلبت عاملاً آخراً , فسوف لن يهتم بالحفارة والعمال قدر اهتمامي بهما , والأمر ليس بمصيبة موتٍ لا يمكن تداركه , فكلها أيام معدودة أرجع بعدها إلى عملي .
صاحب العمل : بصراحة يا حسو , إذا ذهبت وتركت الحفارة , لا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى رجوعك , فنحن حينها سندبر أمرنا بأنفسنا , فإما أن نوقف الحفارة أو نسيّرِ أمورنا على قدر استطاعتنا .
حسو : والله معلمي , إذا كان في نيتك الاستغناء عني وبغض النظر عن مسألة الإجازة , فأنا لا أفرض نفسي عليك قطعاً , فالله الرازق لا العباد .
* * *
في جامع القرية . كان الإمام وجمع غفير من أهالي القرية قد أنهوا صلاة العشاء . وجد حسو الفرصة مناسبة وذهبية , لعرض مشكلته مع جوهر الزغال الجالس قبالة الإمام .
دعا حسو الإمام والحضور للتحكيم بينه وبين جوهر الزغال الذي كان يظهر نفسه بمظهر المتقي المؤمن , بتقصده بالتحدث عن الأماكن المقدسة , طوال أماسي الصلاة هذه , لإبهار الإمام والمصلين بتقواه وطاعته .
بينما كان حسو يتحدث بلهفة , شارحاً كيف أن جوهر الزغال احتال عليه , كان جوهر يحرك حبات مسبحته , متظاهراً بصموده أمام ما يصرفه عن ذكر الله , وهو منصت إلى حديث حسو , بكل فتورٍ وازدراء وبرود .
الإمام نفسه كان قد تشرد منصرفاً بذهنه للمقارنة بين شخصية حسو وشخصية جوهر الزغال . وانشغل ذهنه بفرز الصفات العامة للشخصيتين , حسب أحاديثهما ومعرفته السابقة والحالية بهما .
حسو مسحوق مادياً . يركض دائماً وراء النقود . رجع من السعودية , ولم يتحدث أمامه وأمام الناس , سوى عن أجوره , فهو لم يزر الأماكن المقدسة هناك . لم يدرك الإمام أسباب عدم زيارة حسو للأماكن المقدسة , أهو وضعه غير النظامي أم ضنك العيش الذي دفعه إلى الاغتراب , ومن ثم الاغتراب إلى أماكن بعيدة عن المدن في بلد الاغتراب نفسه . لا يهم الإمام ذلك . إنما المهم أنه هو وجوهر الزغال كانا في السعودية ولمدةٍ طويلة . فجوهر وحسب ما حدثه , زار الأماكن المقدسة عدة مرات , أما حسو فلم يزر أي مكانٍ مقدس , ولو لمرةٍ واحدة على الأقل .
هنا كان ذهن الإمام يرجح الكفة لصالح جوهر الزغال , بأنه أفضل إيماناً وتقوىً من حسو . فلا بدَّ أن يكون القول الصادق في جانبه .
جوهر يواظب كل مساء على الاعتكاف في الجامع , بيت الله , باستمرار أثناء تأدية صلاة المغرب والعشاء , أما حسو , حسب ما يرى الإمام , فإنه لا يأتي إلى القرية إلا نادراً ويمكث فيها ليومٍ واحد حوالي كل شهر أو أكثر , ومع ذلك فليس لديه أي اشتياق إلى بيت الله , ولو كان يحب الله حقاً , لمرَّ على الجامع ولو خطأً وصلى فيه .
لهذا أيضاً رجح الإمام الكفة لصالح جوهر الزغال .
في كل سنةٍ عندما يقدم جوهر من السعودية , يطلب من الإمام مصاحبته في سيارته الفخمة إلى زيارة الشيخ , أما حسو فليس في باله قط زيارة الشيخ , ولو لمرة واحدة وللتوبة فقط , بل أزيد من ذلك فإن الإمام تذكر أنه سمع من بعضهم بتفوه حسو بكلماتٍ نابية وغير مستحسنة بحق الشيخ .
