إبراهيم محمود باحث سوري، نشر العديد من المقالات والأبحاث الفكرية والأدبية في المجلات والدوريات العربية، وألّف ونشر زهاء ثلاثين كتاباً في مجالات الفكر والثقافة المختلفة، توالت منذ عام 1991 مع: مغامرة المنطق البنيوي، صورة الأكراد عربياً بعد حرب الخليج، الجنس في القرآن، الفتنة المقدّسة، عقلية التخاصم في الدولة العربية الإسلامية، المتعة المحظورة، فصول من سيرة مدينة القامشلي، صدع النصّ وارتحالات المعنى، عتبات المقدّس والمدنّس.. وغيرها.
وإلى ذلك يسعى المؤلّف إلى تبيان هذه الإشكالية من خلال سرد سيري لعلاقته الشخصية بالمكان واللغة التي نشأ عليها، فتأسس بها خياله وتصوّراته عن المحيط والثقافة والعالم، واضطراره إلى تعلّم لغة مغايرة فارضة تمنع التحاور مع الأخرى التي هي لغته الأصلية.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول بالإضافة إلى الاستهلال والفهارس، تناول في أوّلها ميثولوجيا النسب تأسيساً على كتاب المسعودي «مروج الذهب» الذي كان قدّم روايات مختلفة عن نسب الكرد يصنفها المؤلّف في أربعة أنساق: الكردي في نسبه العربي، الكردي في نسبه الشيطاني، الكردي في نشبه الميثولوجي المجهول، الكردي في نسبه الفارسي، وأخيراً الكردي في نسبه التوراتي.
بينما في الفصل الثاني، الأكراد في الأدبيات العربية – الإسلامية سوف يتناول أثر الجغرافيا في صناعة الأعراق، وفي رسم الحدود بين البشر المشتركين، وفق الرواية التوراتية، في أب واحد وأم واحدة، ثمّ تعرّضت لتغيرات لم تكن محسوبة، ولم تكن نهائية، تداخلت ولم تفقد ذاكرتها المكانية: السياسية والأمنية. وإذا كان الكردي، بتعبيره عانى من عقدة النسب، كونه تجلّى بين أنساب عدّة، فإن الكرد بتصنيف المسعودي أيضاً لا مكان لهم في جغرافيته، وإن كان ابن جبير سوف يذكرهم في رحلتهم بقوله: «ورحلنا في قافلة كبيرة، فتمادى سيرنا على أوّل الظهر، ونحن على أهبة وحذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل إلى نصيبين إلى مدينة دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب هذه البلاد المذكورة».
فإن المؤلّف يرى أن هذا القول وكلّ الأقوال الموازية له، وخصوصاً تلك الأقوال المرتبطة بالنسب الكردي، أنه يكتب عن مرجعية عربية تتداخل فيها الجغرافيا الغرائبية التي تنزع إلى شيطنة الكردي، وبالتالي فإن ابن جبير، بتعبيره، استمرار لسواه ممن كتبوا عن الكرد من الخارج.
وإلى ذلك فإنه سوف يواظب على تتبّع الروايات والكتابات التي ذكر فيها الكرد، محللا ومعللا ومفنداً لها من خلال وجهة نظره، فيعود إلى كتب التراث المكتوب تارة، وإلى التراث الحكائي الشفاهي المتمثّل في ألف وليلة وليلة، وخصوصاً في حكايتي: هارون الرشيد مع العجمي، وحكاية علي شار مع زمرد الجارية، وبعد ذلك في الشعر العربي، ليستنتج أن صورة الكردي كانت سلبية، وربّما استناداً إلى ما تركه كتاب المسعودي في الذاكرة الجمعية.
يعود الكاتب بعد ذلك إلى صلاح الدين الأيوبي الذي آثر المعتقد على الأصل الإثني، وبداية ظهور الكرد تحت الضوء، بينما في الفصل الثالث سوف يتطرق إلى الإسلام الكردي وانتمائه السنّي، ثمّ في عنوان مستقل عن الكرد الإيزيديين، بينما في الفصل الرابع يقترب من العصر الحديث متطرقاً إلى آلية وضع الكرد في استراتيجيات الدول الكبرى، ليتساءل: كيف تمّ تناول وضع الكرد و«كردستان» في استراتيجيات الدول الكبرى في العصر الحديث؟ ووفق أيّ معيار أخلاقي جرى تحديد علاقة الكرد بجيرانهم ومن حولهم، وفي حدودهم الجغرافية التي يعرفون بها، وإن بدت ممزقة الأوصال سياسياً من الجهات كافة.
