من ملفات جريدة القلم الجديد وبالتعاون مع موقع «ولاتي مه» عن الأدباء والكتاب والفنانين الكرد، ملف الدكتور نورالدين زازا – الحلقة (3/4)

الاعتقال السياسي.. سيرة مناضل.. نورالدين زازا
زهرة احمد
إنها الإرادة… إرادة الكوردايتي، تلك التي صقلها الإيمان الراسخ بمشروعية الحقوق القومية للشعب الكوردي.
نورالدين زازا، رئيس أول حزب سياسي كوردي في سوريا. المعتقل السياسي الذي تعرض للاعتقالات المتكررة، ولأبشع أنواع التعذيب، وبقيت إرادته شامخة.
ولد نورالدين زازا في شباط عام 1919 في مدينة “معدن” عند منابع نهر دجلة في شمالي كوردستان/تركيا من عائلة كردية عريقة. كانت حياته الكوردية متوجة بالنضال السياسي، الثقافي، وقد قضى معظمها في السجون والمعتقلات وتحت الإقامة الجبرية. تم نقله من سجن إلى آخر، وتلونت أدوات تعذيبهم له بدمائه، حضنت السجون آلامه وأحلامه، لقن الشوفينيبن دروساً في النضال، المبني على الإيمان بالقضية والشعب، فكان معلماً في الشموخ.
كما تم تسفيره من دولة إلى أخرى، وحتى عندما يكون حراً، خارج قضبان السجون، لم يكن حراً، بل كان تحت الإقامة الجبرية والمراقبة المستمرة.
إنها سيرة مناضل قضي حياته في السجون والمعتقلات، لكنه بقي الكوردي الشامخ كما الجبال، لم ينحن. قبل الخوض في سيرة الاعتقال للمناضل نورالدين زازا، لابد من تعريف المعتقل السياسي وحقوقه وفق المواثيق والاتفاقيات الدولية.
المعتقل السياسي: 
تعريف المعتقل السياسي: كل شخص يعتقل بسبب معارضته للنظام السياسي القائم في الرأي أو المعتقد أو الانتماء السياسي، أو تعاطفه مع معارضي النظام أو مساعدتهم.
معتقل الرأي: كل فرد يعتقل بسبب تعبيره عن رأيه في أي موضوع كان، سواء أكان الموضوع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو غيرها من مجالات الفكر الأخرى.
وعليه فكل معتقل سياسي جزء من معتقل الرأي لأنه يعتقل بسبب انتمائه أو آرائه السياسية التي يعبر عنها وبالتالي ليس ثمة فرق بين الاثنين. فالمعتقل السياسي هو في النهاية معتقل رأي.
يرتبط ملف الاعتقال ارتباطاً وثيقاً بحقوق الإنسان، فقد أكدت المواثيق والاتفاقيات الدولية على حق الانسان في الحياة والحرية والكرامة الانسانية. الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون حماية هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحدٍ من حياته تعسفاً، وهذا الحق لا يمكن تعطيله حتى في حالات الطوارئ. وهذا ما أكدته بعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966. إن الحقوق والحريات المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والانتماء السياسي وغيرها من الحقوق مؤكد عليها في بعض المواد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعديد من الصكوك الدولية الأخرى وتوصيات اللجان الأممية المختصة.
استناداً إلى ذلك، يكون الاعتقال انتهاكاً للحقوق والحريات ويندرج تحت مسمى الاعتقال التعسفي عندما يخل بالأحوال والشروط المنصوص عليها في المواثيق الدولية، وتكون المحاكمة غير عادلة إذا اختلت بالشروط التي ترتكز عليها الضمانات المنصوص عليها في العديد من المواد وخاصة المادة (9) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
– بعض المواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: 
المادة (3): “لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه”.
المادة (5): “لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة”.
المادة (9): “لا يجوز اعتقالُ أيِّ إنسان أو حجزُه أو نفيُه تعسُّفًا”.
المادة (19): “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
– بعض المواد من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966: 
المادة (4): 
“1. في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسمياً، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.
2. لا يجيز هذا النص أي مخالفة لأحكام المواد 6 و 7 و 8 (الفقرتين 1 و 2) و 11 و 15 و 16 و 18.
3. على أية دولة طرف في هذا العهد استخدمت حق عدم التقيد أن تعلم الدول الأطراف الأخرى فورا، عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، بالأحكام التي لم تتقيد بها وبالأسباب التي دفعتها إلى ذلك. وعليها، في التاريخ الذي تنهى فيه عدم التقيد، أن تعلمها بذلك مرة أخرى وبالطريق ذاته”.
المادة (9): 
“1. لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه.
2. يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه.
3. يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعاً، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانوناً مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أية مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية، ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء.
4. لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
5. لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض”.
المادة (19): 
“1. لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة.
2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3. تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
بالإضافة إلى مجموعة من المبادئ الواجب اتباعها أثناء الاعتقال والمتعلقة بالكرامة الإنسانية، والالتزام بتلك الحقوق التي أكدتها المواثيق الدولية، وهي مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرّضون لأيّ شكلٍ من أشكال الاحتجاز أو السجن، ومعاملتهم معاملةً إنسانية، والحفاظ على كرامتهم الإنسانية الأصيلة، والتمتع بالحقوق المتعارف عليها في المواثيق الدولية.
“مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن اعتمدت ونشرت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 43/173 المؤرخ في 9 كانون الأول/ديسمبر 1988” 
المناضل نورالدين زازا وسيرة الاعتقال: 
سجن الموصل والسجون العراقية الأخرى: كان ذلك في شهر تموز عام 1944 عندما دخل نورالدين زازا العراق سراً، على أمل اللقاء بالزعيم ملا مصطفى البارزاني والوصول إلى كوردستان العراق، لكن السلطات العراقية ألقت القبض عليه. ونقل مع صديقه أمادي المعتقل معه إلى سجن الموصل العسكري، وفي ظروف قاسية جداً، حيث القمل والغذاء الرديء والمكان السيء، وكافة أشكال التعذيب، حتى لم يسمح له بالاتصال مع أسرته. وفي اليوم الثاني عشر علم زازا أن محامين كورداً من الموصل مثلوا أمام السلطات المختصة للدفاع عنه وصديقه أمام المحاكم إلا أن هذه السلطات منعتهم من الاتصال بهم.
وفي اليوم الخامس عشر، طلب زازا من السلطات القضائية والإدارية في الموصل بوساطة مدير السجن المثول أمام المحاكم المختصة لتحاكمه وتحكم عليه إن كان مذنباً حسب القوانين، وإذا ثبت العكس سيطلب العودة الفورية إلى سوريا. وعند رفض طلبه، عزم على الإضراب عن الطعام خلال عشرة أيام. تم نقل زازا إلى سجن بغداد المركزي. بعد اثني عشر شهراً وتنقله من سجن إلى آخر في سجون العراق، حيث كل أنواع التعذيب، وجد نفسه حراً. لا تهمة موجهة له، سوى إنه عبر الحدود من دون جواز سفر وهذا لا يستوجب البقاء في السجن سنة كاملة حسب القوانين العراقية المتعلقة بالدخول اللاشرعي. تم تسليمه إلى القوات السورية في تل كوجر الحدودية.
– الاعتقال بعد تأسيس الحزب: 
بعد اثني عشر شهراً في السجون العراقية، سلم الأمن العراقي نورالدين إلى السلطات السورية في نقطة الحدود بتل كوجر. بعد فترة سجل نورالدين في معهد العلوم السياسية والاقتصادية في الجامعة الفرنسية ببيروت. 
سافر نورالدين إلى بيروت لدراسة العلوم السياسية. بقي فيها حتى أتمّ دراسته وحصل على الإجازة في العلوم السياسية ثم سافر إلى سويسرا لتحضير رسالة الدكتوراه. وفي عام 1956 م عاد الدكتور نور الدين زازا إلى سوريا بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في التربية. وفي نهاية عام 1957م ولد الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا وانتخب الدكتور زازا رئيساً له وانتخبت لجنة تنفيذية مؤقتة له تعمل من أجل عقد المؤتمر التأسيسي. 
كان الاعتقال أداة الحكومة الدكتاتورية لمواجهة النضال السياسي للحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا، ففي 5 آب عام 1960 تم اعتقال أعضاء اللجنة التنفيذية وعدد من المسؤولين واقتادوهم إلى قبو التعذيب في حي الجميلية في حلب حيث التعذيب الذي استمر لمدة ثلاثة أيام بلياليها.
بدأت الملاحقة من قبل المباحث وخلال بضعة أيام تم توقيف أكثر من 5000 شخص من بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 12- 15 عاماً من كل أنحاء سوريا. وفي 8 آب عام 1960 تم اعتقال الدكتور نورالدين زازا رئيس الحزب، ونقله مع عثمان صبري إلى حلب حيث قبو المباحث العميق كعمق البئر، هناك توجهت إليه تهمة بعيدة عن الواقع. قال له الملازم الأول: بينما كانت الأمة العربية تناضل من أجل وحدتها الشاملة وتحارب على جبهات عديدة، كنتم تقومون بلعبة الإمبريالية والصهيونية بإطلاق النار علينا من الخلف وتحاولون اقتطاع جزء من الجمهورية العربية المتحدة وضمه إلى دولة كوردية . ثم طلب منه كتابة تقرير عن الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا. فكتب نورالدين زازا التقرير التالي:
إذا كنا قد أسسنا الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا فهذا يعود إلى إنه منذ عام 1949 لم تفعل السلطات العسكرية المتعاقبة سوى إنها داست بقدمها على الديمقراطية في سوريا وألغت الحقوق التي كان يتمتع بها الكورد. تدريجياً ومنذ عام 1955 لجأت السلطات التي تسيطر عليها العقلية “البعثية” الشوفينية إلى تحطيم أشرطة الكاسيت ذات الموسيقى الكوردية في مقاهي ومطاعم المناطق للكوردية والحكم بالسجن على الكورد الذين عثر معهم على كتب باللغة الكوردية.
إن وحدة سوريا ومصر التي لم يتوقع منها أن تقيم العقبات في طريق هذه السياسة الرامية إلى التخلف الثقافي، جعلت هذه السياسة أكثر عنصرية وقاسية واستبداداً واليوم ليس هناك ضباط كورد في الجيش ولا موظفون ذوو مستوى عال في الإدارة ولا معلمون ولا شرطة كوردية في المناطق الكوردية. لا نتجرأ أبداً على التحدث بلغتنا بحرية. فالمستقبل يبدو مظلماً ويرغمنا على أن نتحد وهذا ما دفعنا إلى أن نؤسس الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا”.
بعد خمسة عشر يوماً تم نقلهم إلى سجن حلب العسكري الكبير، دام التحقيق ثلاثة أيام وبعدها وفي الثامن من أيلول تم نقلهم ثانية إلى دمشق إلى السجن العسكري في المزة لتبدأ المعاناة الكبيرة، حيث التعذيب المستمر الذي ينافي كل المواثيق الدولية الخاصة بالاعتقال وبحقوق المعتقلين.