هنا ألقى الإمام نظرة هادئة على جوهر الزغال تنم عن الخشوع لله تعالى , صابغاً نظرته بتقوى الله وإطاعة أمره , مستخلصاً بما لا يقبل الشك والجدل , بأن جوهر يحب أولياء الله وأنه من أهل الذكر والتقوى , وتذكر الآية القرآنية (( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطرٍ إلا من تولى وكفر )) .
هزَّ الإمام رأسه قناعةً بأن حسو قد تولى وكفر , وأنه يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة (( بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى )) , وذلك بإحراجه أولياء الله وخاصةً جوهر الزغال الساعي إلى ذكر الله دائماً .
ألقى الإمام نظرة أخرى على جوهر الزغال وبنفسه إنما يغمره بالآية القرآنية (( فذكر إنما أنت مذكر )) . بعدها ألقى بنظرته المزدرية على حسو وبنفسه إنما يغمره بالآية القرآنية (( لست عليهم بمسيطرٍ , إلا من تولى وكفر )) , مركزاً بذهنه على الكلمتين الأخيرتين من الآية الأخيرة , وتساءل في سره , لماذا لا يسيطر على حسو ؟
ذهب الإمام بعيداً جداً وتعمق في تصوراته , إلى أن أنهى بحثه الذهني في المقارنة بين الشخصيتين الماثلتين أمامه , إذ بدا له حسو ـ الذي لا يزال يتكلم ـ بدا بأنه يخاطبه من بين نيران جهنم الهائلة . وأنه هو وجوهر إنما يستمتعان بالجلوس في مراتع الجنة , تشاركهما الملائكة في الاستماع في يوم الحساب هذا , إلى حسو , ذلك المغفل الضال , المنشغل بدنياه الفانية .
استخلص الإمام هنا , بأن الملائكة قد انضمت إليه هو وجوهر الزغال وحثهما على عدم تصديق حسو وتفنيد مزاعمه الباطلة .
ما أن وصل الإمام إلى هذا الاستنتاج الذهني , حتى توقفت التخيلات في ذهنه , شاعراً بأن حسو قد عكَّر عليه صفو الجنة ومباهجها وسحبه بكل صلفٍ من مراتع الجنة هذه إلى الحياة الدنيوية الفانية , عندما قال له حسو , رافعاً صوته قليلاً :
ـ هذا كل ما عندي سيدي الإمام , وأقسم بالله العظيم و بالقرآن , بأنني لم أقل شيئاً خلاف ما جرى بيننا , وأنكم أدرى بالشريعة منا , فالشرع لا انحياز فيه لأحد !
قال الإمام : جيد قلت أنت ما عندك .
وأدار الإمام وجهه إلى جوهر الزغال وقال : ماذا تقول أنت يا جوهر ؟
قال جوهر : سيدي الإمام ! المسألة منتهية بيننا ! أعطيته حقه الذي عندي وكتبنا سنداً بذلك , وخص جوهر الإمام بالحديث , برفع صوته وتركيزه على كلماته بقوله : سيدي الإمام ! خلق الله الإنسان وفي نفسه طمع بالغ في المال , فالله تعالى يقول : (( ويحبون المال حباً جما )) , وهذا ما يصرفهم عن الآخرة . نعم سيدي الإمام , فالمسألة منتهية بيننا ولا يحتاج إلى توجيع رؤوسكم بدون سبب , وأرجو أن تعذروني على تشغيل بالكم بهذا الأمر المنتهي وألاَّ تلوموني , فإنني غير قادر على تحمل ذنوبي , حتى أتحمل ذنوب إدخال الهموم إلى قلوبكم .
