طفولة

خالد إبراهيم

أفترشُ  بُرودَةَ سيّارَتي الزرقاء ،  هَلْ  هيَ  سَمَاءُ اللَّه  المتعبةُ، أم أرضٌ جحيمٌ، أم  أَنَّهَا  كفنٌ أبيضٌ انعكسَ عليه بحرٌ حزين! 
أَم  تراني مصابٌ بعمى الألوان؟ كَمَا  إنَّنِي  لَمْ  أعُدْ  أبصرُ  الصِّدِّيق  الشَّامِت  مِن  الْأَخ الْمَلْعُون  الملتوي  عَلَى  جثتي  مِثل  ثُعْبَان !
تساؤلاتٌ كَثِيرَةٌ  لا تجدُ  لِنَفْسِهَا  أَجْوِبَةً داخل جمجمتي المنخورة بالقلق والألام، أنظرُ  إلَى  عِدَاد  الْوَقُود  وَالصَّفِير  يتأبطُ رَائِحَةِ الديزل  وَدَمِي، إلَى  الْمِقْوَد  الْبَارِد، مِثْل أَجْزائِي  الْأَلْف  خَيْبَة،  أدققُ  فِي  عُمْقِ  الْعَتَمَةِ  الْبَارِدَة 
يَأْتِينِي  شبحٌ  وَيَهْرُب  آخَر، وتتوالى صُوَرُ  أَوْلَادِي  الْمُعَلَّقَةِ  فِي  الْهَوَاءِ أمام عينيّ: ابْنِي  أَنَس  الْبِكْر  المبكور  البَاكِر  عَلَى  ظنّي  الْهَشّ الْخَائِبِ،  يَتَحَسَّس،  يتلذذُ  بِطَعْم  الْأُمِّيّ  الْمِئة والمليون  شَمَاتَة، ابْنَيْ  محمَّد  الهاطلِ  وَالْعَاطِل والغارق  فِي وعاء  مَلِيءٍ بالأنّات وَالْغَضَبِ ، يسامرُ  اللَّيْلِ  وَالنَّهَارِ  بِكَعْب  حِذَاء  فَارِغ ، ويلتوي  عَلَى  شَجَرَةٍ سِنْدِيان  مُحْتَرِق،   ابْنَتِي  سَنَاء  ،  السَّمْرَاء  الْبَهِيَّة  عَلَى  عَجَّل ،  ضَحِيَّة السَّذَاجَةِ وَحُبِّي  الصَّعْب  الْمُمَزَّق  عَلَى  ضِفَّةِ  نهرٍ  جَافّ،  تُنَادِي  الْبُحُور  والمحيطات، تسكنُ سَفِينَةً مَثْقُوبَةً،  تُمسكُ  بشراع  يُدْعَى  كَفَنِي  الْأَوَّلَ  وَالْأَخِيرَ، ابْنِي  سالار  الْفَتِيّ  الصَّغِيرِ  الَّذِي  لَمْ  يَنْعَم  بِطَرَاوَة العجلاتِ  عَلَى  أرصفةِ  أُورُوبَّا ،  وَلَا  أَسْفَلْت  أُورُوبَّا  وَلَا فِي  حانات  أُورُوبَّا، ولا مدارسها ولا حدائقها، يَضْحَك  باكياً  كُلما  رَأَى  صُورَتَي  فِي  الْمَرْأآةِ في أطارها البازلتي ،  ذَات  الزُّجَاج  المندثرة  عَلَى  حوافها  بَقَايَا  دَمِي، وبقايا روحي التي هرمت كثيراً،  يُمسك  وَجْه  الرِّيح  بِيَدَيْه  الطريتين  لِئَلَّا  أنجرفَ  تَحْت التُّرْبَة  الْبَلَاء وَقَلْبِي  الَّذِي  ينزُّ  آخَر ضحاياه  (perî)  تُمسكُ خَاصِرَتِي ،  تعضّ  أَنْفِي  ،  تشدُّ  شِعْرِي  الطَّوِيل  تارةً وتغلق  عَيْنَيهَا  وتهمسُ  فِي  أُذُنِي  المنخورة:  بَابا.. باااااابااااا،  يَا  آخَرَ  رَجُلٌ  يَرْكَب  مَوْج  الزَّمَن  الْقَاسِي،  يَا آخَر  وَرَقَةِ  صفصافٍ  فِي  براري  طفولتي،  يَا  طيراً يَعْلُو  ثُمّ  يَعْلُو  لِيَسْقُط  فِي  أَحْضان  الْوَدَاع  وَالْفَرَاغ الْمَسْمُوم  بِالْوَحْدَة  وَالتَّرْحَال، أنظرُ  إلَيْهَا ،  وَإِلَيْهِم ،  أتمحّصُ  الْجَمِيع  بجسدٍ مَثْقُوبٍ ،  وَحَنْجَرَة  مبحوحة مجروحة بالبكاء،  وَيَدَيْن  عاريتين ،  وَوَجْهٍ مكلومٍ،  وبحرارة  الْأَشْيَاءِ  الْمَنْسِيَّةِ  أُشعلُ  آخَر  سِيجَارَة ،  لِتنط  عَيْنَاي  نَحْو  كُوب  القَهْوَة  الْفَارِغ ،  وَبَقَايَا أعقَاب  السجائرِ  المخنوقةِ  فِي  المنفضةِ  الملوثةِ، يتغلغلُ  فِي  دَمِي  إعصارٌ مِن  النيكوتين  الْبَاذِخِ ، ولُعابٍ  أَفْوَاه  الجُثَث ،  مِنْ  الْآدَمِيِّينَ  وَالطُّيُور  وَالدَّوَابّ..
أصرخُ: يَا  رَوْثَ  الْأَبْقَار  الَّذِي  يُغَطِّي  هَذَا  الْعَالِمُ ،  حَتَّى  الْأَعْيُن والأفواه  وَالْقُلُوب،  يَا  زَبَد  الْقِيَامَة  المخنوقة  تَحْت عَرْشِ  اللَّهِ،  يَا منصات  الْإِعْدَام  ورايات  النَّصْر  المزيف،  لَا  شَيْءَ  أَمَامِي  سِوَى  ظِلال  هَذِهِ  الْأَشْجَارِ  وَبُحَيْرَةٌ طَافِحَةٌ  بالقمامة  وَأَنَا ،  لَا  شَيْءَ  سِوَى  بَقَايَا  دِمَاغٍ أراهُ يتفتتُ  نَحْو  الْعَدَم ،  الدِّمَاغ  الْعَدَم  ،  الْعَدَم  الْمُلَطَّخ برؤى  العابرين  فِي  جِنَازَةٍ  جثتي  الْهَارِبَة  نَحْوَ  مِائَةٍ عامٍ  مِن  الحنّاء  وَالدَّم.  
وبعينٍ جهيرةٍ  أَعْلَن  نَفْسِي  جلاداً ،  ديكتاتوراً ،  وَبَيْن حَطَبِ  الْأَشْيَاء  أشعلُ  مَا  تَبَقَّى  مِنْ  وَجْهَيِ  الأَسْمَر الذَّابِل عَلَى  الْمَقَاعِدِ  الْمُثَبَّتَةُ  فِي  هَذِهِ  الشَّوَارِع، أتحسسُ مَلْمَسَ  أَبْوَاب  الْمَقَاهِي  وَالْحَانَات  الْمُغْلَقَة ،  أَجِد  نَفْسِي بُرْهَةً  ثُمَّ  أَخْتَفِي ،  أدْنُو  مِن  نهايتي  بُرْهَةً  ثُمَّ  أَنْجُو، أمدُّ  عُنُقِي  لقساوةِ  هَذِهِ  الْأَرْضَ  وأفشلُ،  أَفْرَد  ذراعيَّ بِاتساعِ  الرِّيح  وَالْمَطَر ،  أصرخُ  بملىء  حَنْجَرَتِي  ، فَيَعُود  الصَّدَى  مُحمّلاً  بجدائل  أُمِّي  وجداتي الضائعات..
أنا الآن شبهُ أحد، شبهُ كائنٍ عنيدٍ، يتشبّث بلاشيء!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

