O رقصة العاشق ، المجموعة الفائزة بالمركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع الفني العربي في مجال القصة القصيرة – الدورة الرابعة عام 2000م .
O الكاتب أحمد إسماعيل إسماعيل ، كاتب مسرحي سوري .
O إصدارات دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة – الإمارات العربية المتحدة .
الغريب في أمر هذه المجموعة أن أحداً من النقاد لم يتناولها بالقراءة أو الدراسة إلى الآن رغم صدورها عام 2000م ، وتجاهلتها الصحافة اليومية مع العلم أنها تتفرد بالكثير من المزايا الفنية والمواضيع الغرائبية الشيقة ذات الصلة الوثيقة بالواقع المعاش . نستثني هنا بعض الكتابات التي تناولت قصة واحدة من المجموعة أثناء نشرها منفردة في بعض الدوريات الإقليمية أو قراءتها في المراكز الثقافية بالمحافظات السورية كقراءة موفق نادر للأمسية الثقافية بالمركز الثقافي بالسويداء ، ونشرها في الأسبوع الأدبي .
الأفكار التي تتناولها نصوص المجموعة مزيج من الواقع المرّ مع تحولات غرائبية ، تمثلها على الأغلب شخصيات لها دلالات غير عادية يفهمها القارئ في سياق التطور الفني للقصة ، كما في قصة ( حكاية رجل صار رماداً ، في الغابة ، حكاية يرويها مجنون ، ضحك أخير ) . ففي قصة ( في الغابة ) يبرر الفيل سبب هروبه من الغابة في محاولة لإقناع العصفور ( يا سلام يا سيدي إلى أن يعرفوا بأنني لستُ كلبا فأنهم _ وقتها سيكونون قد جعلوا من جلدي طبلاً ) عندئذٍ يخاف العصفور ثم ( يتساءل برعب ، هل يعقل أن يشبهونني أنا أيضا بالكلاب ؟… كل شيء جائز … كل شيء في الغابة جائز ) (1 ) وتأتي غرائبية الفكرة في قصة ( حكاية يرويها مجنون ) يتحول المدير إلى خنزير يلاحق الراوي الذي يبحث عمن يسمع حكايته التي لا بد له ( من روايتها ولا بد لأحد ما من سماعها )(2) . فيلاحقه الخنزير في مكتبته وفي الشارع وفي الحي وفي المنزل ، فيطعنه ويقتله ولكنه يتفاجأ بأن زوجته العجوز تندفع نحو الجثة الملوثة بالصديد تلطمك وجهها ـ تحدجني بنظرات العتب والغضب ، وتولول بحرقة وتفجع ) ( 3 ) . هنا نلاحظ أن الفكرة تحتمل أكثر من قراءة لما تحمل من دلالات رمزية متعددة قد أقربها إلى الواقع ما نراه من أمراض الفساد المستشري في المجتمع حيث امتدّ اخطبوطه إلى المنزل .
والملمح الفني الآخر الذي يبرز في نصوص المجموعة هو قدرة الكاتب في التوافق بين الفكرة التي يعالجها وبين الأسلوب الفني الرفيع والصياغة اللغوية التي تصل في تصويرها لحركية النص إلى مستويات شاعرية لطيفة ، ويبقى الخيط السردي بارزا في سياق النص ، فلا تطغى الفكرة على فنية اللغة للتحول إلى مجرد حكاية ترويها الجدات ، ولا يختفي السرد القصصي ليتحول النص إلى مقطوعة شعرية ، وهذا التوافق بين السرد واللغة من أبرز سمات نصوص المجموعة ، كما في نهاية قصة ( رقصة العاشق ) ( بعدها وعلى حين غرة أنّت بتوجع مرّ وجفلت وأنا أبصر وجهها البهي يحتقن ويشحب ، وجسدها اللدن الذي احتضنته للمرة الأولى ينسل من بين يدي كالطيف .. ويتهاوى ملتوياً ليسبح في بركة حمراء قانية ، دوائرها راحت تنداح . ) ( 4 ) .