كان السجن العسكري في المزة، يقع خارج المدينة على مرتفعات دمشق يديره نظام عسكري يخضع لأهواء الجلادين، التعذيب فيه مستمر وبكل أشكاله وبوحشية لا توصف، منعوه من ممارسة الرياضة أو الاتصال بالخارج بالإضافة إلى ظروف ومواصفات السجن الغير مناسبة. بعد عدة أسابيع طلب وكيل النيابة وعلى أساس بنود القانون الجزائي المدني والعسكري أيضاً وبتوجيه من السلطات السياسية في البلاد، إنزال عقوبة الإعدام بحق كل من نورالدين زازا وعثمان صبري ورشيد حمو، بالإضافة إلى عقوبات بالسجن لمدة تتراوح بين عامين وعشرة أعوام لرفاق الحزب، ومنح المحامون أسبوعين ليحضروا مرافعاتهم. أثناء المرافعات: قدم المحامون الكورد والعرب مرافعاتهم بشجاعة مدعمة بالأدلة.
وهذه مرافعة أحد المحامين الكورد من حلب: 
“منذ ثمانية قرون جاء الكورد إلى سوريا كمنقذين وكان الشرق الأدنى بما فيه مصر يشمل فلسطين ولبنان، يقع ثلاثة أرباع منه تحت الاحتلال الفرنسي- الانكلوسكسوني. فكيف تسمح اليوم دولة تجمع مصر وسورية لنفسها باضطهاد أحفاد شعب ضحى بدمه لتحرير وحماية سوريا في أحلك الساعات المأساوية التاريخية؟
إن إخضاع الكورد لسياسة التعريب القسري هو احتقار للتاريخ والعدالة والأخلاق وأيضاً للتقاليد الديمقراطية القديمة للشعب العربي وهذا ما يمهد الطريق للعنصرية إلى التمييز التعسفي والمخاطرات الفاشية. فكروا ملياً بكل ذلك أيها السادة الأعضاء قبل أن تصدروا أحكامكم!!! 
بعد أسبوع من تقديم المحامين مرافعاتهم، منحت المحكمة الدكتور نورالدين زازا التعبير عما يجول في باله والدفاع عن نفسه.
من جهة أخرى استطاع أصدقاء الحزب في الخارج أن ينظموا حملة احتجاجات واسعة، كما أن كورد العراق نظموا احتجاح أمام سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد وطالبوا بإطلاق سراحهم. كذلك كورد لبنان عملوا بقوة من خلال الصحافة اللبنانية ولدى سفارة الجمهورية المتحدة في بيروت وأصدقائه السويسريين إذ نشروا الكثير من الأخبار عن حالته و أوصلوا عرائض موقعة من قبل مئات المثقفين والأدباء والفنانين والعلماء المشهورين إلى السلطات المصرية – السورية، وأحد أصدقاء الدكتور، المحامي والمستشار القومي السويسري “كيلبرت بايشتولد” الذي أبدى عزمه للمجيء والدفاع عن الدكتور أمام المحكمة العسكرية في دمشق وذلك مع أصدقاء سويسريين آخرين، وطالب كورد فرنسا وألمانيا والسويد وبلجيكا وانكلترا وايطاليا ممثلي الجمهورية العربية المتحدة في بلادهم باطلاق سراح نورالدين زازا وأصدقائه.
كل هذه التدخلات والعرائض حققت نتائجها، فأحكام الإعدام والسجن مدى الحياة والسجن من 7- 15 عاماً خففت إلى عام ونصف عام وإلى سبعة أشهر من السجن، وبذلك نجا الدكتور نورالدين زازا ومن معه من رفاقه من حبل المشنقة. حيث أصدرت المحكمة في 5 آذار عام 1961 حكماً مخففاً.
انتقل زازا من سجن مزة العسكري إلى سجن دمشق المركزي، الذي كان عبارة عن قلعة قديمة بناها صلاح الدين الايوبي، بقي فيه حتى أطلق سراحه في 8 آب 1961.
–  في الجزيرة الكوردية: 
في 20 تشرين الثاني عام 1961 ترشح نورالدين زازا رسمياً للانتخابات. وتم تشكيل قائمة كردية، طلبت السلطات من الدكتور تغيير قائمته ولكنه رفض بشكل قاطع فقامت السلطة بتشكيل قائمة مضادة مدعمة من الجيش. كان الشعب الكردي في كل مناطق الجزيرة يعبر عن دعمه اللامحدود للدكتور نورالدين. وعقب ذهابه الى عامودا ودرباسية والاستقبال الحافل له تم استدعاءه مجدداً، وتمثيله أمام القاضي واستجوابه لعدة ساعات. كما ضربوا وطردوا ممثلي الدكتور على الصناديق واعتقلوا العديد من مؤيديه وزوروا الانتخابات. بالنتيجة أنجحوا قائمة السلطة علماً أن فرز الأصوات وحسب وصف شرطي للدكتور نورالدين لم تمر سوى قائمة زازا – في كل مكان زازا … زازا …. 
وفي 8 اّذار وقع انقلاب اّخر، استلم حزب البعث السلطة، تم تشكيل قوائم سوداء تضم أسماء الشخصيات المعروفة ومن ضمنهم اسم الدكتور نورالدين وكان يذاع هذه البيان بالراديو عدة مرات باليوم لإرهاب الناس.! وهكذا وجد الدكتور نورالدين نفسه ملاحقاً من جديد، كان يتم نقله من بيت إلى بيت من بيوت الكرد في حي الأكراد بدمشق حتى تمكن من السفر سراً بالصهريج إلى لبنان.
– الاعتقال في لبنان: 
كان ذلك في 15 شباط 1966 حيث تم اعتقاله من قبل عناصر الأمن اللبناني. أمضى فيها خمسة أيام ثم في اليوم السادس أفرج عنه. وفي مساء 21 نيسان تم أخذه إلى مطار بيروت وإرغامه على شراء تذكرة طائرة بيروت – عمان وتسفيره إلى الأردن.
– الاعتقال في الأردن: 
وفي مطار عمان تم توقيفه من قبل الأمن الأردني وسجنه في عمان. وفي اليوم التالي وبعد تحقيق مطول معه، تم إرجاعه إلى بيروت ثانية، وتم تسليمه من قبل السلطات اللبنانية إلى سوريا. في الثالث والعشرين من نيسان كان على طريق سوريا والقيود في يديه. 
– سبعة أشهر في زنزانة منفردة في سجن الشيخ حسن في دمشق: 
في دمشق تم نقل الدكتور زازا من مكتب إلى آخر، حتى وجد نفسه أمام مبنى ذي جدران سميكة وبوابة كتب عليها: مخفر شرطة شيخ حسن.
هل سأسجن فيه، في زنزانة منفردة كما اعتاد عليه مخفر الشيخ حسن ؟؟
هل سأتمكن من تحمل هذا الاعتقال؟؟
بهذه العبارات، واجه نورالدين زازا ظروف قاسية في السجن مع تعذيب مستمر وتهم غير واقعية. كان ارتفاع الزنزانة مترين و طولها متراً وثمانين سنتيمتراً وعرضها متراً ونصف المتر. وكان على طول الجدار من اليسار حافة أرضية مطروقة ومغطاة بالإسمنت تستعمل كسرير لتبدأ فصول التعذيب من جديد. كانت ظروف الاعتقال قاسية جداً في سجن الشيخ حسن لا زيارات ولا خروج إلى استراحات فقط تعذيب مستمر. بعد سبعة أشهر وفي منتصف شهر أيلول أطلق سراحه ونقل إلى السويداء في جبل الدروز ليعيش هناك تحت المراقبة والإقامة الجبرية. وفي نهاية نيسان عام 1967 تم نقله إلى دمشق تحت الإقامة الجبرية والمراقبة. استطاع بعد ذلك الذهاب إلى تركيا سيراً على الأقدام وعبر حقول الألغام.
وفي صيف 1970 كان في سويسرا بلد دراسته وأصدقائه، وبعد بضعة أشهر حصل على حق اللجوء السياسي وفي 1972 تزوج من فتاة سويسرية كانت تعرف الكثير عن القضية الكوردية، وفي عام 1978 أصبح مواطناً سويسرياً… إنه باختصار جزء من سيرة الاعتقال للمناضل نورالدين زازا.
لا تزال السجون السورية، تعج بآلاف المعتقلين السياسيين، كما لا تزال حقوقهم كمعتقلين غير مصانة، بالإضافة إلى تعرضهم لكافة أساليب التعذيب الممنهجة، ولا يزال مصيرهم مجهولاً. كما لا تزال السلطات السورية تتنكر للحقوق القومية للشعب الكوردي في سوريا. ومازال النضال مستمراً …
المصادر: 
– كتاب “حياتي الكوردية” للمؤلف: الدكتور نورالدين زازا. ترجمة: روني محمد دُملي، الطبعة العربية الأولى: أربيل 2001.
– الإعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948.
– العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
– مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن. 43/173 المؤرخ في 9 كانون الأول/ديسمبر 1988″. 
 
د. نور الدين ظاظا.. في ضرورة احترام الرموز الكردية 
حواس محمود
الحديث عن شخصيات سياسية وثقافية رحلت يأخذ طابعاً مختلفاً عن التي تعيش بين ظهرانينا، لسبب وحيد وهو أن من رحل قدم الذي عنده ومضى، وهو بالتأكيد قدم أشياء إيجابية لشعبه الكردي وأيضاً ربما كانت له هفواته وأخطاؤه، حديثنا الآن عن الشخصية الكردية المرموقة نورالدين زازا (15 فبراير 1919 – 7-10-1988) الذي قدم من تركيا الى سورية وتعرض للسجون والمعتقلات في سوريا والعراق، وكان ينتقل إلى لبنان وله عودة الى تركيا ومن ثم سويسرا والوفاة هناك.
هذه الرحلة العذابية في سبيل قضية الشعب الكردي تسجل له، مهما كانت مواقفه وأخطاءه، لن يكون حديثي هنا في هذا الملف طويلاً عنه إنما أود أن أشير إلى ضرورة احترام الرموز ومسيرتهم النضالية المحفوفة بالمخاطر والعذابات الكبيرة، نسمع أحياناً كلاماً هنا أو هناك بالغمز واللمز عن هذه الشخصية أو غيرها، أقول لهم هذا لا يفيد الكرد ولا يبني مقومات  بناء الذات القومية الكردية الموحدة والملتفة حول الرموز والمبادئ الأساسية، وما يزيد الطين بللة ان يكون الكلام عنهم من قبل البعض مجرد كلام أو إشاعة أو خبر غير موثق.
