(الضياع)، المجموعة القصصيّة الأولى للكاتب محمّد علي علي

  صدرت المجموعة القصصية الأولى للكاتب محمّد علي علي عن دار الينابيع، بعنوان: “الضياع”، تقع المجموعة في 90صفحة من القطع الوسط، تتألّف من ست عشرة قصّة، عناوينها:
(القطيع المهاجر –  ضياع – مقبرة – العيديّة- الزيارة الأبدية – اللصّ الخفيّ – دموع لو يراها العالم…! – مطحنة الحبّ – الحلم- برسم  البيع- غربة – الحرّيّةُ الزرقاء- نشوة الألم- موت قصيدة – وخز الطفولة)..

تتناول القصص جوانب من الواقع، وهي العمل المطبوع الأوّل للكاتب، وقد قدّم للكتاب الكاتب هيثم حسين.. لوحة الغلاف: محمود القادري.
المؤلّف في سطور:                  
محمّد علي علي
ولد في محافظة الحسكة ـ مدينة عامودا سنة 1966م.
حاز على إجازة في الأدب الروسيّ من جامعة كوبان الروسية سنة1994.
كما حاز على إجازة في الأدب الفرنسيّ من جامعة دمشق  سنة1999.
يعمل في سلك التربية والتعليم.
قدّم عدّة أعمال مسرحيّة منها:
-الأرض الطيبة..
-بَطْلان ..

القصّة الأولى في الكتاب:

القطيع المهاجر
  يا من تبحث عنها هنا وهناك..
ألا تعلم بأنّ السعادة تكون حيث لا نكون ؟!