ومن الملامح الفنية الناجحة لدى الكاتب الاستهلال القصصي الذي يولد تشويقا نشطا يدفع القارئ إلى متابعة قراء النص وهذه الميزة يفتقدها الكثير من الكتاب ، ففي قصة ( التكريم ) يستهل الكاتب النص بـ( طرقات متتالية وقوية تنزل على باب دارنا فينتفض لها جميع أفراد العائلة تاركين فرشهم لينتصبوا في فناء الدار ..) ( 5 ) . تلك الطرقات تدفع القارئ لمتابعة النص لمعرفة السبب وما جعل أفراد العائلة يتصرفون هكذا . وفي قصة قربان يبدأ بالقول ( يا للعجب !! أيمكن أن يكون هذا الذي يتحدث أمامي هو سيامند بعينه ) ؟ (6 ). فعبارة يا للعجب توقظ حواس القارئ وتشده نحو القراءة . وفي قصة ( المسخ ) يستهل الكاتب النص بـ( بداية … ظنه الجميع من سكان الكهف فأمطروه بالأسئلة ) ( 7 ) . نلاحظ أن النص يبدأ بقوة الحركة ويخلق حالة من التوتر النفسي لدى القارئ . هكذا تبدأ نصوص المجموعة باستهلالات قوية تتميز بحركية السرد من الجمل الأولى ، وهذه الميزة تتوفر في أغلب نصوص المجموعة .
من المعروف أن خاصية التزاوج بين المتعة الفنية التي هي من أهم أهداف الكتابة الإبداعية وبين الألم الناتج عن القراءة كرد فعل عن الشعور بالمرارة والإحباط لا تظهر لدى الكثير من النصوص الإبداعية بخلاف نصوص هذه المجموعة التي نجحت إلى حد كبير في توليد هذه الخاصية التي تدل على المستوى الرفيع لفنية هذه المجموعة لأن الكاتب يجعل من المرارة موقفاً لذيذاً يحقق به في الكتابية الغاية القصوى . منها كونه يملك أدوات الفن القصصي خاصة به ويستثمرها بمهارة عالية وتتجلى سمة المتعة الفنية في أغلب نصوصه لحظة الانتهاء منها ، كما في قصة ( نظرية جدي ، في المرايا ، امرأة منسية ، مدينة مجنونة …) وتتعمق المأساة في قصة ( مسخ ، الغفاري يمثل دوره ) وإذا توقفنا عند فنية العنصر الزمني والمكان والشخصيات قد يتطلب الأمر دراسة أخرى معمقة ، والفن السردي لدى الكاتب يرتقي إلى مستويات عالية يدفعنا إلى أن نهمس في أذنه ( لا تهجر هذا النوع من الفن السردي ، فالمسرح لم يسرق العالم هكذا ، والمسرح لا يبني لك تمثالاً من خشب .
المجموعة اليتيمة هذه جديرة بالقراءة والاهتمام لأنها أغنت القصة السورية عامة وفي الجزيرة خاصة بنصوصٍ جميلة وأضافت إلى المكتبة القصصية ما يحتاج إليه القارئ .
جماليات العنوان عند أحمد إسماعيل :
لن أقف عند ما تناوله النقاد من أهمية العنوان ، الذي هو الدليل إلى النّص ، حيثُ يذهب نقاد الأدب إلى أنه يشكل رأس النص ، بتعبير الدكتور عادل الأسطة ، ولا عند وظائفه ، ونوعية تراكيبه ، وغير ذلك ما يُعرفُ الآن بمصطلح النقّاد بـ( النّص الموازي ). وسأقف عند بعض العناوين فقط ، ومنها عنوان المجموعة . فهو العنوان ( رقصة العاشق ) يتألف من كلمتين بالصيغة النحوية (مضاف ومضاف إليه ) ، إن المضاف ( رقصة ) اسم نكرة يستمد معرفته بإضافته إلى اسم معرَّف . جاءت الكلمة الأولى بصيغة المفرد لتطلق عقال الدلالة إلى أقصى المدى ، إلى فضاء غير مقيّد بحدود الدلالة وكأن هذه العبارة تفتح أفقاً كبيراً للحركة ، فلفظة ( رقصة ) وبكلّ ما لها دلالة حركية لفعل إنساني نابع من الفرح والانتشاء ، تكتسب معنىً خاصاً عند إضافته إلى لفظة ( العاشق ) ، فالعشق شعورٌ خاص بالإنسان ، يتملكه إذا استبدَّ الهوى بقلبه. فالرقص ذاك ، له لونٌ خاص بالعاشق ، يختلف عن حركية الإنسان غير العاشق . من جهة أخرى ، فكلمة رقصة – نحوياً – مبتدأ ، وخبره محذوف ، وبالتالي فالجملة الاسمية هنا ناقصة ، ولا يمكن معرفة حال الخبر إلا بقراءة النّص ، لأنّ النّص ذاته هو الخبر للمبتدأ ، وفي نهاية القصة يعثر القارئ على الخبر ، وهو اختلاف رقصة العاشق عن رقصة الناس ، فله رقصّة أخيرة ، بها تنتهي حياة العاشق ، فهذه النهاية هي إتمام الجملة الخبرية . هذا التركيب الإسنادي يمنح العنوان بعداً إيحائياً يعثر عليه القارئ من ثنايا النّص . فإذا لم يتمكن القارئ من تفكيك مرامي النّص بعد قراءته ،تبقى دلالة العنوان غائبة، مراوغة، عصية على القبض ، وفق تعبير أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش . فالعنوان والنص يشكلان معاً بنية معادلية كبرى. فالعنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية والأيدولوجية (8) .