ا. د. قاسم المندلاوي

 

عامودا:

مدينة الفن والحب والجمال، تابعة لمحافظة الحسكة، وتبعد عنها 80 كم. تقع في شمال شرق اقليم كوردستان الغربي، وعلى الحدود مع تركيا وقرب مدينة قامشلو. معظم سكانها من الكورد مع اقليات عربية ومسيحية. يمر فيها نهر باسم “نهر الخنزير”.

اسست المدينة على يد مهاجرين سريان هربوا من تركيا في اعقاب مذابح…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير في…

حاورها: إدريس سالم

 

في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية، لم يعد ممكناً التعامل مع القضايا المصيرية بمنطق الإنكار أو الاستخفاف؛ فالمشهد السياسي السوري، بكل تعقيداته وتناقضاته، بات يفرض على الفاعلين الكورد مسؤولية مضاعفة في إعادة تعريف أدوارهم، وترتيب أولوياتهم، وبناء مشروع وطني يتجاوز الاصطفافات الضيقة والانقسامات القاتلة، فالسكوت لم يعد ترفاً، ولا الشعارات تُقنع جمهوراً أنهكته…

فراس حج محمد| فلسطين

مقدمة:

أعددتُ هذه المادّة بتقنية الذكاء الاصطناعي (Gemini) ليعيد قراءة الكتاب، هذا الكتاب الشامل لكل النواحي اللغوية التي أفكّر فيها، ولأرى أفكار الكتاب كما تعبّر عنه الخوارزميات الحاسوبية، وكيف تقرأ تلك الأفكار بشكل مستقل، حيث لا عاطفة تربطها بالمؤلف ولا باللغة العربية، فهي أداة تحليل ونقد محايدة، وباردة نسبياً.

إن ما دفعني لهذه الخطوة…