إذا كان لا بد من تناول مثل هذه الشخصيات فليكن بالنقد والتحليل الدقيق والموضوعي لا إطلاق الكلام في الهواء أو في وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من المنابر، نحن بحاجة لدراسات نقدية معمقة، لنستفيد من تجارب من سبقونا في النضال، وبحسب ما قرأت سيرته كان الرجل مغامراً قومياً ومناضلاً ومثقفاً كل همه شعبه وضرورة تحرره من الأنظمة الغاصبة لكردستان.
رحمه الله وأسكنه الجنة وحفظه في سجل الخالدين 
د. نور الدين زازا في سطور 
علي جعفر
وُلد نورالدين زازا في 15 شباط عام (1919) في مدينة مادن، قرب آمد في شمال كردستان. و هو سليل عائلة كردية معروفة بوطنيتها. بعد اخفاق انتفاضة الشيخ سعيد پيران عام (1925) و نتيجة مشاركتهم فيها، يُعتقل والده و أخاه الأكبر د.نافذ و عمّه. بعد الإفراج عن والده و أخيه، ينتقل مع أخيه الأكبر إلى سوريا عن عمرٍ لا يتجاوز إحدى عشرة سنة. درس في سوريا حتّى الثانوية، ثمّ أكمل دراسته الجامعية في بيروت، حاصلاً على شهادة العلوم السياسية. 
في تموز عام (1944) حاول الالتحاق بالبارزاني و حركة التّحرر الوطني الكردية في جنوب كردستان، فأُلقي القبض عليه في العراق و زُجّ به في السجن ( في الموصل و بغداد ) لمدّة عام. 
بعد الإفراج عنه يرجع إلى لبنان، ويفتح للكرد هناك مدارس ليلية لتعليم لغة الأم. أثناء انتداب فرنسا على كل من سوريا و لبنان، و افتتاح القسم الكردي في إذاعة الشرق في بيروت تحت إشراف د. كامران بدرخان عام ( 1946 ) عمل نورالدين زازا ل مُذيعاً فيها. و كان يبدأ كل مرة بالجملة الآتية:
 “Radiyo Rohilat bangî we dike  Guhdarên delal! ” (المستمعون الأعزّاء: راديو الشرق يناديكم) حسب ما قاله لي البروفيسور د. عزالدين مصطفى رسول.   
أوائل عام ( 1947 ) أسّس مع عبد الوهاب باباجان من كُرد السليمانية، و عصمت شريف وانلي و آخرين من الذين كانوا يدرسون في جامعة بيروت أول جمعية للكورد هناك باسم: ( جمعية الطلاب الكرد ) و ذلك بمساعدة و دعم الراحل كمال جنبلاط. 
في خريف عام (1947) سافر من بيروت إلى سويسرا لإتمام دراسته العليا. وصوله إلى هناك لمس بفترة لمس بأنّ الرأي العام الأوربي على وجه العموم و السويسري منه خاصة لا يعرف شيئاً عن الكرد و كردستان، لذلك أدرك و من خلال نظرته الثاقبة بأنّ عليه و على غيره من الكرد المتواجدين في دول أوروبا مهمات جمّة تنتظرهم. و لأنّه عرف منذ اليوم الأوّل كيف و أين يكمن مربط الفرس كما يُقال، فقد طرق أبواب الإعلام حيثما فتح له أبوابه، تلك الوسيلة الأكثر تأثيراً على مسامع و وجدان و ضمير البشر، سواءً من الصحافة أو الاذاعة المرئية منها و المسموعة، كما بعث مذكرات إلى بعض المؤتمرات و المحافل الرسمية منها و الشعبية. كان إحداها تقديم مذكرة للأمم المتحدة أثناء اجتماعها في باريس عام (1948)، و لقائه وزير خارجية سويسرا آنذاك، سعياً منه إيصال صوت شعبه المُعذّب الذي يئنُّ تحت نير الاضطهاد و الظلم و الجهل و التخلف إلى صناع القرار و القوى المحبة للديمقراطية و حقوق الإنسان و الشعوب. بعد سنتين من وجوده في سويسرا يؤسس مع خمسة من الطلاب الكرد المتواجدين في سويسرا و فرنسا رابطة الطلبة الكرد في أوروپا، و يصبح رئيساً لها، و يُحرر المقالات في صحيفة (Dengê Kurdistan) أي (صوت كردستان) لسان حال الجمعية. إلا أنّ ظروفه الشخصية من جهة و هجوم تودة الإيراني، من خلال عضويها في الجمعية (أحمد قاسملو و شقيقه عبد الرحمن قاسملو)، و إجبارهم على الانسحاب من الجمعية من جهة، أدّيا إلى تجميد نشاط الجمعية بعد عام. و لكن رغم ذلك كان يشارك في المهرجانات و الندوات – إن سنحت له الفرصة – و يبعث الرسائل إلى الجهات الدولية و هيئة الأمم المتحدة باسم الرابطة.
 في العام (1956) ينال نورالدين زازا شهادة الدكتوراة في العلوم التربوية، و قبل أن يرجع إلى سوريا و بالتعاون مع ستة عشر طالباً كردياً أحيا ثانية (جمعية الطلبة الكرد في أوروﭘا) صيف نفس العام (1956)، ثمّ غادر متوجّهاً عن طريق بيروت إلى سوريا. 
في غرب كردستان و سوريا يُشجع جهود عثمان صبري و رشيد حمو و محمد علي خوجه و عبد الحميد درويش و خليل محمد و حمزة نويران و شوكت حنان في تأسيسهم صيف عام (1957) (پارتي ديمقراطي كردستان – سوريا). وبعد حوالي العام ينضم هو أيضاً إلى (البارتي) و يصبح رئيساً له. تعرض للاعتقال في حملة اعتقالات (12 آب عام 1960) لقادة و مسؤولي (البارتي). بعد خروجه من السجن رُشح من قبل (الپارتي) للانتخابات البرلمانية عام (1961)، و نتيجة الإقبال الجماهيري الكبير على انتخابه و شعور السلطات بحتمية فوزه قامت بتزوير الانتخابات و تعرض زازا لحملة شرسة من الاستجوابات و الضغوطات و الاهانات أجبرته أن يتوجه ثانية إلى لبنان. نشط بين الكرد هناك، كما اتصل مع كبريات الصحف و المجلات العربية و الأجنبية و نشر مقالات عديدة حول وضع الكرد، و خاصة حول الوضع في العراق و جنوب كردستان، واعتُقل هناك بسبب تلك النشاطات، و أُجبر إلى السفر إلى الإردن التي اعتقلته في المطار(). و أرجعته ثانية إلى لبنان. 
وصل خبر اعتقال د. زازا لقائد الثورة الكردية في جنوب كردستان مصطفى البارزاني، فبعث برسالة إلى رئيس الوزراء الأردني سعيد جمعة الذي كان يعلن و يفتخر جهاراً بأصله الكردي، فما كان منه إلا أن ذهب شخصياً و أخرج د. زازا من السجن، فرجع ثانية إلى لبنان. 
بعد فترة قصيرة ألقت السلطات اللبنانية القبض عليه و سلمته إلى النظام السوري ليضعوه في السجن، و من ثم نفيه إلى السويداء مرّة و دير الزور مرة أخرى مع استمرار التعذيب و الاهانات لمدة أكثر من ثمانية أشهر. 
بعد تعرّضه لمختلف أنواع الاضطهاد؛ من سجن و تعذيب و تشريد و نفي، تضيق به الدنيا فيُقرّر العودة إلى تركيا عام (1967)، إلا أنّ السلطات التركية تطارده هي الأخرى، فيظل خافياً عن الأنظار حتى العام (1970)، و لا يرى مفراً من العودة إلى سويسرا و الاستقرار فيها، هارباً من مطاردة الأنظمة التركية و السورية و العراقية؛ حيث ذاق مرارة السجن و العذاب في كل من سوريا و العراق و الملاحقة البوليسية في تركيا، لا بل طاردته تلك الدول حتى خارج حدودها، في لبنان و الأردن و حتى سويسرا. 
في عام (1972) تعرف على صحفية سويسرية فتزوّجها، و في آذار (1973) رُزقا بطفل أسمياه (شنگو – Şengo) تيمناً باسم هوشنگ عثمان صبري (كان ينادي هوشنگ بـ: شنگو كما قال لي الأخ هوشنگ)، و بقي منفياً فيها حتى فارق الحياة بعد صراع مع مرض عضال في الرئة يوم (7 تشرين الأول عام 1988). حيث دفن في مقبرة لوزان الرئيسية، تلك المدينة التي كان في كل مرّة كان د. زازا يمرُّ من عند البناية التي أبرمت فيها اتفاقية (لوزان) كان يبصق عليها و يقول: “لعنة الله عليك”. 
أمضى د. زازا جُلّ حياته في سبيل نيل الشعب الكردي حقوقه القومية و الإنسانية. و أينما ذهب حاول تنظيم الكُرد و توحيد كلمتهم و تعليم لغتهم. هذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدل بالتأكيد على حسه القومي العالي و حلمه بأن تكون للكرد كبقية الشعوب دولة تجمعهم، و نرى هذا الإحساس جليّاً في إحدى قصائده:
على هذا الطريق الشاق 
صرختُ كثيراً
كي يأتي لكم يومٌ
تنعمون فيه كغيركم بالربيع 
Li ser vê rêya dijwar
Min jî kire pir hewar
Da ji bo we jî rojekê 
Dinya bibe gulbehar
علاوة على ثقافته الواسعة و ذكائه الخارق، كان د. زازا مناضلاً عنيداً ذا حنكة سياسية على الطريقة الأوروبية؛ عرف متى يكون حازماً في موقفه و مصراً على رأيه، ومتى يتطلب أن يكون المرء مرناً و دبلوماسياً من أجل الحفاظ على المصلحة العامة و القضايا الجوهرية، حتى عجز جلادو دمشق صارخين في وجهه، مُظهرين الحقد عليه فقط لأنه كردي: ” … ها ألم يحن الزمن يا كردي القذر لتصبح عربياً؟ ….”. ليس هذا فحسب، بل كان أيضاً مثقفاً و أديباً كردياً من الطراز الأول. كتب و نشر العشرات من المقالات و الدراسات تخصُّ مُجمل حياة الكرد باللغات الكردية و العربية و الفرنسية، و نخصّ بالذكر المقدمة الطويلة و القيمة للغاية التي كتبها للملحمة الفولكلورية الكردية “Memê Alan” باسم مستعار “اîroknivîs” و ذلك عام 1957، كما له مؤلفات عديدة، منها ما هي مطبوعة و منها ما زالت ليومنا هذا مخطوطات تحتفظ به زوجته على حد قولها لنا، إلى جانب مجموعة لا بأس بها من القصائد الشعرية باللغة الكردية، و كذلك باقة من القصص طبعت عام 1995 تحت عنوان ( Keskesor ) من قبل دار نشر (Nûdem) في السويد. كما له ترجمات: منها مثلاً: ترجمة رواية “Şivanê Kurd” أي “الراعي الكردي” لكاتبه الراحل عرب شمو و كتب أخرى. 
