خالد إبراهيم
مِن بول المشردين، سيشرب العالم نخب ضياعهِ المنقوش على أرصفة الطرقات، الطرقات المكتظة بنزقِ العرصاتِ العراةِ أصحاب البطون المبقورة، المُعلقةِ على أبواب جهنم، البطون التي مرّت عليها أشكالٌ من بيوض الجنس السوري، المدلوق عبر بوابات المدن الألمانية، وعبر شقوق الشهوة، والرعشة المصلوبتين على تخوم فرج القدر النتن.
أحملُ وعائي الفارغُ من شكلي المتصدع عبر “ضرطات” أسماك ضحايا الصيادين السُكارى، المسخ المتصنع، القنديل المكسور، الضوء الخافت، الماء الماجن، الشجرة العارية الزانية بصفير الريح السوداء بين أصابع أمي، أمي التي ضاجعت ألف رجل، وخسرت عذريتها على الطريق الفاصلة ما بين عامودا والحسكة، وأنجبت أشدّ الأبناء عارا وخسارة، أمي التي قذفت بمحزمها الملون، على ضفاف الخابور، وباعت سروالها الداخلي على مشارف أوروبا، ورفعت بإصبعها الوسطى بوجه الليل الشاحب المُضرج ببقايا اسمي أنا، اسمي الذي سقط من بين أسماء الله الحسنى.
في العام التائه والقادم هذا، في نكايات القحف اليابس، في صلابة جودي وسنجار، في ألق دجلة والفرات، في انكسارات عبدالله أوجلان وأتباعه، في تعب الجنود والعودة من معركة خاسرة، من غضب أمواج البحار، وهي تتأهب لتمزيق أساطيل الغزاة، والقراصنة.
مني أنا، العامود الفقري الهش، السيارة المعطوبة، البندقية الصدئة في لحظة حرجة، لا تبحثوا عني، ولا تسمحوا لعجاج ذكراي أن تُعمي أبصاركم، أو شيئاً مني كهدية قديمة، قد تلوث غنائمكم المعمورة، بالسكينة وبالرضى.
في حين أن أصابعي بدأت تجتاحُ صناديق الأسئلة المرّة والمتكررة، في وقتٍ أنا بأمس الحاجة إلى سكينٍ أو طلقة، أو برميلٍ من البارود، في زمنٍ يناديني بساقٍ واحدة، ويدٍ واحدة، وعينٍ واحدة، بِلا ضميرٍ، بِلا وجدانٍ، بلسانٍ مصبوغٍ بروثِ القهرِ، وطيور جداتِ العالم السُفلي، كما أنني سأقفُ أمامَ أحفادي الأربعين جثةً، ومشنقة، ليقولوا بصوتٍ واحد، وكُفرٍ واحد، وانتقامٍ مطبوخٍ بعصاراتِ أعوامٍ خلت، هذا هو القاتل، ارجموه بألفِ وردةٍ حمراءٍ ذابلة، ضعوه في زيت أحقادنا البريئة، “اقلوه” مع سمك السلمون الفاسد، حمّصوه حتى التعب، ثمَّ بعثروه بعيداً، على تخومِ التضاد المزدحمِ بنزقِ الأجنَّة العابرين عبر هفوات هذه المجرّة المسطحة الملتوية كالأفعى.
يقولون: إن التاريخ يُعاقب، يفسخُ، يهينُ، يفضحُ، يلعنُ، يطرحُ، يضربُ الشرق بالغرب، إلا أنه يمحي آثار دمار الحروب المزورة، القنابل، وصفير الرصاص، و يرمم القلوب المنهكة، يصقلُ القلوب المُتقلبة القاسية بزيت الغياب والعدم ، كقلب أمي وأبي.
لا شيء يحفرُ الطريق، سوى لهاثي الفاسد، عشقي المهشم، لجّة صدري المفتوح للألغام و الحفر، خيبتي التي تغطي هذه المدن، لا شيء ينزع هذا الترف المجبول بالقهر وسكك الحديد الصدئة، ألملمُ أخطائي كلها، أُحصيها خطيئة تنطحُ الأخرى، لا شيء سينجو مني و اليَّ، أصابعي تتبعثرُ على جسدِ الليل. العينُ تقفُ أمام نفسها، تبحثُ عن ملابسِ التيه والفراغ الأسود، الأشجارُ تتراقصُ، تَضيقُ عليَّ أنفاسُ المدينة، أخافُ من كلِ شيء يحاول ربطي بعامود النور المزروع في وحشةِ شارعٍ مليء باللصوص والقَتلة، تهربُ روحي وهي تبحثُ عن أحرفٍ، ويبقى الخرسُ طوقَ حديدٍ يربطُ أوصالي، أنحتُ جسدي، وأنا تحت الماء، و تهربُ مني جنود روحي، أخرجُ من تحت الماء مبتلاً بالعار، ونبيذ خساراتي يتسابقُ على مائدة هذا العالم الممتد لأقول لطفلتي التي لم تولد بعد:
هل ترين أباكِ؟
هل ترينَ وأنا أدقُ مسماراً بيدي اليمنى؟
وبيدي اليسرى، كيفَ أطعنُ خبثَ وقوانين النسبِ و الملّة؟
هل ترينَ وأنا أفقأُ عين اللا تراجع؟
وعيني الأخرى تنزُّ دماً
ابنتي الشهية، البهية، الجميلة كحزنِ أبيها، كضحكته، كبكائه، كعظمةِ بقائه، كعويل مكانه الفارغ، ابحثي عني جيداً، سأكون خلفكِ، أمامكِ، سأكون ظلكِ، معطفكِ الشتوي، مظلتكِ الصيفية، العشبُ الذي ستدوسين عليه ذات يوم، منديلاً أثناء بكائكِ.
