ليلة في دمشق

مصطفى المفتي
دخل متكئاً على صوت قرقرةِ معدتهِ، يحمل بيده أثر غبارٍ خلّفهُ اكتظاظ النوائب، وعلى رقبتهِ المتدلية قد طبع الزمان صفعتهُ.
نظر في عيون أطفاله الجوعى، يقلبون أبصارهم عن يمينهِ وشماله، لا يجدون ما كانوا لهُ يأملون.
لم تكتفِ السنوات من لطمِ مشاعره بعد، لتُعيده من جديد حائراً بلقمةِ أطفاله الذين شُرِّدوا بسجنهِ خمس سنين في غياهب السجن حين اتهم ظلماً بسرقة مستودعاً كان يحرسه. 
في منزلهِ، وبعد أن غَربت آخر شمسٍ لأيلول، وقف يمزق أمام نظرات زوجتهِ ما تبقى من كرامته المندثرة تحت أقدام الطوابير.
تسألهُ بابتسامةِ مهزوم: ألم تحصل على الخبز اليوم؟
فجيب بحروفٍ عقيمة؛ ولم أجد عملاً أيضاً.
تبتسم الزوجة في وجهه وتشكر الله على سلامته؛ وتحمدهُ بأن أعادهُ إليهم ولم يغب كغيبتهِ السابقة، وتعاود تهيئته من جديد بلباس الصبر الذي اعتاد أن يتكلل به معها.
يدخل على ابنه الأكبر الذي قد بلغَ العاشرة من عمره، وما زال رقيد الفراش دون حراك، يمسح على رأسه ويحدثه، ويرفع يديهِ للسماء داعياً وراضياً.
طُرق الباب، تلك الضربات الخفيفة المتتالية قد اعتاد عليها وما زالت تربكهُ كلما سمعها.
صاحب المنزل خلف الباب يسأله أجرة الشهر فقد حان وقتها، ذلك المنزل القديم الذي لا يصلح لسكن البشر، لكنه كان راضياً به لرخص أجره، يكمل صاحب المنزل حديثه عن غلاء المعيشة، وبأنه بأمسّ الحاجة للمال.
ينظر إلى بطنهِ التي تتراقص مع أنغام كلامه ويبتسم في وجههِ، يطلب اعطائه مهلةً قليلة لتدبير المال، وكعادته يكمل صاحب المنزل محاضرته الدورية عن التزاماته ومصاريفه ويفتح باب سيارته الفارهة وهو يدمدم بكلماتٍ تزلزل بقايا الصبر عنده.
فيصمت ويحتسب ويغلق بابهِ ويلتفت لزوجته مبتسماً، فتربتُ على كتفهِ وتدعو الله رزقاً حلالاً وفيراً وفرجاً قريب، وتطيل ابتسامتها في وجه زوجها لعلها تخفف عنه عبء الحياة. 
يعود لركنهِ يضم أطفاله ويخبرهم أنهُ بخير وبأن هذه الغمامةُ سترحل قريباً وما علينا سوى القليل من الصبر لتجاوزها.
يقاطعهُ ابنه الأوسط يريدُ منه مبلغاً قد طلبته المدرسة لتجديد جريدة الحائط وصور الرئيس القائد.
وتطأطئ رأسها خجلاً ابنته وهي تطلب منهُ دفتراً للموسيقى تدونَ عليه دندنات الأناشيد الوطنية كما أخبرتهم معلمتها.
يبتسم في وجههم ويخرج من جيبهِ بقايا قوته وعرقه ويرفع رأسه طالباً من الله الستر والعافية. 
صرخت ابنته مستنجدةً به حين رأت أمها تفترش أرض المطبخ، حمل زوجته وركض للشارع، أوقف سيارة أجرة تقلّهُ للمستشفى.
يحدثه السائق في الطريق عن أسعار البنزين والطوابير المنتظرة لدورها في شوارع دمشق، محاولاً استجرار عاطفته ليدفع له زيادةً عن أجرته المعتادة، وهو يحدث نفسه عن المبلغ الذي سيدفعه لسائق التكسي وهل سيبقى له ثمن الخبز الذي أضاع يومه في طوابيره.
يدخل المستشفى، يخاطب موظفة الاستقبال التي انشغلت تحدث صديقتها عن هاتفها الجديد، يُعيد مخاطبتها ثانيةً فتصرخ في وجههِ (لقلةِ ذوقه)؛ وتقول: ماذا تريد؟
يتشكرها لحسن سماعها ويشرح لها حال زوجتهِ، فتدفع به لغرفةِ أخرى.
يدخل إلى الطبيب، وبعد معاينتها تخرج الممرضة تمد يدها تجاهه وتقول: ( البشارة)، زوجتك حامل.!!
يُخرج ما تبقى من جيبه ويضعُهُ في يدها، فترمقه بنظرة ازدراء لقلة ما أعطاها، هي لا تعلم أنهُ ثمن خبز أطفاله وأنهُ كل ما يملك.
تخرج زوجتهُ، تنظر له وتحاول التكلم بشيء لعلها تخفف عنه هذا الحِملُ الجديد، فيقبّل جبينها بابتسامة رضى ويطمئنُها بأن الله معهم وسيجازيهم صبرهم خيرًا وبأنه قد أرسل لهم رزقاً سيسوقهُ إليهم هذا المولود الجديد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

إلى أنيس حنا مديواية ذي المئة سنة صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة

 

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفاً، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلاً وجودياً، حاسماً، مزلزلاً. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته، ونتناقش فيه…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…