وإلى ذلك فإنه سوف يتناول المكان كحالة سياسية وجغرافية وكيوتوبيا أيضاً، حيث يقول: «كردستان» اسم يثير سخرية البعض، أو يثير حفيظتهم، أو سخطهم أو يولّد العنف المتعدد الأشكال، بوصفها اليوتوبيا الخرافية، أيّ أنها اسم مبتدع لمكان مخترع في تصوّر الآخرين، بالرغم من أن الكرد كشعب موجودون ويتحددون كجماعة بشرية منذ غابر العصور، وليسوا طارئين على التاريخ الحديث أو المعاصر، مساحة جغرافية واسعة يتحرّك الكردي من خلالها رغم كلّ المعاناة التي كان يلقاها.
حيث كلّ اختراق أو توغّل داخلها، لا بدّ أن يتوقّف أو يزول أثره الفعلي. إلاّ أن معركة جالديران 1514 التي جرت بين الصفويين والعثمانيين كانت نتائجها وخيمة على الكرد بتعبيره، كانت بداية توّجت بإعلان كارثيّ تعمّق تأثيره تدريجياً واستفحل مع الزمن، من خلال تقسيم كردستان الذي استمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، لتأتي اتفاقيات سايكس وبيكو في إثرها مقسّمة المنطقة العربية وكردستان كذلك بين مجموعة دول في المنطقة: تركيا، إيران، العراق، سوريا، مما ضيّع الأمل بتحقيق حلمهم التاريخي في إقامة دولتهم.
أما الفصل الخامس فهو يحمل عنوان الكردي في الخطاب العربي القديم والمعاصر ـ الكردي بين الصورة والتصوّر عربياً، يتساءل: ترى أين يقع الكردي في الجغرافيا الذهنية للكاتب العربي المعني بما نتحدث عنه؟ ووفق أي عقلية تخومية يمكن تحديد إحداثية الكردي في خارطته التي تملأ عليه تفكيره؟ ومن ثمّ يجيب بأن الغالبية من المثقفين العرب ممن كتبوا في هذا المجال، لم يتناولوا الكردي كشخصية اعتبارية لها مقوّماتها الذاتية، فهو بأحسن الحالات قادم من الخارج ومقيم في الداخل، ثمّ تمّ تصنيفه في خانة الأقلية التي تتوثّب باستمرار للانتقام، علماً أنها ليست الأقلية الوحيدة، إذ ثمة أقليات أخرى تتعايش في المكان، وتعامل في الغالب كطرف بعيد غير معترف بكينونته وخصوصيته.
وفي الفصل السادس يتناول الصورة الأخيرة للكردي عربياً ناقداً الخطاب القومي، ومن يتحرّك في ظلّه، ليبيّن التراكم التاريخي من القهر والجفاء، فينقد آراء حليم بركات، وناصر الرباط، ويتوقّف مطوّلاً عند كتاب: دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية الاجتماعية السياسية لمؤلّفه محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية بمحافظة الحسكة قبل نحو أربعين عاماً.
وسيعتبره ممثلاً لوعي قومويّ تصفويّ، يسعى لإبعاد الكرد عن الجغرافيا الخاصة بهم، وليتساءل بعدها: ماذا يعني أن تكون كردياً في سوريا، فيكتب بغضب عن أحداث 12 مارس 2004 ، ويقول قٌد أكون متشدداً في ما ذهبت إليه، ولكن هل أكون متطرّفاً إذا تحدّثت عن الكثير من المغيّبات في الساحة السياسية العربية والسورية، وكيفية العمل بها؟
في الوقت الذي أحرص فيه كلّ الحرص على عمق الصلات المجتمعية في سوريا وغيرها، ولكن في الوقت نفسه لايمكن تجاهل الواقع الكردي فيها كإبقاء مئات الآلاف مجردين من الجنسية التي يستحقونها منذ نحو خمسين عاماً، حيث الخاسر هنا يكون الوطن. ويختتم الكتاب بقوله: ليس الكرد خارج المعمعان السياسي القيمي المجتمعي، وإن سعوا إلى التمايز رغبة مشروعة في التساوي حقوقاً مع الآخرين ممن يشاركهم الحياة اليومية في الحيّ والشارع والسوق والمؤسسة، وتبقى السلطة المعنية هي حالة التحدّي لذاتها أو لوجودها في تأكيد ما إذا كان بإمكانها التأسيس لعلاقات جديدة تبرز من خلالها صورة الكردي على نحو مغاير.
*الناشر:رياض نجيب الريس للكتب والنشر ـ بيروت 2007
*الصفحات:311 صفحة من القطع الكبير