شيار…. أقصوصة

أحمد إسماعيل إسماعيل

بعد نهار ضاج، أشبه باحتراق حطب جاف في أتون نار، هبط الليل على جسد المدينة كعُقاب، وساد في سمائها صمت من رصاص. لم يستطع جناحا الظلمة إخفاء الحطام المتناثر في الشوارع كأشلاء، وافتراس النشيج المكتوم خلف الأبواب الموصدة بإحكام .
ففي شارع ضيق ومعتم تلاصقت بيوته الطينية والإسمنتية الواطئة، واستحالت الأبواب فيه إلى أفواه بكماء، كان ثمة باب حديدي صغير تآكلت حوافه، ونخر الصدأ إطاره، ينفرج بين الحين والآخر عن وجه امرأة لم تتجاوز العقد الرابع من العمر، تلقي نظرات سريعة ووجلة على جانبي الشارع الغارق في صمته وعتمته، خلا إضاءة شحيحة تسقط من مصباح عمود كهربائي وحيد ،تغمغم بكلمات قليلة، تكمٌّ فمها بيد مرتجفة، وما إن يتناهى إليها صوت سيارة، أو وقع أقدام، حتى تنكفئ إلى الداخل كفأر، تسند ظهرها إلى الباب المغلق وترفع إلى السماء وجهاً ضارعاً كساه الخوف بلون كامد، وقبل أن تعيد الكَرّة وتطل على الشارع بوجهها الذي راح يذوب كشمعة، تندفع نحو ابنتيها اللتين لم تكفا عن البكاء منذ غروب الشمس طلباً للطعام، تنهرهما، تصفعهما كما لم تفعل من قبل، آمرة إياهما بالسكوت، ثم تنطلق بعدها نحو باب الدار، علَّها تحظى برؤية ابنها الذي لما يعد إلى البيت منذ خروجه إلى عمله فجر هذا اليوم .
لم يكن شيار؛ ابنها ذو الأربعة عشر عاماً، يتأخر كثيراً في عمله عتالاً في سوق الخضار، فمنذ أن ترك المدرسة بعد موت والده، كان يتجه إلى محل عمله فجر كل يوم، ليعود قبل منتصف النهار، ينقد أمه ثمرة عمله، يتناول طعامه، ثم يخرج إلى اللعب مع رفاقه في الشارع، أو في ملعب الحي الترابي،وحين يتأخر في عمله قليلاً، كانت الأم تدرك أن ولدها أصاب عملاً إضافياً،فترفع كفيها نحو السماء شاكرة مسرورة، وتفرك أختاه أكفهما بانتظار القطعتين النقديتين اللتين ستحظيان بهما، لتنطلقا بعدها، بأقدام تسابق الريح، نحو دكان العم صالح .
القلق الذي كان يفترس روحها جعلها تعيد بمزيد من الرهبة تذكر وقائع ما حدث هذا الصباح في السوق، وقرب شارع العشاق، وأمام مركز الجمارك الكائن شرقي المدينة، وفي أماكن أخرى من المدينة، هومت بيدها أمام عينيها كمن يطرد ذبابة، وهي تتخيل صور فتية يتخبطون في الشارع بدمائهم كطيور ذبيحة، أغلقت عينيها بضيق، فشاهدت تحت جفنيها صورة ابنها وهو ملقى في زنزانة معتمة، وشرطي مفتول العضلات، كث الشاربين، يسوطه بعصاً غليظة.
وكغريق لا يجيد السباحة، أطلقت صرخة انتشلتها من أعماقها، وقذفت بها وبنفسها خارج الدار، وفي الشارع

 أطلقت نداءً أشبه بالصراخ، انفرجت أبواب ونوافذ، وأطلت من خلالها وجوه مختلفة الأشكال والأحجام كساها     الخوف وعتمة الشارع الطويل بلون باهت، سألت بصوت مشروخ:
     –  شيارو..لم يعد ولدي شيار ؟!
     –       سيعود، اطمئني يا جارتنا، سيعود بإذن الله.
أجابتها أصوات حذرة وهامسة، ثم انقطعت بعد أن انكفأت وجوه إلى الداخل، وتقدمت نحوها وجوه  وهي تلتفت حولها بخوف، اقتربت منها وأحاطت بها وراحت تغمغم بكلمات المواساة والاطمئنان، سرعان ما أشاحت عنها وهي تستذكر بمزيد من الدهشة، والخوف، والانتشاء ملخص ما حدث في المدينة نهار هذا اليوم .
لم تنبس بكلمة واحدة، كانت أذناها تلتقط كل ما كانت تتحدث به تلك الوجوه، فتجسدت أحاديثها صوراً حية أمام ناظريها، وتحول وجهها إلى مرتع لقطعان الغيوم المختلفة الألوان والأشكال، وهي تنظر بذهول إلى الأمواج البشرية المتدافعة في شوارع المدينة، حاملة جثامين فتية صغار :تطلق الصيحات الغاضبة، وتلوح بالأعلام، واللافتات، وبعض الصور، غير آبهة بالرصاص الهاطل عليها بغزارة، ولا بالخوذ الحديدية التي ملأت الفضاء وحجبت أشعة الشمس.
 اختفت الوجوه التي كانت تحيط بها، وهمَّ حوذي عربة الليل بالانطلاق بعيداً، فلم تفق من ذهولها الذي طال، إلا حين قفزت أمامها صورة ابنتيها اللتين بكتا طوال الليل من شدة الجوع، فنهضت من مكانها كالملسوع، ودخلت الدار وهي تنادي ابنتيها، ودون أن تسمع إجابة منهما دخلت من فورها إلى المطبخ، صنعت لكل واحدة منهما شطيرة عصير بندورة وانطلقت بلهفة إلى الغرفة، وهناك، وفي العتبة، تحولت إلى تمثال من شمع وهي تنظر بحرقة إلى ابنتيها اللتين افترشتا أرض الغرفة ونامتا، طفرت من عينيها دمعتان ساخنتان وهي تقاوم بكاءً حارقاً، استلقت بينهما، واستسلمت لنوم عميق، علا صفير حوذي عربة الليل وصليل عجلات العربة يهرس مسحوق ما خلفته الظلمة من صمت ثقيل.
بزغ فجر وليد حاملاً أنسامه ولونه الوردي الذي راح يصبغ به أسطح المنازل، والنوافذ الموصدة، والشوارع الملأى بالحطام، ولم يستطع أن يلون وجهها الذي كان يكفهر تارة، ويشرق تارة أخرى وهي تتأمل صورة ابنها التي أطبقت عليها أجفانها ونامت.
وبين الغفلة واليقظة، انتفضت من نومها على صوت قرع الباب، وبقدمين حافيتين، انطلقت نحو باب الدار، ودون أن تسأل عن هوية الطارق، أو عن اسمه، كعادتها منذ أن مات زوجها، وبكامل لهفتها، وهلعها، وبيدين مرتعشتين فتحت الباب.
وكأنها طفلة أمام عدسة مصور نزق، أو في حضرة ساحر ألقى بتمائمه في وجهها فأحالها إلى جماد، انحبست أنفاسها ووقفت كتمثال تتأمل بدهشة ممزوجة بسرور راح يتعاظم، قسمات ونظرات هذا القادم الذي أذاب غيابه ليلة أمس روحها، وقد أحال هذا الصباح كل شيء فيه إلى ما كانت ترجو أن تراه يوماً قبل أن يوافيها الأجل.

قامشلي    832007

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…