محمّد علي علي

عند الغروب وبعد تأخّر دام عدّة أيّام، أطلقت السفينة صفيراً حادّاً، لتعلن بدء رحلتها المثيرة إلى تلك البلاد، حيث تغرب الشمس..
أقلعت السفينة بحمولتها المؤلّفة من مئاتٍ من رؤوس الماشية وعشرات من الرؤوس البشرية، الحالمة بأرض لم تطأها أقدامهم، وبسماء لا تنحني تحت غيومها رؤوسهم المترعة بالخوف: خوف الماضي، خوف الحاضر والمستقبل المجهول، فرؤوس الماشية ينتظرها النحر، أمّا رؤوسهم فلا أحد يعلم ما يخبّئه لها القدر.. !
  بعد أن قطعت السفينة عشرات الأميال البحريّة، جمع قائد الرحلة “قطيع” المسافرين، ليشرح لهم مخطّط سير رحلتهم، وقف القبطان بينهم، وبعد أن تأمّلهم واحداً تلو الأخر قال:
-غداً ستصل السفينة إلى المياه الدوليّة، وعند الظهيرة ستدخل المياه الإقليميّة، وربّما، سنتعرّض هناك لبعض الصعوبات، لكن، اطمئنّوا، فقد اتّخذنا جميع الاحتياطات اللازمة.. فلا تقلقوا.. !
-ولكن ما هي هذه الاحتياطات التي اتّخذتموها يا سيّدي القبطان..؟ “سأله أحد المسافرين بقلق” .
– لا تقلق يا صاحبي..! سأشرح لكم ذلك.. كما تعلمون فإنّنا عملنا الكثير لكي تنجح الرحلة،ونصل إلى شاطئ الأمان، فقد غيّرنا بعضاً من معالمكم الخارجية كالملابس وتسريحة الشعر، حلاقة الشوارب والذقون، لقد أصبحتم أناساً جدداً، وما تبقّى فالأمر مرهون بكم !
– وماذا علينا أن نفعل..؟! “صاح مسافر آخر من بين المسافرين” .
أجاب القبطان بحزم:
  يجب عليكم أن تنسوا أسماءكم القديمة.. وأن تطمسوا شخصيّاتكم الحقيقيّة.. ارموا حقيقتكم في جوف هذا البحر المتلاطم الأمواج، وكذلك البلاد التي قدمتم منها، والخطر الوحيد الذي قد يجابهنا هو وصول دوريّة خفر السواحل، وإذا اعترضت سبيلنا هذه الدوريّة فعندها سنقوم بالعمل اللازم.. اطمئنّوا، لن تستطيع أن تكشف أمركم..
وما إن أنهى القبطان كلامه، دفع الفضول إحدى الفتيات للسؤال:
وما هو العمل الذي ستقومون به..؟ هل سترموننا إلى  البحر..؟ فنحن لا نجيد السباحة.
-لا..لا.. “أجابها القبطان ضاحكاً.. ثمّ أكمل”:  لن نجعلكم طعاماً لأسماك القرش، فنحن أيضاً بشر مثلكم، كلّ ما في الأمر هو أنّنا سنبدّل لكم أماكنكم، أي أنّنا سنضطرّ لإخفائكم في عنبر السفينة!
– في العنبر ؟! “صاح المسافرون بذهول واستغراب”.
– نعم في العنبر، بين رؤوس الماشية، “قالها القبطان ببرود”.. فعنابر السفينة مليئة بالماشية، وهي أيضاً “رفاق سفركم” سنحشركم بينها لبعض الوقت، وهذا إجراء مؤقت لحين انتهاء إجراءات التفتيش، وبعدها سنكون في أمان تامّ، صدّقوني يا رجال..!
    لم يقتنع أحد من المسافرين بتلك “الاحتياطات المتّخذة”، ولا بفكرة النزول في ضيافة “رفاق سفرهم” المواشي، وبدأ سيل من الأسئلة الساخرة تطلقها ألسنة المسافرين على القبطان:
– هل سترحّب الماشية بضيافتنا..؟! “تساءل أحدهم” .
-ربّما رفستنا بحوافرها، كما رفسنا الآخرون بأقدامهم ..؟ قالها آخر متهكّماً.
-ومن يضمن بأنّهم لن يفتّشوا العنبر أيضاً..؟ “قالها شابّ وهو يمسك بمنظار” .
   عندما سمع القبطان تعليقات المسافرين علّق غاضباً:
– أيّها الحمقى.. لقد اخترتم هذا الطريق بأنفسكم، ولم يجبركم عليه أحد.. من يريد الرجوع فليرجع، وأظنّ أنّ الرجوع إلى الوراء قد بات مستحيلاً..!
 ساد صمت كئيب وجوه المسافرين، وشعر القبطان بأنّه قد نجح في وضع المسافرين على المحكّ، ثمّ تابع الحديث ليقول:
– أعود وأكرّر.. سنضعكم بين الماشية لبعض الوقت، لأنّ خفر السواحل قد تنزل إلى العنبر في حال شكّها بالأمر.. لكنّها لن تستطيع تفتيش قطيع الماشية كلّه، لأنّ الرائحة الكريهة ستقف حائلاً بينكم وبين خفر السواحل، فهي لا تطيق تلك الرائحة النتنة لحظة واحدة، وما عليكم سوى التحلّي بالصبر والتحمّل، لتصلوا بعدها إلى برّ الأمان..
 عاد الهدوء من جديد ليعمّ السفينة، ولم يكن يشوب ذلك الهدوء سوى صخب وتلاطم أمواج البحر الهادرة، هذه الأمواج التي تخبّئ بين ثناياها، أسرار السفن، والأنواء، وطيور النورس، التي تبشّر البحّارة باليابسة والجزر والشطآن..