هنا تذكر الإمام الكتب الدينية , باحثاً بذهنه عن أقوال جوهر الزغال هذه , أين وجدها ؟ حتماً أنه قرأها في إحدى تلك الكتب , ورجح الكفة أيضاً لصالح جوهر الزغال .
* * *
توترت أعصاب حسو . احتار وارتبك . غضب في جريرة نفسه . لماذا لا يقدم على شتم جوهر الزغال وضربه .. لا .. لا .. إن أقربائه معه .. واحد مقابل ثلاثة , وجوهر أربعة .. لا .. لا .. يجب أن اشتمه .. أن ألعنه .. أن أضربه .. لكنه عراك خاسر في النهاية .. وبقية الحضور أيضاً , سيرجحون الكفة لصالح جوهر الزغال .
* * *
للمرة الألف شعر حسو بغربته الخانقة .. الكل تنكر له .. جوهر الزغال .. السعودية .. صاحب عمله الجديد .. الإمام ..
قوة الذاكرة الخارقة صفعته , هشمت كيانه المحطم , ذكرته بقوة بابنته المتوفاة . نعم ابنته التي كانت من لحمه ودمه . ابنته هو , ابنة حسو , ذلك الشخص الذي تمثل يومها أمام المحكمة رغم تنكرها له .
أعادته الذاكرة إلى تلك اللحظات الأليمة , التي ذاق مرارتها قبل عشر سنواتٍ خلت . الزمن هو الزمن , والتوقيت هو التوقيت . السيارة المتغطرسة اخترقت روحه ودهست ابنته الوحيدة حينها . وجوهر الزغال والإمام المتغطرسين يدهسانه هو . المنظر هو هو , يعيد نفسه ولم يتغير . الإمام تنكر له , والقاضي تنكر له على قوس محكمته .
أجل سيدي القاضي ! الكل يشهد أنها ابنتي , وأنها كانت برفقتي عندما دهستها السيارة !
القاضي : هذا لا ينفع ! كيف لي أن أحضرك الجلسة , وليس لديك بيان يشعر أنها ابنتك ؟
حسو : سيدي القاضي ! ثلاث مرات متتالية , قدمت معاملة زواجي , لكنها كانت ترجع مرفوضة !
القاضي : أقرر تأجيل الدعوى إلى حين ظهور ولي أو وصي للمغدورة وتعليق الجلسة إلى يوم الثلاثين من شهر شباط من العام القادم .
حسو : ابنتي سيدي القاضي .. ابنتي .. من لحمي ودمي !؟ .. متى الجلسة سيدي !؟
القاضي : أعطيه الموعد يا محضر ! 30-2 بعد رأس السنة .
حسو : سيدي شباط ما فيه ثلاثين يوم !؟
القاضي : لا تناقش ! خذ الموعد وروح ! بس تجيب إثبات . . وقتها احكي اللي بدك !
حسو : بس شباط ما فيه ثلاثين يوم ؟
المحضر : خلاص اطلع . خذ . الموعد مسجل على الورقة .
* * *
أنهكه التعب والإعياء .. فهو لم يقطع تلك المسافة القصيرة , الكائنة بين جامع القرية وبيته فقط , بل قطع مسافة تلك السنوات الزاخرة بالملمات والأحزان .
عاش مسرحيته التراجيدية طوال الليل . وفي الصباح حملها معه إلى المدينة , وشرع يوزع اليأس والقنوط في شوارعها المنتظمة وهو في طريقه إلى آخر خطوطه الدفاعية .. مكتب المحامي .
* * *
لقد كان من المستبعد جداً أن يدور في خلد حسو يوماً احتياجه إلى محامٍ يساعده في شؤونه البائسة , وكان التوجه إلى مكتب المحامي أشق عليه من تلك المشيات الجنائزية البطيئة المنفرة . فكلما اقترب من مكتب المحامي , شعر باقترابه من جوهر الزغال .