و قد حث الكرد على إعطاء اهتمام خاص بلغة الأم، و له قوله الشهير في ذلك:  
“أيها الشباب! أيها الأخوة! اقرأوا و اكتبوا بلغتكم، و علّموا غيركم قراءتها و كتابتها. يكفي أن تخصصوا لذلك نصف ساعة كل يوم. يعيش شعبنا في الظلمة و الفقر و طريق تحرره يمر عَبْر تعميم و إحياء هذه اللغة. ” (الترجمة عن الكردية).        
يُقال إنّه ذات مرة سافر رشيد ي كُرد إلى دمشق و حين عاد إلى القامشلي بعد بضعة أيام، و التقاه الشاعر المعروف جكرخوين، فسأله: – هل التقيت الدكتور نور الدين زازا؟  
فأجابه: نعم. فسأله جگرخوين ثانية: 
– و كيف رأيتَّه؟ قال: هو رجل مثقف و ذكي و نزيه للغاية لكنه لا ينفعنا. فسأله جگرخوين مستغرباً: 
و كيف ذلك؟ فقال رشيدي كُرد: لأنه مثقف كبير. و هو يشير بذلك إلى موقف مجتمعه من المثقف حينذاك. 
يجمع كل من عرف د. زازا عن قرب، أنه كان رجلاً طيباً و مخلصاً و صادقاً، رقيق القلب، رحيم الفؤاد، متقدماً على عصره، لا يعرف الحيل و الأكاذيب كأغلب السياسيين.
أثناء لقائي مع زوجة الراحل في منزل الصديق بهزاد دياب في إحدى ضواحي لوزان اشتكت كثيراً من التعامل غير اللائق و المُهين للكُرد مع زوجها. قُلت لها من باب تطييب خاطرها قليلاً: 
– من صفات الشعوب المتخلفة أنّها لا تُقدر عظماءها و أبطالها و مثقفيها عندما يكونون أحياء بينهم. و أنّ الكرد بعد رحيلهم يشعرون بوخذة الضمير، و هم يشعرون بالندم على التعامل غير الحضاري مع الراحل د. نور الدين. فردت عليّ بالألمانية و الحسرة تحرق قلبها: 
– ” Zu spنt “، أي: ( فات الأوان )(). فقلت لها ثانية، و بنبرة المُذنب الذي لا يستطيع الدفاع عن موقفه: 
– ” هذا صحيح جداً، لكن الاعتراف بالذنب – و لو جاء متأخراً جداً – أفضل من ألا يشعر الإنسان بها مدى الحياة. “. 
و هنا استذكرت قولاً مشهوراً للمناضل و الأديب الراحل آبو عثمان صبري: 
” إن الشعوب الحية تُحي أمواتها، أمّا الشعوب المتخلفة فتدفن أحياءها “. 
يُعتبر د. نور الدين زازا مؤسس جمعية الطلبة الكرد و صاحب الفكرة و محرّكها الأساسي، و هو تحمّل العبء الرئيس من نشاطاتها، ليس في المرحلة الأولى بين عاميّ (1949 – 1950) فحسب، بل حتّى عندما نشطت الجمعية في المرة الثانية عام (1956). مثلاً لولا تحمُّل د. زازا نفقات حضور الأكثرية لَما عُقد المؤتمر الأول، و لما رأت صحيفة (Dengê Kurdistan) النور، و لَما وقفت الجمعية على رجليها من جديد و باشرت نشاطاتها، و هذا باعتراف بعض المؤسسين، ومنهم د. الراحل أحمد زمچي. 
للأسف كل من تناول و تطرق لتاريخ تأسيس ” جمعية الطلبة الكرد في أوروبا – KSSE  “؛ هذه المؤسسة الكردستانية الأشمل و الأطول عمراً و الأغزر نشاطاً و نتاجاً، ذكر اسم د. زازا كباقي أسماء المؤسسين و الأعضاء الآخرين، مع تقديرنا و احترامنا البالغ لهم، دون الإشارة إلى دوره الرئيس، و هذا إجحاف كبير بحق مؤسس الجمعية، حيث قيمة دور أي شخص أو مؤسسة لا تُقاس بالمدّة، بل بالنتاج و النتيجة. 
و كما يرى زميلنا حيدر عمر أن اثنين من مثقفينا من الجيل الأول ما زالا لم يوفيا ما يستحقان من تقييم هما: الشاعر قدري جان ( 1911 – 1972)،  السياسي و الأكاديمي د . نور الدين زازا. 
إنني أرى هنا لزاماً عليّ أن أُذكر() أيضاً – بحسب ما قاله لي هوشنگ عثمان صبري: أن د. نور الدين زازا طلب منه قبل وفاته بأكثر من عام أن يمده بالمساعدة المادية شهرياً و ذلك جراء إصابته بمرض سرطان الرئة قبل سنتين، و بأنه لم يعد بإمكانه تسديد تكاليف العلاج و الأدوية. فقال لي هوشنگ: 
“… اعتبرت طلبه بمثابة أمر من والدي، فكيف لا ألبي طلبه… “. 
و هكذا اتصل مع بعض الوطنيين الكرد من أمثال د. مصطفى سيدو ميمه و آخر….؟. فكان الثلاثة يبعثون له مبلغاً شهرياً، إلى أن توفي. علماً بأنّ الكثير من قيادات الحركة الكردية و الكردستانية كانوا على علم و دراية بسوء صحته و شحة إمكانياته المادية، فلم يحرّكهم واعظ من ضمير، و لم يقدموا إليه يد المساعدة، و هو بأمس الحاجة إليه. 
و عندما توفي، فجأة حاول البعض من قيادات حركتنا الكردية استغلال اسمه و ميراثه النضالي خدمةً لمصالحهم الحزبية الضيقة.
و لمن يريد زيارة قبره فهذا هو العنوان و رقم قبره:
Cimtiere du bois de vaux    =           ( Navê guristanê )
Tombe   43                        =                    ( Beșê  43 )
Tombe  11004                    =      ( Nimra gorê  11004)
هوامش
1- لقد روى لي د. عز الدين مصطفى رسول الرواية التالية: منتصف عام (1966) نزلت ضيفاً على منزل مصطفى البارزاني في ديلمان، و بقيت هناك حوالي العام. في أحد الأيام طلب مني البارزاني بكتابة رسالة تهنئة باسمه كي يبعثها إلى رئيس وزراء الأردن الجديد سعيد جمعة الذي كان يفتخر بكرديته. فقلت للبارزاني: ما فائدة تلك الرسالة؟ فقال هناك فائدتان من وراء ذلك. الأولى: بالتأكيد سيرد عليّ برسالة جوابية، عندها لا يكتب من سعيد جمعة إلى البارزاني، بل سيكتب من رئيس وزراء الأردن إلى قائد الثورة الكردية، أو قائد الحركة الكردية. و بذلك سأنتزع منه صفة (قائد الثورة الكردية)، هذا أولاً. و في حالة أخرى قد نستفيد منه مستقبلاً في أمور صغيرة. و هذا ما حدث فعلاً. فقد تلقى البارزاني رسالة جوابية من سعيد جمعة بالصفة التي توقعها. (للعلم هناك جالية كردية تقدر بأكثر من (150) ألف كردي في الأردن تفتخر بكرديتها، و تقول بأننا من أحفاد صلاح الدين الأيوبي. و منهم عائلة علي سيدو الگوراني، و عائلة جمعة و غيرها. المؤلف). 
بعد فترة سمع البارزاني نبأ اعتقال د. نور الدين زازا في الأردن، فجاءني أحد الليالي، و طلب مني ثانية بكتابة رسالة أخرى إلى رئيس الوزراء الأردني يطلب منه المساعدة في الإفراج عن د. نور الدين زازا. و ما إن وقعت الرسالة بيده، حتى ذهب شخصياً إلى السجن، و أفرج عنه، قائلاً له: “لقد أمرني البارزاني أن أطلق سراحك”. نحن في الأردن لا نسمح بممارسة العمل السياسي الكردي. فاطلب إلى أين تريد الرحيل؟ فرد عليه د. زازا: لديّ الإقامة السويسرية، و قد حصلت على شهادة الدكتوراة من هناك، فالأفضل أن أذهب ثانية لهناك.
2- لقد ذكرتني هذه الجملة بالمحاكمات الغيابية في بلغاريا ما بعد سقوط الديكتاتورية الشيوعية أوائل تسعينيات القرن الماضي. و كان من بين الذين يقدمونهم إلى المحكمة غيابياً الزعيم الشيوعي ديمتروف. ففي هذا البلد تشكلت لجان الدفاع عن المتهمين و القضاة، و عقدت الجلسات، و صُرفتْ مئات الآلاف من الدولارات فقط من أجل إحقاق الحق و رَدّه إلى صاحبه. حتى إنّ بعض الصحف اتهمت المقيمين على المحاكم بالجنون، وكتبت قائلة: كيف يمكننا محاكمة أناس توفوا منذ عشرات السنين و عظامهم رميم!؟. ولما انتهت المحاكم عقدت اللجنة المشرفة مؤتمراً صحفياً، فسألها بعض الصحفيين بلهجة انتقادية حادّة: بأيّ وجه حق تصرفون من خزينة الدولة – و هي أموال تعود ملكيتها للشعب – مبالغ طائلة تقدر بمئات آلاف الدولارات على أناس توفوا منذ أكثر من (40 – 50) عاماً؟ فكان ردّ المحكمة كالآتي: إنّ في التاريخ البلغاري أناس ارتكبوا الجرائم العظمى بحق الشعب البلغاري و قد أُظهروا في زمنهم كأبطال و كعظماء هذه الأمة، و أحد هؤلاء هو ديمتروف. و في المقابل هناك الكثير ممن أفنوا حياتهم من أجل انتصار هذا الشعب و سعادته لكن التاريخ ظلمهم. أردنا من خلال إقامة هذه المحاكم إنصاف الفريقين معاً. سواء الذين ارتكبوا الجرائم و أُظهروا كأبطال و عظماء، أو الذين ظلموا و لم ينصفوا في حينها. 
فهل يستيقظ الضمير الكردي يوماً ما، و ينصف الذين ضحوا – و ما أكثرهم – بكل ما لديهم من أجل خلاص الكرد من الاضطهاد و الظلم و التخلف؟!  
69- رجاني الأخ الفاضل هوشنگ عثمان صبري أن أتغاضى عن هذه المعلومة، و لا أذكرها في الكتاب، إلا أنني و إحقاقاً للحق و لشهامته ارتأيت أن أذكرها.