  وعند بزوغ أوّل شعاع للشمس، نادى منادٍ على المسافرين يدعوهم للاجتماع.. ولم تمضِ سوى لحظات حتّى كان جميع المسافرين مجتمعين أمام القبطان الذي بدأ حديثه بالقول:
-أيّها السادة.. لقد اقتربنا من مكان “سمكة القرش”، أقصد دورية خفر السواحل، يجب أن تنزلوا حالاً إلى العنبر، لا تنسوا أن تستنشقوا بعمق الهواء النقيّ قبل نزولكم.. هيّا تحرّكوا وبسرعة، احشروا أنفسكم بين الماشية واختبئوا.. ممنوع إحداث أيّة ضجّة، الكلام ممنوع وكذلك التدخين، هيا.. هيا انزلوا بسرعة إلى العنبر..
ساد “الهرج والمرج” بين المسافرين، وهرع الجميع إلى   الطابق السفليّ للسفينة، وقد نسي معظمهم أن يستنشقوا نسمات هواء نقيّة، وكأنّ الهواء أيضاً قد أصبح بالنسبة إليهم أمراً منسيّاً، يمكن الاستغناء عنه، كاستغنائهم عن أشياء كثيرة على درب آلامهم..
  دخلوا العنبر على شكل طابور، دخلوه مثنى وثلاث ورباع، لقد اختلط الحابل بالنابل والماشية بالبشر.. قطيع واحد ومصير واحد..
 بعد الإعلان عن “الاستنفار العامّ” على متن السفينة في مجابهة خطر “القرش الأزرق”، أصبحت كلّ العيون في حالة ترقّب، بانتظار ظهور ذلك “الشبح المخيف” من بين ضباب البحر.. وشقّت السفينة عباب البحر متعبة، تترنّح بين لجج البحر.. إنّها أيضاً توّاقة لطيور النورس..!
فجأة لمح القبطان من منظاره سفينة تتّجه نحوهم من بعيد، يرفرف عليها علم لم يستطع تحديد ألوانه.. وشيئاً فشيئاً، اقتربت السفينة أكثر فأكثر حتّى بدت كلّ معالمها:
 إنّها هي.. القرش الأزرق. “تمتم القبطان لمعاونيه بقلق”.
عندما دنت تلك السفينة، وصارت على بعد أمتار منهم، سمعوا صوتاً يناديهم بمكبّرات الصوت وبلغات عديدة، يأمرهم بالوقوف والسماح لهم بتفتيش السفينة.. تقدم قائد الدوريّة إلى السفينة، محاطاً بحرّاس مسلّحين ببنادق وكلابٍ بوليسيّة، أبرز للقبطان أوراقاً وهويّته، ثمّ أوعز لرجاله بتفتيش السفينة، فانتشروا في كلّ الأرجاء، وكذلك كلابهم، التي كانت تنبح وتندفع، وكأنّها في رحلة صيد دسمة، وتودّ الانقضاض على الطريدة..
مرّ الوقت ثقيلاً على القبطان المرتبك، وبعد أن أنهى الحرّاس تفتيش القسم العلويّ من السفينة، نزلوا إلى الأسفل، تجرجرهم كلابهم التي كانت تشمشم مناديل كانت بيد الحرّاس، ولم تمض سوى لحظات حتّى بان المستور.. وهنا كانت الطامّة الكبرى. لقد ضاع الأمل بالنجاة أيّها البحّارة المتعبون، القادمون من هناك، حيث تشرق الشمس..!
 خرج “الضيوف” واحداً تلو الأخر، منكسري الآمال، مطأطئي الرؤوس كأنّهم أسرى الحرب.
 لقد ألقي القبض عليهم وسط البحر، كما ألقي القبض على طاقم السفينة والقبطان، احتجزت السفينة وكذلك حجزوا على قطيع الماشية البريء.
-لقد انكشف أمرنا.. “صرخ أحدهم”.
-أين هي احتياطاتكم أيها السفلة..؟! “صاح آخر غاضباً”.
-أين نقودنا ؟! أين أموالنا أيّها القراصنة..؟! وأنت أيّها القبطان المحتال ؟! “تساءل ثالث باكياً” .
    هنا، تدخّل القبطان بكلّ وقاحة، مدافعاً عن نفسه بالقول:
-الذنب ليس ذنبي..! إنّه ذنب الكلاب.. لقد غيّرنا جميع معالمكم، لكنّ الكلاب كشفتكم من رائحتكم البشريّة.. لقد حشرناكم بين قطيع من الماشية النتنة، ظنّاً منّا بأنّ رائحتها الكريهة ستهيمن على رائحة البشر، ولكنّ خاب ظنّنا.. لم أكن أعرف أنّ رائحة لحم عشرات من البشر ستفوق، وتسود على رائحة قطيع من الأغنام.. ! يا لَلرائحة البشرية النفّاذة.. ؟!
 وقبل أن يسلّم القبطان نفسه إلى الدوريّة، التفت إلى المسافرين ضاحكاً، ساخراً:
-في المرة القادمة لن نجرّدكم من أسمائكم وشخصيّاتكم فحسب، بل سنسلخ عنكم أيضاً رائحة إنسانيّتكم..  
 هكذا، اقتادت الدوريّة السفينة إلى أقرب ميناء، للتحقيق وتقرير مصير هؤلاء التعساء، الذين استقبلتهم جموع من طيور النورس السعيدة، التي كانت تجوب السماء..

أمّا على البرّ، على شاطئ الآلام، فقد كان يسود الضباب، ضباب الفجر، ضباب البحر، وكذلك ضباب “إخوة” لنا في الإنسانيّة ؟!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…