الوليمة


نسيم الكورد 

تعرفت عليه أيام الجامعة منذ سنتين و لم أراه منذ وقتها ,كان شابا مرحا مقبلا على الحياة و الابتسامة لا تفارق وجهه و لكننا افترقنا لأنه سافر إلى وطنه العراق ..و في إحدى الليالي و أنا جالس في المنزل أتصفح بعض الكتب اسمع صوت الهاتف يرن لأرفع السماعة و اسمع صوتا ليس غريبا عني و لكن من الصعب تمييزه  ليقول لي: أنا بسام, ألم تعرفني من العراق!! 
فقلت بكل ثقة : نعم عرفتك , فكيف أنسى أيام التسكع في الجامعة أيها المشاغب أهلا بك أين أنت الآن ؟ أنا في سورية و انتظرك في الحارة الفلانية لم أتردد و جهزت نفسي للقائه و لم أكن أحبذ أن احضره إلى بيتي الذي يعج بأفراد عائلتي .

انطلقت إلى لقاءه و أنا متلهف أن يكون لقاءنا كالتقاء نهري دجلة والفرات و وصلت إلى المكان المحدد و بدا ظله يتراءى لي و سلمنا على بعضنا و بعد العديد من عبارات المجاملة و مررنا بالقرب من مطعم الملوك الذي يحضره أصحاب الملايين و رأيت صديقي يحدق بالمطعم و يسألني بأنه فندق فخم و ما كان علي إلا إكرام الضيف ودخلنا بهو الفندق و تأملت أبوابه الزجاجية الأوتوماتكية و الطاولات الفخمة و المرايا الساحرة حتى بدأ الرعب يدب رويدا رويدا إلى قلبي و لكنه بعث الطمأنينة قائلا : أنا لا أتناول شيئا على العشاء فرددت عليه بابتسامة تخفي وراءها الخوف : أوه لا, لا يجوز ذلك أنت ضيفنا اليوم, و بعد لحظة صمت استطردت قائلا  :
لا استطيع إجبارك على العشاء فأنا أيضا لا أكل شيئا على العشاء و اعتقد أن الناس تأكل أكثر من حاجتها .
ثم جاء النادل ليرحب بنا و اعلم أن وراء ترحبيه غايات و أهداف فسألت ضيفي : ماذا تأكل
أجابني : بعض البيتزا و الكبب الشرقية في هذه اللحظة كنت ابحث عن قلبي بسبب هبوطه المفاجئ و تسارعت أنفاسي و اخترت لنفسي ارخص طبق على القائمة و بادرني ضيفي بالسؤال عن طبقي الذي اخترته فقلت له بكل صدق : إنني اتبع حمية غذائية وجاء النادل يحمل الأطباق و المقبلات التي هي بالنسبة لي غذاء يوم كامل و بدأنا بالأكل و تخيلت نفسي في حرب مع المطعم
فانا اعلم أن الفاتورة ستأتي كبيرة جدا لذا لن ادع صحنا من شري و التهمنا الأطباق حتى شعرنا بالتخمة.
و بعد تناولنا العشاء سالت ضيفي أتشرب شيئا بعد العشاء فقال: لا في هذه اللحظة أيدته و قلت بغبطة و لا أنا و لكني تابعت قائلا وليتني لم اقلها يبدو انك لا تشرب المشروبات الروحية فأجابني بلى اشرب و طلب من النادل كأسا من الفودكا و أنا اعلم السعر العالي لهذه الزجاجة بينما فضلت أن اشرب كأسا من الماء معللا بعدم شربي للكحول بان كبدي يوجعني .  
كنا نتكلم عن الفن والمسرح والأدب إلا أن عقلي كن مع الفاتورة و اعرف أن ساعة الدفع ستحين
و سمعت صوت خطوات النادل يقترب و يحضر لي مصيبة أخرى حيث جاء وقت الحلويات و تحدث صديقي بان سورية تشتهر بحلوياتها ولن أسافر للعراق قبل تذوقي طعمها و طلب من النادل أغلى نوع تلك التي كنت أراها من وراء زجاج المحلات ويسيل لعابي لمجرد رؤيتها و سألني ألا تأكل منها فقلت له: لا إنها دسمة جدا استغرب كيف تستطيع أكلها و بقيت أفكر بالفاتورة و كأنه يوم الحساب بالنسبة لي و أتساءل بيني وبين ربي ترى بما أذنبت يا ربي   
أرجوك أنقذني من هذا الموقف الحرج.
وحان وقت المشروبات الساخنة هنا جمعت قواي و أصبحت أدق على صدري فالحساب ارتفع و ما عاد باليد حيلة فسأله :ماذا تشرب أجابني قهوة فطلبت من النادل كوبي قهوة مع نارجيلتين
و ما أن انتهينا منها حتى جاءنا النادل بسلة من الفواكه و توسعت حدقتا عيني فانا اعرف أسعار الفواكه في هذه الأيام و ازداد خوفي و رعبي و ما في جيبي معاش شهر لم أكن أخاف على معاشي بل خفت ألا يكفي و بدا النادل مهتما بنا يرفع صحنا و يضع آخر و يضع المناديل أمامنا
و ما كان مني إلا أن و ضعت بعض الليرات  في جيبه لكي أرضيه و لكنه أعادها إلي بابتسامة ساخرة و بادرت ضيفي بابتسامة غبية كي لا يقول عني بخيلا .. و جاء وقت الدفع فالنادل قادم و بيده الفاتورة بدا لي كجلاد و بيده حبل المشنقة , و عندما نظرت إلى الفاتورة تغيرت ألوان وجهي كألوان قوس قزح ودفعت الفاتورة التي كانت عبارة عن معاش شهر كامل و لم يبقى معي سوى أجرة طريق الرجوع  وودعت صديقي قائلا : آه كم اتخمت و أنني اشعر بعسر هضم و لن أتعشى مرة أخرى  في المطاعم فأكل البيت صحي أكثر و بعدها استغربت من جوابه : واحد بواحدة ,فقلت له ماذا تعني ؟ ألا تذكر عندما كنا في الجامعة عزمتني إلى مطعم جيد ثم قلت انك ذاهب إلى الحمام إلا انك هربت وقتها تاركا الحساب علي و ما كان مني إلا أن ارهن هويتي ثم أعود لأدفع لصاحب المطعم هل تذكر ؟ كان يسألني و هو غارق في الضحك فالعين بالعين والعزيمة بالعزيمة و البادي أظلم …

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…