ابنة أيامي الباقية، يا آخر ضوءٍ ينير لي ظلام هذا العالم، يا أجمل عنقودٍ جميل تبقى في جرّة أنّاتي، لا هذا الفراغ، ولا بياض القلوب، ولا زرقة السماء، ولا رائحة قهوتي، و أكواب الشاي، ولا بقايا سجائري، ولا الطرقات، ولا المنافي ستواريكِ عبرَ دغلٍ، أو فوق جبلٍ سوف ترينَ حقيبتي و زجاجة عطري الفارغة (Boss) ووجهي الشاحبُ متكئاً تتجاذبهُ الرّأفةُ و الشفقة، و صفيرُ الريحُ و الظلُّ الأحمقُ.
هل ترينَ دمي؟
مسلوبٌ، مسلوخٌ مِن لونه، اللون الأحمر المائلِ للسوادِ الأعظمِ
هل ترينَ هيجانه؟
محموماً، يتثاءبُ، يتصاعدُ، يندلقُ على ملوكِ الجنِ و أرصفةِ المدن الحمقاء، برائحة الوردة الحمراء بقلبي، أتقدم، أُبعثرُ التربة، بعد حرق العشبِ ولطم الماء، بسطحِ الماء.
ابنتي، تعالي مبتسمةً وضميني بقوة، تعالي بمشرطٍ يليقُ بهذا الورم الذي يحيطُ بخاصرتي، تعالي بهدوء كي لا يستفيق الألم
تعالي
وارسمي حزن شهرِ ديسمبر، ببرده وجوعه، هناكَ على مقبرتي ، كوني قوية، كوني على يقينٍ من حبي لكِ
إلا أنني سأغيرُ اسمي، سأغيرُ ديني، سأنحتُ شكلي الخارجي، وسأدعو كل المشردين إلى تغير اسم هذه المدينة أيضاً
لا شيء يسلخ الوقت من هذره سوى قلق القطارات، وأنفاقها المظلمة الباردة، كقطع الثلج المُغطاة على جثة طفلٍ تم اغتصابه عند الخامسة فجراً.
نعم يا ابنتي
كنا صغارا بِلا ذاكرة، إلا أن ظلال قلوبنا كانت تحرس آثار خطانا، خطواتنا اليتيمة، ظلالنا التي تهمس في هذا العدم المعطوب، كنا بلا أرقامٍ، بِلا هوية وعنوان، كنا ننتظر يوم الغد لنسرق المشمش والتفاح، كنا نسير ونحن نيام، ونستيقظُ بِلا أحلامٍ، نستيقظُ ولم نكن ندري كم يبلغ الوقت ما بين الصباح والمساء، وكم يحتاجُ الإنسان من الأدوات التي تشيخُ بدمه؟
نعم يا أبنتي
عندما يحل المساء، سأذهب إلى مكانٍ مرتفع، سأراقب أسطح الأبنية، والنوافذ المضاءة، وسأزور نهر الراين أيضاَ، وسأفكر بطريقةٍ لائقةٍ لتغيير اسمه أيضاً، وجمع طيوره، وأسماكه، و سأسعى وحيداً لتعليق هذا الصيد اليتيم على جسوره التي تربط الجهات ما بين الخير والشر.
حينها سأذهبُ إلى القانون ببراز التائهين أمثالي، القانون الألماني مثل فرج العاهرات، يَشطُّ ويمطُّ، حيث لا مساومة، ولا مقاومة، وستفعل الفعلةُ فعلتها الساذجة، وهي تثقبُ فرج هذا الزمن المتقلب كالحرباء.
انظري يا ابنتي، كيف سأرتب ما تبقى لديَّ من أيام، أريدُ أن أعود مثلكِ طفلاً في كل شيء، طفلاً بظلال الكبار، بمواقف الكبار، بقوة الكبار.
أريدكِ يوماً أن تجلسي معي وسط ساحات دورتموند، نراقب طيش الهواء الذي يتلظى من بين أردافه، جحافل الأفاعي والعقارب البشرية
تعالي بلا وقت، بلا موعد، بلا دموع وترجمي هذه الرواية إلى الألمانية