أما في العنوانين ( امرأة منسية ، مدينة مجنونة ) جاءت العبارة بإسناد اسم نكرة ( امرأة ) بكلّ ما لها من معاني ” أنوثة ، إغراء ، نعومة ، جاذبية ، إلى اسم نكرة ( منسية ) وهي صفة لها ، فالنسيان لا يليق بالأنوثة والإغراء والجاذبية ، لكنها لازمتها بظرفٍ معين. وإسناد اسم نكرة ( مدينة ) وهي المكان الصاخب الذي يتميز بالحيوية و الحركية ، وفيه ضوابط تنظّم حياة البشر وتنقلاتهم ، إلى اسم نكرة ( مجنونة ) أكسبها صفة عدم الانتظام والفوضى ، لأنّ الجنون يدلّ على تصرفاتٍ غير متوازنة ، وصادرة بفعلٍ لاإرادي ؛ فالتركيب ، هنا ، يقوّي المجاز الدلالي ذات السلطة الواسعة لغوياً ، وكلمة (مدينة ) ذات الفضاء اللامتناهي من التنوع اللوني والجمالي والحركي، تتكثف فيها حياة البشر بكل تنوعها وحالاتها ومراحلها ؛ تقابلها حياة غير متوازنة وكثيرة الخيبات والآلام , وهذه الأفكار هي المعادل الموضوعي – فنياً – لرؤية إشكالية تشكل جزءاً أساسياً لحياة يعالجها الكاتب ، وكأنّ بالكاتب يجعل من العنوان كوة صغيرة يتنفسُّ منها النّص ، فالأمر كذلك ، لأن العنوان في الحقيقة ” مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي (9) .
بل يمكن القول أنّ العنوان هو المفتاح الذي يفكّ لنا حواجز النّص ، وهو البداية والمدخل إليه ، و(المنطقة الأولى بصرياً ودلالياً التي يقع فيها حدثُ التَّصادمِ بين القارئ والنَّصِّ، وبالتالي فإنَّ الكشف عن أسرار هذه المنطقة الخطابية يقودنا إلى إماطة اللثام عن منطق التشكيل النصي للنص ذاته بنيةً ودلالةً وتداولاً )(10) . و تركيب العناوين التي رأينها كان بمثابة المسافة التي تفصلنا عن النّص ، وعند وصولنا إليها ، لا يبقى أمامنا خيارات العودة . مدينة مجنونة ، تركيب مجازي يقود القارئ إلى البحث عن هذا الجنون ، كونه صفة خاصة بالإنسان ، عند فقدانه العقل .
==============
الهوامش :
( 1 ) رقصة العاشق ص 48 .
( 2 ) المصدر نفسه ص39
( 3 ) المصدر نفسه ص44
( 4 ) المصدر نفسه ص 19
( 5 ) المصدر نفسه ص5
( 6 ) المصدر نفسه ص71
( 7 ) المصدر نفسه ص87
(8 ) انظر، حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، ص 106.
(9 ) د. شعيب حليفي: ( النص الموازي للرواية:إستراتيجية العنوان)، مجلة الكرمل، العدد 46، السنة،1992،ص:84-85؛
(10) خالد حسين ،جريدة الاسبوع الادبي العدد 1070 تاريخ 1/9/2007
================
( * ) ملاحظة : قُدِّمت هذه المجموعة إلى وزارة الثقافة في سوريا للحصول على موافقة نشرها ، فجاءت النتيجة بالرفض ، وقُدِّمت إلى مسابقة الشارقة للإبداع العربي ففازت بالجائزة الثالثة .