 الدكتور نور الدين ظاظا والهجرة إلى الأزل
د. محمود عباس
تسليم الدكتور رئاسة أول حزب كوردي أو كوردستاني، تعتبر خطوة نوعية نادرة في تاريخ الحركة الحزبية الكوردية، والتي لم تتكرر. بها تمكن مؤسسو الحزب من خلق جدلية العلاقة بين المثقف أو لنقل الأكاديمي المثقف والسياسة، العملية تلك كانت بداية استباقية، وبالإمكان القول حضارية، لهدم الهوة بين المثقف والحزبي ومحاولة لخلق السياسي المثقف بين المجتمع الكوردي، وهو ما كان لها صداها في العمل الميداني، وعلى أثرها أخذت الرؤية السياسية الخارجية للقضية الكوردية في مراحلها الأولى؛ مجالات أوسع من مجرد الصراع السياسي مع السلطات الشمولية. وبغض النظر عن الخلاف والاختلافات الداخلية في وجهات النظر فيما بعد، وتبعاتها، إلا أن الخطوة وضعت بصماتها على تاريخ الحراك الكوردي، رغم ما عاناه المثقف السياسي من الصعاب بعدها في الصراعات الحزبية وعلى مدى قرن وأكثر من الزمن.
وقد نستطيع القول اليوم أن التجربة المريرة تلك، أصبحت في الماضي؛ ليست عن منهجية أو عن حنكة حزبية، بل على خلفية انتقال المجتمع الكوردي إلى العالم الخارجي الديمقراطي الحضاري، إلى جانب عالم تكنلوجيا الإنترنيت التي فتحت كل الأبواب للسياسي الكوردي أو الحزبي كغيره من الناس، لتجاوز معضلاتهم.
دفع الدكتور المرحوم نور الدين ظاظا ثمن المنصب، والعلاقة الحضارية بين المثقف والحزبي أكثر من جميع أصدقائه، وهنا لا نتحدث عن مسيرة النضال والتضحية من أجل الوطن، بل أبعد منها، كالعلاقة الحسية ما بين الروح والوطن، بين الإنسان ومجتمعه، وظل على تلك الحالة إلى أخر أيامه، وخاصة من البعد المعنوي، وهي كانت جزء من معاناة طويلة مستمرة، رافقته منذ طفولته ( أي مهجر أو مهاجر وعلى مسافات زمنية طويلة يشعر بما نقوله، ويستطيع أن يحكم) فهو الإنسان الذي ذاق مرارة الهجرة طفلا، ويافعا وشابا وكهلا، عاش آلامها، كمتلازمة لم تفارقه طوال حياته، هجرته عائلته من أحضانها ومن مجتمعه الطفولي، أدرجوه مرغمين ضمن الهجرة السياسية التي اجتاحت شمال كوردستان، وهو لا يزال في سنوات الطفولة عندما رافق أخوه الطبيب نافذ بك ظاظا والذي كان من بين عشرات الشخصيات الكوردية المطالبين من سلطة كمال أتاتورك، لحقتها تغيرات ثقافية وتنقلات سياسية وهجرات على أبعاد جغرافيات عدة، كوردستانية ودولية.
نقل نور الدين من مدينته معدني ومزرعة والده على أطرافها، إلى ديار بكر ومن ثم إلى دمشق وبعدها إلى قامشلو ومن ثم إلى حلب حيث المرحلة الدراسية الأولى، تلاحقت بعدها الأماكن، لتتخطى جغرافية كوردستان، ليس للزيارات السياحية أو الخاطفة بل لهدف العيش شهور أو لسنوات معروفة مسبقا، تكررت الأماكن ذاتها، دون أن يكون له فيهم استقرارا، ونحن هنا لا نتحدث عن المرات العديدة والأماكن المتعددة التي سجن فيها، ونتائجها، وعناده على المواجهة بعد كل مرة. 
تتبين من قدره وكأن المدن والأماكن الكوردستانية كانت تلفظه، والمجتمعات تبعده، وعلاقة جدلية كيميائية متضاربة كانت تنمو بينه وبين الجغرافيات والشرائح السياسية التي كان جل هدفه خدمتها، إلى أن بلغ مرحلة  تفضيل الهجرة والعيش في الغربة، رغم ما قدمت له العامة من الشعب الكوردي التقدير والحب، وبينتها يوم تم ترشيحه ممثلا عن الحزب مع الشيخ محمد عيسى، في عام 1961م لعضوية البرلمان السوري، ويقال أنه تم رفع سيارته من قبل الجماهير في مدينة عاموده تقديرا لممثلهم، قبل أن يتم إلغاء ترشيحه ومعه ممثلي الحزب من قبل السلطة العروبية في دمشق، وتنصيب شخصيات أخرى من الكورد كانوا أعضاء في حزب الكتلة الوطنية الذي كان يتراسه شكري القوتلي، ولربما تلك الخطوة تعتبر أحد أهم المنعطفات في صراع الحركة الكوردية، ويمكن القول أنها كانت بداية مرحلة المواجهة الحقيقية مع الأنظمة الشمولية المتتالية على سوريا، خاصة بعد سيطرة البعث على الحكم، ومسيرة أضعاف وإزلال الحزب، والانشقاقات الرئيسة، وغيرها من الإشكاليات التي لا تزال بعضها ترافق حراكنا الحزبي حتى اللحظة.
ورغم أهمية الحضور الثقافي السياسي في مسيرة النضال، وكان الدكتور يمثل طرفا مهما، لم يحصل رباط راسخ بين الراحل وشخصيات الحراك الكوردي، أي لم تنتج الخطوة النوعية تلك عن منهجية راسخة في مسيرة الحراك الحزبي، بل حصل شرخ وتوسع مع الأيام، رغم ما كانت عليه السوية الثقافية للدكتور، مقارنة بالأخرين في القيادة، وحاجة الحركة لأمثاله، ونحن هنا لا نتحدث عن العطاء القومي، ومع الأيام والسنوات وحيث صراعه كان على جهتين: معنويا وثقافيا مع الداخل الكوردي ضمن الحزب وشريحة من الأصدقاء الذين لم ينصفوه. وسياسيا مع النظام الذي كان على الأغلب ينظر إليه ببعد خاص حيث المكانة العلمية والخبرة المستقاة من الخارج الأوروبي، وهو ما أدى إلى النتيجة عندما أصبحت سويسرا الدولة الحاضنة، والمستقر الأخير، ليعيش الهجرة الدائمة، ويقاسي آلام الحنين إلى مدنه العديدة التي عاشها، وعائلته معدن ومرابع الطفولة الأولى، والتي زارها بعد هجرته الأخيرة من سوريا وكوردستان الجنوبية الغربية، وبالتالي ليصبح من الرعيل الكوردي الأول الذين، رغم رفاهية العيش، عاشوا آلام الحنين والمعاناة النفسية في المهجر وقضوا نحبهم فيها. 
هجرته الأولى، جرت ورائها الكثير إلى أن انتهت بهجرة عام 1967م إلى معدني-ديار بكر ثم إلى سويسرا، والتي أمثالها عادة تؤدي إلى التغيرات الثقافية والفكرية والسياسية في الإنسان، فكل مرحلة كانت لها تأثيراتها، لربما بقدر ما خلقت فيه الانتماء الكوردستاني، نمت لديه ذاتيه فكرية، ورؤية مختلفة في أساليب النضال، فهو الذي وجد نفسه وحيدا من اللحظة الأولى عندما أبتعد عنه الأخ الذي ناب عن والديه، مرغما، ليتلقى تعليمه في مدرسة داخلية خاصة في مدينة حلب على الطرف الأخر من مكان ولادته، وهو الذي كان قد أنتقل ما بين مدن عدة في السنوات الأولى من العمر، وقد يقال أن الإنسان بمثل هذه الحالات يتعود على آلام البعد عن الأهل وتغيير الأصدقاء، ومعرفة الوجوه الجديدة، لكن تأثيراتها تظل وتظهر أحيانا بشكل واضح، إن كانت سلبية أو إيجابية، ولربما جميعنا نعلم وقاسينا مرض البعد عن الأهل والوطن لأول مرة، وكيف يتعود الفرد عليها دون أن يتخلص منها. 
هجر نورالدين ظاظا الحزب الجديد ورئاسته بعد سنوات من النضال، لكنه لم يهجر السياسة. هجر سوريا وتركيا، وتخلص من سجونها وصراعه مع السلطات الدكتاتورية العنصرية، لكنه أحتفظ بالوطن في ذاته ولم يهجره. هجر المجتمع الكوردستاني، وخاصة الشريحة القيادية في الحزب، الذين خيب أمله فيهم، وبالمقابل خاب أملهم فيه، لكنه لم يهجر قوميته، فنشاطاته الثقافية الكوردية العديدة في المهجر تثبتها. هجرته القوى السياسية التي ناضل معهم سنوات، لكنه ظل يتذكرهم طوال حياته، إما كملام أو معاتب أو كمحاولة على توعيتهم أو تصحيح أخطائهم، ظل على وثاق روحي معهم، ومع كل الأماكن التي عاشها داخل الوطن، ولولا ذلك لما ذكرهم نقدا في مذكراته. حمل كوردستان بروحها وناسها في شعوره ولا شعوره إلى أن فارق الحياة، ولجرح لم يندمل طلب من عائلته أن تكون هجرته الأبدية مرافقة مع هجراته السابقة، ولتكن خاتمة لكل ما كان، طالبا منهم، كما يقال، أن لا يستقبل أحد على رفاته وألا يزار إلا من كان على صلة، وألا يكون بينه وبين علامات هجراته لقاء إلا ما تم، أحتفظ بحبه لقوميته ولأمته على طريقته؛ إلى أن فارق الحياة في مدينة لوزان عام 1988م. وجدلية الملامة من المقربين الذين حصل بينهم جفاء لسبب ما معروفة، فلولا القرب الكامن في اللا شعور لما كانوا حاضرين في ذهنه حتى ولو بالرفض، وهنا تكمن بؤرة الأسى والحزن، فهل ستعوض عنه أحياء الحركة الحزبية ذكراه بعد عقود طويلة من شبه نسيان؟ فكما نعلم الحركة الثقافية لم تنساه يوما. 
لقد عانى الدكتور نورالدين، كأي مهاجر كوردي، من أحضان أمة تعاني الاحتلال والجهل ومصاعب الحياة وانعدام الرفاهية وضحالة الثقافة، إلى الحضارة ورخاء العيش، من تضارب في الأحاسيس، ما بين العيش في رخاء سويسرا، والحنين إلى الوطن. فكثير ما تتردد بين المهجرين أو المهاجرين، مقولة: ليتنا عشنا العذاب مع بساطة الحياة وضنكها، ودون تأنيب الضمير، ولم نهجر إلى عالم الرفاهية حيث معاناة الحنين والشوق إلى الماضي. ولربما مواقفه السياسية وهو في المهجر من الحراك الحزبي الذي كان يوما أمينها العام، محاولة للتغطية على الصراع الداخلي، وكأنه كان يوجه من مهجره (سويسرا) كلمة تحمل الكثير من المعاني، على سوية مقولة الحلاج المشهورة ” أزهر من جديد، أثبت لهم أن الذبول خرافة” خاصة للذين عاشوا سنوات السجن وناضلوا معا، ولم يقدروه كما يجب.  