في المكتب اختلطت عليه شخصية المحامي بشخصية جوهر الزغال . حدث ذلك لأكثر من مرة , مع أنه كان بخياله يبعد طيف جوهر الزغال , لينقي لنفسه الجو ويستقل في تعامله مع المحامي لوحده .
سأله المحامي : وكيف دخلت السعودية ما دمت مجرداً من الجنسية !؟
حسو : هذه مسألة أخرى أستاذ .
المحامي : لا تخفي عني شيئاً . يجب أن أعرف كل جوانب الموضوع , حتى أتمكن من تكوين رأي يفيدك .
حسو : دخلتها بأوراقٍ نظامية .
المحامي : لا أفهم الأوراق النظامية هذه !؟
حسو : الحقيقة أن جوهر الزغال هو الذي دبر لي التأشيرة وجواز السفر اللبناني , وأخذ مني مبلغاً أكثر من اللازم ثمناً لذلك .
المحامي : وهذه هي العقدة الأساسية في نزاعك مع جوهر الزغال . ففي وضعٍ كهذا ليس بمقدورك مقاضاته , لا وفق جواز السفر اللبناني الذي انتحلت فيه شخصية أخرى , ولا وفق صفتك المجردة من الجنسية هذه . لذا عليك نسيان هذا الموضوع , وعدم التفكير في إثارته , لا في المحاكم ولا في الدوائر الرسمية .
حسو : شكراً أستاذ فهمت .
وهم حسو بالخروج .
المحامي : إلى أين !؟ .. !؟
التفت حسو إلى المحامي , عائداً إلى نفس الكرسي الذي نهض منه دون أن يتفوه بأية كلمة تصدر عنه .
المحامي : شو ! فاتحين مكتب حتى نقدم استشارات مجانية لله بالله ؟
حسو : ماذا تأمر أستاذ ؟
المحامي : أكثر من ساعة وأنا أتحدث معك . ادفع حق استشارة والله معك.
حسو : عفواً أستاذ . وكم ثمن الاستشارة ؟
المحامي : ألف ليرة . كما نأخذ من غيرك . الاستشارة الكتابية بألفين والشفهية بألف !
أخرج حسو رزمته النقدية الوحيدة . وضعها بين يديه . عزل عنها ثلاثمائة ليرة سورية وقدمها للأستاذ .
شعر حسو بامتعاض المحامي من المبلغ , فأكمله إلى خمسمائة ليرة ووضعها على الطاولة .
حسو : هذا يكفي أستاذ .
وهمَّ بالخروج ومغادرة آخر خطوطه الدفاعية . ليعود إلى واقعه القسري ألا وهو الغرابة ومغادرة الأشياء وفق السكة المرسومة له .. مغادرة قريته .. مغادرة السعودية .. مغادرة صاحب عمله الجديد .. مغادرة جوهر الزغال .. مغادرة ابنته .. مغادرة المحامي .. مغادرة شخصه هو , حينما حمل جواز السفر اللبناني , ليعود اسماً من ثلاثة أحرف لا أكثر , ويدفن حياً ضمن قمقمه المسمى بصورة قيد فردي خاص بالمسجلين في سجلات أجانب محافظة الحسكة ويحفظ في صندوق إحصاء عام 1962 المحكم الإغلاق .
* * *
التاريخ المجازي لبداية هذه القصة يبدأ من إحصاء عام 1962إلى يومنا هذا وستستمر القصة نفسها مع حسو وأبناءه المجردين من الإنسانية ( الجنسية ) وأحفاده ( المكتومين ) إلى أن يضع السيد رئيس الجمهورية نقطة النهاية الأبدية لهذه القصة المأساوية جداً بجميع أبعادها والمنافية لأبسط القيم الدينية والإنسانية . ولأنها تتعلق بمكونٍ أساسي مقيد من مكونات الشعب السوري والذي عانى ولا يزال .