كاميران حرسان يفخخ لغته بالأسرار

  محمد بيجو
madobijo@hotmail.com

أصدر الشاعر السوري كاميران حرسان ثلاث مجموعات شعرية إلى الآن, الأولى بعنوان

(رشيقاً أعمى كالدمى) عام 2000 , والثانية بعنوان (؟ بين !!!) عام 2006 , أمّا مجموعته الشعرية الثالثة والتي صدرت مؤخراً موسومة بـ (نجوم من أعماقها) وتشمل (34) قصيدة امتدت على مساحة (56) صفحة , كتبت في الفترة ما بين نهايات عام 2005 إلى بدايات 2007 بغلاف من تصميم كاوا شهاب ولوحة محمد مدني الحسيني, كما حملت الصفحة الأخيرة للغلاف صورة الشاعر.
بلغة مفخخة يدعو كاميران القارئ إلى التأمل في محاولة لإظهار المعنى المبهم من جهة, ومن أخرى لاستحضار اللاموجود من حيث الرؤية , لكنه موجود بالحس المفرط في عالمه الشعري المتكامل والمتيقظ لكل طارئ أو حدث جديد , يطلب الشاعر من القارئ تفجير النص كيفما يشاء والتحليق في فضاءاته واكتشاف الأمكنة والأزمنة فيه وعلاقاتها ببعضها, في قصائد شعرية متماسكة لا يمكنك الاستغناء عن مفردة واحدة , بل لا يمكن الاستغناء عن حرف أو تبديله بآخر في بعض القصائد القصيرة . 
كاميران في ديوانه هذا كاهن يحمل شموعاً ومفاتيح يفتح بها أبوابا جديدة لينقذ نصه من الصور المتراكمة والمألوفة والروتينية التي اعتدنا قراءتها في معظم النصوص الشعرية الحديثة, كما يمكن أن نصفه في هذه المجموعة بشاعر الأسئلة والتذكر , حيث يسألك أسئلة ويبعدك عن مكان الإجابات الجاهزة والعادية , يقرّبك بخياله من مكان إبداع الجواب , ويذكرك بما مضى في محاولة تكاد تكون أشبه بحلم ابدي, وكل ذلك لتحاول معه أن تفتح المغلق في وجه الخيال وكسر الأفق الضيق للتعبير بحرية أكثر عن الإحساس والشعور.   
يضع بين يدي القارئ حالات شعرية جديدة , تدفعه إلى الانفعال المباشر , وقد تصل به إلى حالة من الغيبوبة أو لقاء الإنسان مع ذاته والتجلي معها , تاركاً فراغات واضحة بين الكلمات وبين الجمل ومن ثم بين القصائد ليختار القارئ إمّا أن يملأ تلك الفراغات بما يشاء , أو ليكون مساهماً في تكبير الهوة والفراغ القائم
قصائد فيها أسرار الحياة والوجود والجمال يفك كاميران بعضا من شيفراتها عبر إحساسه الفظيع باللون والظلال والأصوات البعيدة والتي يحاول إعادة هيكلتها شعرياً بعد أن يقوم باستحضارها وقت يشاء, حيث يبني عالماً جديدا وعلاقات جديدة بين الأشياء , لم تكن تلك العلاقات مألوفة من قبل.
يتواصل مع ماضيه ويستجمع ذكرياته معانقا ما كان يحدث هناك لذلك فهو يبدأ أكثر من قصيدة ب ” كان , كانت ”  كأنه يخرج من الحاضر ويبقى في ماضيه , يختبئ في أكثر اللحظات حزناً وألماً لينقل لنا ألقها عبر تراجيديا شعرية مكثفة تحتاج أحياناً إلى ما يشبه (فك الضغط) 
كاميران في (نجوم من أعماقها) ينظر بعين العقل , لذلك فهو يقدم المعنى بطريقة حسية, المعنى الذي يترك أثره في المتلقي بعد متعة لا محدودة مع القراءة ولأكثر من مرة وفي كل واحدة شيء جديد ومختلف, ويراهن بقوة على تعدد الاحتمالات للمعنى الواحد لأنه يتجاوز الحدود الظاهرية للأشياء والعلاقات المعروفة بينها.
نجوم من أعماقها عبارة عن هموم كثيرة , استرجاع لذكريات وتدوين لحالات , مداعبة للألوان والظلال ومعرفة حجم حزنها , وتجسيم للأفكار .
فلنقرأ هذا الشاعر الذي يستحق أن يرى ولو لمرة واحدة , نبالاً تتعرى للقوس قبل أن تطلق الردى نحوه .

مختارات من ( نجوم من أعماقها )

أسرار الغابة
هل يستحق التألق المنكوب أن يرى نفسه ,
مطوّقاً بالظلام سيد الألوان ؟
أنا
أستحق أن أرى ولو لمرة واحدة , نبالاً تتعرى
للقوس قبل أن تطلق الرّدى نحوي.

أنا دمية في مسرح العرائس , تحركني الشهوة
والأرواح المعتمة كي أنير …
طيف لا أعرف لوناً
جرم
إليّ حجّت الأقمار
فحجبت الرؤية !
أنا من البكاء جئت ,
جئت بقوس قزح ,
بالريح , بتقاطيع فصولي .
عرفت من عينيك وجهي !

مبكى
ولجت إلى العتمة
لا أرى
سوى عيون
تكسوها الدموع
ترنو إليّ .

الناسك
رأته فراخ الإوز النازحة 
خلف العظام يصلّي
يدعو لها بالبقاء !!.

أنا من الوحدة أعوي
أنا في البيداء نارٌ
أضرمَتها
العزلة حول خبائي
ذئب بين الثلج يعوي
يناجي من وحشته القطيعَ .

مرثية
قدري: أن أكون حطباً في ذاكرة اللهب
رماداً في قبضة الريح
وهجعاً لامعاً
أُرى ولا أَرى
أُنير ولا أُنار
أن أحمل عيوناً أوسع من البحر
تتسع لسماء زرقاء
يطير منها الإوز صوب المخيلة .  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…