مرت السنوات على وفاته، وكأن يقظة من الخطأ نما، فبدأ تأنيب الضمير الكوردي؛ والإحساس بالذنب، والعمل على إعادة الاعتبار لشخص كان بالإمكان أن يرسخ منهجية السياسي المثقف أو بالأحرى القيادي الحزبي المثقف ينهض. فهل هذا الاهتمام صحوة، وخطوة نحو تخطي عتبة الجهل بما حدث في الماضي؟ وأن جيلنا الحالي يصحح الأخطاء الماضية، وإن كانت فما هي أخطاؤهم؟ وهل فعلا نحن لا نكرر نفس الأخطاء في مواقع أخرى؟ هل ستأتي الأجيال اللاحقة وبيدها أخطاؤنا محاولة تصحيح ما كنا فيه، وإن كانت فما هي أخطاؤنا الأن؟ هل هي ذاتها؛ بألبسة معاصرة؟ أليس التشتت والتخوين وخلق الحجج في توسيع شرخ الخلافات وتصعيد الصراع الداخلي هي نفسها ولكن بأسماء مغايرة؟ فكم من أمثال الدكتور نورالدين ظاظا تم عزلهم ونفيهم من الساحة السياسية؟ وكم من أمثاله يتم الأن التعتيم عليهم من قبل مجموعات من السذج أو أصحاب المصالح وبمساعدة قوى تستخدمهم لأجنداتها؟

نورالدين زازا الظاهرة السياسية التي جسدت الحالة الوطنية الكوردستانية
عبدالرحمن كلو
عند تناول أي حدث أو ظاهرة سياسية من المفيد أن تكون القراءة في إطارها الزماني والمكاني لما لهذين البعدين من أهمية للحالة الوظيفية للحدث أو الظاهرة، ولهذا السبب سوف أتجنب التوصيفات التقليدية المبسطة لظاهرة نورالدين زازا السياسية، وسأحاول إستخدام ما أمكن من الأدوات المعرفية للتحليل السياسي كي أتجنب الإبتذال و السقوط في التوصيفات الإرتجالية الساذجة، لذا يستوجب علينا أن نضع الفاعل السياسي وجهاً لوجه أمام كل تحديات القوانين الخاصة بالزمان والمكان للدائرة البحثية التي نتوخى العمل في إطارها مستعيناً بشيء من التاريخ حيناً وبراهنية الوضع السياسي في مرحلة ما بعد زازا أحياناً أخرى.
وعلينا التنويه أن نورالدين زازا كظاهرة سياسية يمتلك أكثر من دائرة بحثية، ولكل دائرة مركزها وعلاقاتها المحيطية المتداخلة المتواترة، وعليه فهذه الظاهرة تحتاج لجهد جماعي مؤٍسساتي متكامل تمكنه تغطية كل مساحات وجوانب هذه الشخصية التاريخية، ولهذا من المفيد أن نحدد وجهتنا البحثية أولاً ونسميها باسمها لكي نلزم أنفسنا بالمسار الإفتراضي المحدد والمعرف بمحيطها الزماني والمكاني، وآثرنا هنا على اختيار البيئة الجغرافية السياسية ل”زازا” وتوضيح شكل العلاقة بين “الوطني الكوردستاني التاريخي” وبين ما هو ينتمي إلى “الدولة المستحدثة” لنتجنب السقوط في شرك المفاهيم والمصطلحات السياسية لمرحلة ما بعد سايكس، التي فرضت قواعد سياسية مستجدة بما يتوافق مع نجاح مشروع الدولة الناشئة وديمومتها.
واختيارنا لهذا الجانب كان من قبيل وضع حدود واضحة المعالم بين مفاهيم طرفي نقيض، حيث يجهل البعض الخطوط الفاصلة بين الوطن والدولة وما يحملهما هذين المفهومين من مضامين سياسية وقانونية، أو ربما البعض يتجاهل هذه الفروقات ويتعمد الخلط لأهداف سياسية آنية؟  
نورالدين زازا من تركيا إلى سوريا، متى وكيف ولماذا؟ 
هذه التساؤلات التي تبدو للوهلة الأولى وكأننا نتحدث عن أحد أفراد عائلة أرستقراطية تعيش في مدينة النحاس وتمتلك ما لا يمتلكها كونتات البلاد الأوربية في العصر الوسيط، أو كأننا نتناول المسافات المترية عند الحديث عن الإنتفال وتخطي الأسلاك الشائكة ببن دولتين وفقط. الحقيقة السياسية ليست بتلك البساطة التوصيفية، لأن الظاهرة أكثر تعقيداً من ذلك، خاصة إذا ما أدركنا ظروف وحيثيات زمان ومكان نشأتها، لذلك علينا القبول بأن نوردالدين زازا الذي نشأ في معمعان دراما نتائج الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، يمتلك أكثر من بعد سياسي في الجانب الزماني الذي تقاطع مع مرحلة انهيار الإمبراطورية ونتائج هذه الحرب على الصعيد الدولي والعلاقات الدولية، كما وعلى صعيد الشرق الأوسط وفق خصوصية مكانية أقرب… 
وفي الجانب المكاني شغلت هذه الظاهرة كل مساحة كيانات الجغرافيا البشرية والسياسية للإمبراطورية العثمانية المتضعضعة، أو كما يقول زازا “امبراطورية مجزأة ومصير غامض لكوردستان” والمنظومة النمطية السياسية التي ابتكرتها تركيا الأتاتوتركية ساهمت إلى حد كبير في تكوين شخصيته الوطنية الكوردستانية، بكل الأحوال شكل “زازا” ظاهرة سياسية فريدة ومتميزة، واستطاع أن يحدد خطوطاً عريضة لمسار سياسي محدد ومعرف على الرغم من وجود خيارات كثيرة سانحة وسالكة على عكس الطريق الذي سلكه كخيار استراتيجي لوجهته الحياتية، وبانتقاله من تركيا الدولة إلى سوريا الدولة لم يكن يعني سوى أنه انتقل من ضفة إحدى أنهار الوطن إلى الضفة الضفة المقابلة، إذ أنه ورغم تجاوزه حدود الدولة لكنه بقي في الوطن، أو بتعبير آخر مستجدات الحالة التركية أرغمته على الإنتقال من “الرغبة” إلى “الممكن”، وهذا ما فرض علينا توضيح الإشكالية بين الدولة والوطن، لكن كيف ولماذا..؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه.
الاشكالية بين مفهومي الدولة والوطن
بداية – وقبل الخوض في توضيح هذه الإشكالية – نؤكد بأننا بقدر الحاجة لإستخدام المصطلحات والتعريف بها لما لها من أهمية في تناول المسائل السياسية والقانونية بنفس القدر علينا تجنب المألوف التقليدي لثقافة العهود الإستعمارية، لهذا السبب لسنا هنا بصدد إعادة إنتاج التعاريف والتوصيفات المدرسية بخصوص المفاهيم الخاصة بالدولة أوالوطن، بل ما نريد تناوله والتعريف به هي تلك الحالة الوطنية الكوردستانية التي بقيت عصية على التقسيم والتفتت رغم الحدود التي رسمتها الأسلاك الشائكة لدول سايكس بيكو، والفرق بينها كظاهرة تمتد بجذورها إلى عمق التاريخ وبين حالة الدولة القائمة بحدود سياسية مرسومة بالقلم والمسطرة. 
صحيح أن سايكس بيكو ونتائج الحرب الكونية الأولى استطاعت تغيير خارطة منطفة الشرق الأوسط وإنشاء دول بمواصفات استعمارية خاصة، لكنها مجتمعة لم تستطع اختزال الأوطان التي شكلت منها هذه الدول، والأوطان المنعزلة في تلك الدول، /الوطن ­patriotism/ أو الأوطان التاريخية للأمم هي الفضاءات والحاضنات الروحية والعقائدية والمادية والثقافية، وتمتد بعمرها إلى مئات بل آلاف السنين وهي الفضاءات المكانية لصيرورات الأمم بكل ما لدى الأمة كظاهرة تاريخية من ثقافات وفكر وقيم روحية أو طقوس أو لغات ولهجات أو تراث وتقاليد أو ولاءات وانتماءات عرقية، من الماضي السحيق إلى الحاضر ومن ثم إلى الأجيال التي لم تولد بعد… 
لذا ليس فقط من الصعوبة بمكان بل من الاستحالة أن يتم اختزال الأوطان من خلال دولة صنعية تفتقد إلى الشرعية ولادةً ونشأةً، هذا لأن حدود الأوطان مسيجة بتاريخ الأمم وحاضرها، ويمكن الاستشهاد بالتاريخ القريب للتجربة السوفييتية القريبة إذ تحطمت تلك الدولة بأبعادها الإمبراطورية وتفتت على صخرة الشرعية التاريخية للأوطان المنعزلة، بعد تجربة دامت أكثر من سبعين عاماً، رغم قوة كل الجبروت الذي امتلكته الآلة العسكرية والأمنية الشيوعية والتي روجت كثيراً على أنها وصلت إلى درجة تماهي الدولة مع الوطن، وأن الدولة باتت للشعب بأسره، والإدعاء بأن الحالات القومية والخصوصيات الوطنية التاريخية تماهت في الحالة  “الوطنية  الجديدة” المتمثلة بالدولة السوفييتية.  
وهنا وأمام المشهد السياسي لإمبراطورية مجزأة ومهزومة كان من الطبيعي أن يحضر التاريخ نفسه في كل عمل أو نشاط سياسي، لأن هشاشة الدولة بحدودها المتحركة في كل اتفاق ومعاهدة كان يعني العودة إلى أوطان الجغرافيات البشرية لمرحلة ما قبل الحقبة العثمانية و”مشروعية” الدولة الحديثة. 
وبما أن المسافات الزمنية باتت مسألة نسبية في مرحلة بناء تركيا الحديثة فكل التواريخ والأرقام باتت حاضرة وخاضعة لمقاربات ومقارنات الفعل السياسي، فإذا كانت إمبراطورية الأمس والتي دامت 600 عاماً، من 1299 إلى 1923 م تنهار اليوم وهي مضرجة بدمائها فمن الطبيعي أن يستذكر الفعل السياسي مرحلة ماقبل الإمبراطورية ويخطط لما بعدها ويحاول من خلالها تصحيح الذاكرة المشوشة لتلك الحقبة، إذًا فالعودة إلى جالديران عام 1514 قبل حوالي 400 عام، أو التذكير بالاسم القديم لإستانبول من بيزطة إلى القسطنطينية وتاريخ سقوطها عام 1453 م أي أنها قبل 550 عاماً كانت المدينة يونانية، وحتى أنقرة اسمها أنكورا باليونانية وحتى الآن يكتب الاسم بالأبجدية اللاتينية في المصادر الغربية أنجيرا أو أنجورو في بعض المصادر، وحتى في فترة الدولة العثمانية كان أسمها أنجورة واعتباراً من القرن السادس عشر أصبح الاسم الرسمي للمدينة أنقرة. 
البنتوس …!
نعم مملكة البنتوس أو الإمبراطورية البنطية التي تمتد بتاريخها إلى ماقبل العصر الروماني سكانها الأصليين من قبائل الأمازون البيزنطية القديمة والتي أصبحت جزءا من الإمبراطورية الرومانية، والتي بلغت أوج توسعها مع قيام امبراطورية ترابزون البيزنطية، هذه الجغرافيا تتداخل مع الجغرافيا البشرية لشمال كوردستان من سيواس غرباً مروراً بأرزروم وحتى قارس شرقاً بما في ذلك مدينة النحاس مسقط رأس نوالدين زازا نفسها. 
والبنتوس أو اليونانيون بحسب القاموس الحديث للتوصيف والتسمية ينتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسية وأعلنوا الاستقلال في مناطق جنوب البحر الأوسط  باسم جمهورية البنتوس هذا بعيد الحرب العالمية الاولى بسنوات قليلة وبدعوة من الاسقفيات اليونان الارثوذكس، إلا أنهم تعرضوا إلى مذابح والإبادة الجماعية لليونانيين أو مذابح اليونانيين البونتيك، كانت إبادة جماعية منهجية ضد السكان المسيحيين اليونانيين العثمانيين، والتي نفذت في وطنهم التاريخي في الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها (1914-1922). وتم تحريض الإبادة من قبل الحكومة العثمانية والحركة الوطنية التركية ضد السكان الأصليين من اليونانيين للإمبراطورية اليونانية في البنطس وغيرها من المناطق التي تقطنها الأقليات الإغريقية. 
وتضمنت الحملة مذابح، وعمليات نفي من المناطق والتي تضمنت حملات قتل واسعة ضد هذه الأقليات؛ متمثلة في مجازر وعمليات الترحيل القسري من خلال مسيرات الموت أو الإعدام التعسفي، فضلًا عن تدمير المعالم المسيحية الأرثوذكسية الثقافية والتاريخية والدينية. وخلال حقبة الاضطهاد والمذابح ضد اليونانيين في القرن العشرين، كانت هناك العديد من حالات التحول القسري تحت تهديد العنف إلى الإسلام. ” ويكيبيديا الإبادة الجماعية لليونانيين .
هذه الأحداث من التاريخ القديم والحديث للجغرافيا المتاخمة للبيئة المحيطية لنورالدين زازا لن تكون مجرد أحداث وفقط، بل هي تاريخ أوطان وإمبراطوريات ازدهرت وقويت شوكتها وتوسعت ثم حاربت وسقطت وغيرت من كل مواصفاتها وخصوصيتها الديموغرافية والجيوسياسية، إذ أخرجت الفاعل السياسي من سكة الدولة إلى سكة الوطن، كيف لا وهو إبن العائلة الوطنية الأرستقراطية المثقفة التي لا تكتفي بالقراءة والمراقبة عن بعد بل تساهم في صناعة الأحداث، لا شك أن زازا هو ابن بيئته أولاً وبحكم انتمائه الطبقي وامتلاكه لناصية المعرفة البيئية قدر له أن يجسد لوحدة حال تفاعلية مع كل ما جرى وما كان يجري في أرجاء الإمبراطورية المتمزقة النازفة، وعليه فقراءته للتاريخ ورؤيته للحدث في بلاد البنتوس لم تكن قراءة عابرة خاصة وأنهم عاشوا معه في بلدته “مادن” كشركاء للحالة الروحية والعاطفية المتعايشة إلى جانب قوة العلاقات الإقتصادية أو المصالح المشتركة، وربما حالة البنتوس كانت بمثابة قراءة مكثفة للتاريخ العثماني والتركي تجاه الشعوب والأقليات غير التركية أو بتعبير أدق غير المستتركة
تركيا الحديثة 
بغياب المشروع الوطني من لدن أنظمة حكم الدول، لا يمكن الحديث عن  حالة وطنية متبلورة متمثلة بالدولة القائمة أو متماهية معها، حيث يبقى النزوع والميل لانتماءات ما قبل نشوء تلك الدولة قوياً جداً، وهذا ما صاحب مرحلة التأسيس لتركيا الحديثة، إذ تحولت الإمبراطورية إلى دولة قوموية بمواصفات فاشية، جاء هذا التحول بمشاركة مباشرة من أوروبا المسيحية كرد على طبيعة الدولة العثمانية وهويتها الإسلامية، وساهم الغرب المسيحي بالتعاون مع المحفل الماسوني اليهودي في بناء هذه الدولة، وانضم إلى مشروع الدولة الحديثة العلويين واليهود بشكل أساسي إضافة إلى بعض الفئات من الكورد المنسلخين كأفراد والأثنيات الأخرى. 
والسبب الأساسي في هذا الدعم والمشاركة هو طبيعة وشكل علاقة العلويين واليهود مع الدولة، حيث الحالة الوطنية توافقت مع حالة الإنتماء للدولة، على عكس الرؤية السياسية الكوردية التي كانت تمتلك طموحاً وطنياً كوردستنياً منفصلاً عن تركيا، ولهذا وجد العلويون في إجراءات أتاتورك فرصة مهمة لأداء دورهم في الحياة السياسية والاجتماعية، وأصبحوا الدعامة الأساسية للنظام العلماني، وهم يرفعون صورة أتاتورك إلى جانب صورة علي بن أبي طالب وحاجي بكتاش في جميع مناسباتهم الوطنية والدينية، ومع الانفراج السياسي والتعددية الحزبية في تركيا بعد الحرب العالمية الثانية انضم العلويون لأحزاب اليسار العلمانية وأعلنوا تأييدهم لانقلاب عام 1960 وشاركوا في إعداد دستور 1961 الذي نص على الكثير من الحريات الدينية ما زاد من نشاطهم الديني والاجتماعي والإعلامي ونجحوا في إشغال نحو (15) مقعداً نيابياً في انتخابات العام 1965، وشكلوا العشرات من الجمعيات للطائفة العلوية، فضلاً عن قيامهم ببناء قوة رأسمالية مهمة في بعض دول أوروبا الغربية توازي قوة المسلمين السنة.
والملاحظ رغم أن الحياة السياسية والاقتصادية لليهود كانت تسير بخطى متوازية مع المراحل المختلفة لطبيعة الحياة داخل الدولة العثمانية، خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر على وجه الخصوص كان ذلك بمثابة العصر الذهبي بالنسبة ليهود الدولة العثمانية، إلا أن اليهود ضاعفوا من مساندتهم ودعمهم لجهود أتاتورك لتأسيس دولة علمانية في تركيا إذ كانوا طلاب نفوذ وسلطة وليسو طلاب أرض ووطن، واستثمروا نفوذهم المالي والإعلامي لتأكيد هذا الدعم وتقوية الأحزاب العلمانية بعد ذلك، ويذكر أنه كان لهم دور كبير في انقلاب عام 1909 هذا ما أزاد من فعاليتهم السياسية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وساندوا أتاتورك في إنشاء مؤسسات الدولة على النمط الغربي لأهداف سياسية، وسرعان ما قطفوا ثمار هذا الحضور السياسي إذ اعترفت تركيا بدولة اسرائيل عام 1949 أي بعد عام واحد من قيام الدولة.
لكن لعل التاريخ الأكثر اضطراباً وحساسية للقضية الكوردية في تركيا في المرحلة الإنتقالية من الإمبراطورية إلى الدولة يكمن في الأعوام التي تلت الحرب مباشرة بدءاً من تاريخ إعلان ولسون مبادئه الأربعة عشر حول شروط السلام، وإعادة بناء أوروبا، وحق تقرير مصير الشعوب وخاصة البند الثاني عشر الذي يقول فيه: ضمان سيادة الأجزاء التركية وإعطاء الشعوب غير التركية التي تخضع لها حق تقرير المصير، ومن ثم مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، وسيفر عام 1920، ولوزان 1923، وكيف تحول سيفر إلى لوزان. وهنا بدأ النزيف الكوردي.
النزيف الكوردي
تركيا الجديدة التي شكلت الحاضنة الأولى لتشكل وبلورة ظاهرة “زازا” السياسية، كانت بطبيعة تنوعها الجغرافي السياسي والبشري وبكل أبعاد تعقيداتها نتيجة لولادة قيصرية مؤلمة، لذا كانت – إضافةً إلى الضغوطات الأوربية وتدخلاتهم المباشرة – تنزف من الداخل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال الثورات والإنتفاضات الكوردية التي كانت بمثابة امتداد لحالة الرفض الكوردية مند العهد العثماني، والثورات الكوردية الحديثة بدأت منذ عام 1922 مع نشوء الوعي القومي الكوردي بموازاة نشوء دولة تركيا الحديثة، ثورة الشيخ سعيد بيران  1925، وبعدها انتفاضات الاستقلال في جبل آرارات 1930، وثورة ديرسم 1937، هذا بالتوازي مع حالات الرفض السياسية التي نشأت في الفترة الإنتفالية بين إنهيار الدولة العثمانية وتأسيس تركيا الحديثة. 
يبدو جلياً أن أول جمعية كردية قد ظهرت في تلك الحقبة عام 1908م، وهي: جمعية التعاون والترقي الكردية، التي كان جل أعضائها من أبناء رؤساء العشائر ومن المثقفين الكرد، وكانت مبادئها تجمع بين الإسلام والقومية، وقد بعث مؤسسو الجمعية رسالة إلى السفير البريطاني في الأستانة تضمنت الأسباب التي دفعتهم إلى تشكيل الجمعية، مطالبين منه إشعار حكومته بذلك ودعوتها إلى تقديم العون والمساعدة للشعب الكردي لتحقيق أهدافهم. ومع ذلك فإنها كانت تتوقع مد يد العون من فرنسا في تلك الحقبة، لأنهم كانوا متأثرين إلى حد ما بالأفكار الديمقراطية لمبادئ الثورة الفرنسية (حرية – إخاء – مساواة) نتيجة العلاقات التاريخية بين الباب العالي والحكومة الفرنسية، واعتماد النظام القضائي العثماني على التشريعات الفرنسية والسويسرية بعد إقرار نظام الإصلاحات العثماني الذي أقر في منتصف القرن التاسع عشر جراء ضغوط أوربية بشأن كيفية التعامل مع الأقليات أقر في منتصف القرن التاسع عشر جراء ضغوط أوربية بشأن كيفية التعامل مع الأقليات غير الإسلامية واعتبارهم مواطنين؛ كل ذلك مما زاد من جرعات المنتجات الحضارية غير الإسلامية في الساحتين السياسية والثقافية للمثقفين المسلمين العثمانيين من شتى الأعراق: التركية والعربية والكردية وغيرها.
وفي التاسع من أغسطس 1912م قرر بعض الطلاب الكرد الدارسين في معهد (خلق ألي زراعي) وأكاديمية الطب في إسطنبول تأسيس جمعية (هيفي الكردية/ أمل الكرد)، وكان لعائلة (جميل باشا) من ديار بكر الدور الأساسي في تأسيس هذه الجمعية التي كان لها دور أساسي في الحياة السياسية الكردية فيما بعد، وفي إيقاظ الشعور القومي الكردي. وعقدت الجمعية مؤتمرها الأول في مدينة لوزان السويسرية في عام 1913م وانتخب فيها (ممدوح سليم) سكرتيراً للجمعية، حيث هاجم في كلمته الافتتاحية مواقف بعض رؤساء العشائر الكردية تجاه القضية القومية، كما انتقد الدعوات المطالبة بعدم تدخل الشباب الكردي في السياسة. وبرغم القيود التي فرضتها السلطات العثمانية على جمعية هيفي؛ إلا إن أعضاءها قرروا مواصلة نشاطهم الثقافي والسياسي بهدف تعريف الشعوب العثمانية بالهوية الكردية، فأصدروا في العام نفسه 1913م مجلة (روزي كورد/ شمس الكرد) التي كانت ذات اتجاه قومي وثقافي في آن واحد، حيث تناولت في أعدادها الصادرة طبيعة الحركة الكردية ونضال الشعب الكردي من أجل الحرية والاستقلال ضمن الدولة العثمانية، لاسيما بعد أن سمحت الحكومة العثمانية للقوميات غير التركية بالتعبير عن آرائها.
إلى جانب هاتين الجمعيتين، تأسست في الرابع من نوفمبر 1913م في كردستان إيران وبالتحديد في مدينة خوي جمعية (جيهانداني/ العالمية) من قبل (عبد الرزاق بدرخان باشا) هدفها نشر الجانب التعليمي والثقافي بين سكان المدينة، ويبدو أن السبب في تشكيل الجمعية خارج الأراضي العثمانية هو أن عبد الرزاق بدرخان كان ملاحقاً من قبل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتهمة العلاقة مع روسيا، وفيما بعد ألقت السلطات العثمانية القبض عليه سنة 1916م في مدينة رواندوز في كردستان العراق وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التخابر مع دولة أجنبية (روسيا القيصرية).
ومن الجدير بالذكر أن حزب خويبون (الاستقلال) يعتقد أنه أول حزب كردي قومي ليبرالي تأسس عام 1927م في مدينة بحمدون اللبنانية، عبر توحيد أربع منظمات كردية، بدعم أرمني وفرنسي، وكان من أبرز قادته الأمراء من أسرة بدرخان باشا (جلادت بن أمين عالي بن بدرخان باشا) وأخوه (كاميران بدرخان)، وبعض الشخصيات من أسرة جميل باشا وبعض رؤساء العشائر الكردية المتنفذة في سوريا، وبهذا الصدد فإن زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (عبد الرحمن قاسملو- قتل عام 1989م على يد المخابرات الإيرانية في النمسا) هاجم هذا الحزب بقوله: «بالنظر لضيق مصالح قادة الحزب [خويبون] لم يناشد الحلفاء الحقيقيين [الاتحاد السوفيتي]، بل اعتمد على تأييد الدول الاستعمارية [فرنسا] التي كانت ترى المسألة الكردية وسيلة للضغط السياسي على تركيا ” 
الجذور التاريخية للعلمانية في تركيا / الدكتور فرست مرعي
في الجانب الأخر من الحدود وحالة اللادولة
أما في الجانب السوري من الحدود فكانت اللوحة أوضح بكثير من الحالة التركية، فسوريا كانت تعيش حالة اللادولة حتى عام 1936 م وحدود الدولة الناشئة كانت تتحرك على رمال الاتفاقات الدولية، وحتى الشمال والساحل السوري لم تكن في إطار حدود الجمهورية السورية، بحسب مراسلات الشريف حسين ومكماهون في الرسالة الجوابية للسير مكماهون المؤرخة بتاريخ 24 اكتوبر 1915 يقول فيها : (….. إن ولايتي مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال أنها عربية محضة وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة مع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض رؤساء العرب نقبل تلك الحدود…) ومن الواضح هنا حتى الطائفة العلوية والطوائف المسيحية لم تكن محسوبة على الوجود القومي العربي، ناهيك عن الوجود القومي الكردي في شمال حلب (عفرين وكوباني وريف إدلب وريف اللاذقية وجبل الأكراد).
وكوردستان إسماً وردت في وثيقة تحضيرات مؤتمر الحلفاء في يناير/ كانون الثاني عام 1919 إذ يقول القرار: “… إن الحلفاء والدول التابعة لهم قد اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطورية العثمانية”.
وقرار الإنتداب الفرنسي لسوريا اتخذ في اتفاق سان ريمو في نيسان 1919م, الذي أصبح قاعدة لمفاوضات ترسيم الحدود بين سوريا وتركيا.
وانطلاقاً من هذا القرار قدم الممثل الكردي شريف باشا مذكرتين مع خريطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (21/3/1919م) والأخرى يوم (1/3/1920). كما طلب من القائمين على شؤون المؤتمرتشكيل لجنة دولية تتولى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكردية، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكرة الأولى “إن تجزئة كردستان لا يخدم السلم في الشرق…”.
وعلى الرغم من توقيع اتفاقية أنقرة لرسم الحدود بين تركيا ومنطقة النفوذ الفرنسي في 20 تشرين الأول عام 1921 إلا أن الحدود الفعلية بين تركيا وبين المناطق الكردية في شمال سوريا الحالية بقيت دون تنفيذ، حيث البند الثالث من الاتفاقية أوصى بانسحاب الجيوش الفرنسية نحو الجنوب والجيوش التركية نحو الشمال، والمادة 13 من الاتفاقية سمحت للسكان المحليين من الكورد بالتنقل بحرية بين جانبي الخط المرسوم، وذلك في إشارة واضحة على وحدة الجغرافيا البشرية للجانبين، واعتراف صريح بتقسيم هذه الجغرافيا الخاصة بالشعب الكردي، وعليه استغل الجانب التركي هذه المادة بشكل سلبي وتحايل على تنفيذها بما ينسجم مع توجهات دولة العسكر تجاه الكورد حيث اعتمد الحدود المتغيرة والمتحركة، لكن من خلال حدود منيعة متحركة لأهداف أمنية وعسكرية، وبقيت الحدود في حالة تغير دائم حتى خمسينات القرن الماضي، ومع كل تغيير حدودي من جانب دولة العسكر في تركيا كانت تتحرك معها الأسلاك الشائكة والألغام الأرضية التي حصدت آلاف الأرواح البشرية.
لذلك من المفيد التذكير بكيفية نشوء الدولة السورية ورسم حدودها السياسية والسيدية بشكلها الحالي:
سوريا الدولة كيف ومتى …؟
وسوريا الحالية لم تكن في أي يوم دولة موحدة قبل هذا التاريخ، كما لم تكن لمعظم الكيانات السياسية العربية الحالية وجود سيادي طيلة فترة الدولة العثمانية 1517ـ 1918، بل كانت عبارة عن ولايات تابعة وخاضعة للباب العالي في الأستانة أو استانبول، والتقسيم الاداري العثماني الذي اعتمد عام 1904 قسمت منطقة ما أسماها البعض بلاد الشام إلى ثلاثة ألوية :
• ولاية الشام، وكانت تضم دمشق وحماة وحوران والكرك في الاردن الحالية.
• ولاية حلب، وتضم حلب في سوريا الحالية وأورفا في تركيا الحالية ومرعش في تركيا. 
• ولاية بيروت، وتضم  بيروت وعكا وطرابلس اللبنانية واللاذقية ونابلس.
والفرنسيون بعد الحقبة العثمانية بعد سايكس بيكو وتحديداً في عام 1920 قاموا بتقسيم سوريا  الحالية إلى ست دويلات: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة الاسكندرونة، دولة لبنان، دولة جبل الدروز.
و بسبب عدم الاستقرار السائد في دول المنطقة (دمشق، حلب، دولة العلويين، الاسكندرونة)، وبعد سنة واحدة من عمر هذه الدول في عام 1922 أنشأ الفرنسيون الاتحاد السوري وفق فيدرالية شكلية أشبه بالنظام الكونفدرالي بين دول حلب ودمشق والعلويين، ومع استمرار حالة عدم الاستقرار وبعد ثلاث سنوات في عام 1924 تم توحيد دولتي دمشق وحلب في دولة واحدة مع إبقاء دولة العلويين كدولة مستقلة منفصلة عاصمتها اللاذقية، وانتهت الفيدرالية السورية مع انفصال دولة لبنان عام 1936، أي أن تاريخ الدولة السورية ككيان سياسي واحد بدأ من عام 1936 وفقط وفيما عدا ذلك لا دولة اسمها سوريا ومثلها الكثير من الدول العربية الحالية مثل الاردن أو العراق أو الكويت أو الامارات العربية أو لبنان أو السعودية تفتقد إلى المشروعية التاريخية لجيوغرافيتها السياسية.
خويبون هي أول من تخطت الحدود
بعيد انهيار ثورة الشيخ سعيد بعامين فقط، انتقلت الحالة الوطنية الكوردستانية مع الرموز والنخب السياسية والإجتماعية الهاربة من الملاحقات التركية إلى الجانب السوري من الحدود, إذ حملوا القضية بأبعادها الإقليمية والدولية إلى خارج الحدود من خلال تأسيس جمعية خويبون السياسية والتي كان لها الفضل الأكبر في تنشيط الحالة السياسية الكوردية في الطرف السوري من الحدود، وبذلك تكون أولى التنظيمات التي تتخطى الأسلاك الشائكة لحدود الدول التي تقتسم كوردستان، وتمهد لتفعيل البعد الوطني الكوردستاني، وتجلى هذا التأثير في المطالب الكوردية من فرنسا عام 1930 إذ كانت أولى المطالب: إدارة خاصة بالأقاليم الكوردية المأهولة بالأكراد، بحسب تعبير الوثيقة.   
هذا يعني أن القضية الكوردية ارتبطت مع الأرض من خلال نشاطات خويبون في الجزيرة، ومن ثم تفاعلت الحالة الكوردستانية بشكل أرقى في جنوبي كوردستان حيث تدخل البارزاني الخالد مع قوات كبيرة إلى الجانب الشرقي الإيراني من الحدود للمساعدة في إنشاء أول كيان وطني متخطياً الحدود الدولية، وخويبون التي كانت تتحرك في الساحتين اللبنانية والسورية والجزيرة، خطوط بيروت دمشق قامشلو أسست لفكر تحرري كوردستاني في الجانب السوري مما شكلت من خلال هذا النشاط عاملاً مهماً في تأسيس الكثير من الجمعيات والتنظيمات الكوردية، ومنها تأسيس الديمقراطي الكوردستاني – سوريا بقيادة الدكتور نورالدين زازا رئيس أول تنظيم سياسي كوردي في الجزء الغربي من كوردستان
……. يتبـــع ………..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…