د. آلان كيكاني
لم تفارق الابتسامة شفتي زينو مذ تعرفت عليها منذ خمس سنوات، ولم تغادر الطرفة لسانها ولا البشاشة وجهها ولا الجمال طلتها، ولا الكرم والشهامة طبعها، لا تهدأ زينو أبدا، تطبخ، تجلي، تتسوق، تزور الجيران والأقرباء، ترقص في الأعراس وتحتكر لنفسها رأس الدبكة وتلوح بالمناديل الثلاثة، تزور المرضى، تواسي وتعزي، مثل حسون يقفز من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى شجرة دون كلل، فهي دائمة الحركة والنشاط .
أحب زينو وتحبني .
يكاد لا يمر أسبوع إلا وتزورني في عيادتي، لا لمرض فيها وإنما لألفة تجمعنا، وأشعر بالضجر إذا تأخرت فأرفع سماعة الهاتف وأتصل بها وأقول :
أثمة قهوة، يا زينو، والله أنا مشتاق ؟
فترد:
بخُدّي تو فَي ناكي! أسقيك ماء عيني إذا لم يكن هناك قهوة. هيا تعال بسرعة .
ويا لقهوة زينو!!
لو ذاقها أهل ستاربكس وباباروتي لتركوا عملهم خجلاً.
وفي موسم الزيتون تغيب زينو عني أكثر من شهر فأحن إليها وأشتاق لها، ثم تعود ظافرة غانمة وبجيوب دافئة، وفور وصولها تأتي لزيارتي، تحتضنني وتقبلني من وجنتي، ولا تنسى حصتي من الزيتون و العطون والزيت.
ويا لزيتون زينو !! طعم لا مثيل له .
ويا لعطونها المحضر مع الزعتر البري !!
ويا لزيتها !! ما مرض قلب ذاقه.
تختصر زينو جمال عفرين كلها في عينيها الجميلتين، ويديها القويتين، وشقائها الصبياني، وألقها الفكري، والأهم من كل هذا بحضنها الدافئ.
مهلا قرائي.
لا يطير عقلكم بعيدا …..
لا تفهموني خطأً .
فزينو هذه هي أمي .
هي لم تلدني. ولكن ماذا عساي أن أسمي امرأة تجاوزت الستين وتحن إلي كما لو ولدتني؟ فأحترمها وأذهب لزيارتها وأقبل يدها .
أما هورو، زوج زينو، فهو ليس بأقل منها حنكة ودهاء، رجل طويل القامة، ممتلئ قليلا، بشوش الوجه، عفوي الكلام، يشكل مع زينو ثنائيا مرحا لا يمل أحد من مجالسته .
عندما يزورانني أطلب من السكرتيرة تحضير القهوة وأطفئ التلفاز، وتبدأ المناوشات الكلامية بينهما، تحسبهما ضرتين !
يسألني هورو :
زينو صارت عجوز ختيارة، بدي أجدد، ما لقيتلي وحدة؟؟؟
لا أرد أنا بل أنتظر زينو لترد عليه لأنها له بالمرصاد دائما، فتجيب زينو :
مفكر حالك زلمة!! جربتك الليلة الماضية هاهاهاها !!!
ننفجر في الضحك
يخرس هورو ويطأطئ رأسه .
زينو على حق، وأنا أعلم ذلك علم اليقين، لأنني متأكد أن هورو سيتسلل بعد قليل إلى عيادتي مثل قط أليف، ولا ينطق، وإنما يومئ لي ببسمة مضحكة، فأدرك مطلبه، يدس حبة الفياغرا في جيبه وينصرف .
وفي صباح اليوم التالي نلتقي في الحديقة التي اعتدنا أن نسير فيها كل صباح لأخذ جرعة من الرياضة، فأرى هورو مزهوا كديك رومي نافش ريشه، مرفوع الهامة مثل جندي عاد منتصرا من معركة، يحادث زينو بصيغة الأمر فتتقبله زينو برحابة صدر، يقول لها زاعقاً:
ارتخى خيط حذائي يا زينو ….
فتهبط زينو مثل عصفور وتحط على حذائه لتوتر خيوطه .
إلا أن هذا الأمر لا يدوم إلا يومين أو ثلاثة , وبعدها يتحول هورو إلى عبد مأمور بيد زينو، وتنخفض نبرة صوته عندما يحادثها، وحين يبلغ السيل الزبى يضع هورو طلقة الفياغرا في بارودته ويغزو زينو في ليلة ليلاء كالأسد ويهاجم تلالها ووديانها ويعيث فيهما خرابا .
هو من يقول ذلك فأنا لست المتحدث الرسمي باسمه .
مرة كانا جالسين وجها لوجه أمام طاولتي، نتبادل أطراف الحديث، الوقت مساء، دخل شاب وبيده ظرف، كان قد زارني صباحا طالبا الاستشفاء، فطلبت له بعض التحاليل، لم يبلغ الثلاثين من العمر، تسريحة شعره لا أستطيع وصفها بالكلمات، في عنقه طوق ذهبي، وفي معصميه أساور، وفي أصابعه خواتم لم أعدها، ولكن كان أحدها خاتم خطبة، يرتدي الفخم من اللباس ويتظاهر باللباقة في كلامه، كان الشاب واقفا إلى جانب طاولتي وزينو تتفرس في هيئته .
أنا أعرف ماذا ستقول زينو الشقية عنه عند انصرافه، وقد قالته، قالت: ينقص هذا الشاب قرط في أذنه، وخزامة في أنفه ، وكحل في عينه، وإذا عدت اربعين سنة إلى الوراء ولم يبق في الوجود من الرجال إلاه لما كنت رضيت به زوجاً.
نظرت إلى ورقة التحاليل، راعني فيها عبارة Hepatitis C : Positive.
إذاً الشابُ مصابٌ بالتهاب الكبد من النمط C وهو داء فيه خطورة، ليس له من دواء شاف، ومثله مثل الإيدز ينتقل غالبا عن طريق الجنس، وعند القليل من الناس عن طريق نقل الدم الملوث أو الحقن بأبرة ملوثة.
الشابُ لم يُنقل إليه دمٌ في حياته، ولم يتم حقنه بالإبر على حد قوله، إذاً الموضوع لا يحتاج إلى تفكير زائد حول مصدر العدوى .
قال أنه يعمل تاجرا مع أخيه الأكبر ويقضي جل أوقاته خارج البلد وخاصة في أوروبا الشرقية، طلبت منه أن يحدثني عن حياته اليومية في الخارج فقال :
أقيم في فندق خمس نجوم ، أفيق صباحا ويكون الفطور جاهزا في مقصف الفندق أتناوله ثم أنطلق إلى البزنس، أعود عصرا، أستريح بعد الغداء قليلا، ثم أمضي بعض الوقت في الدسكوتك حتى العشاء …….
ذكر أسماء أصناف من الطعام لم ولن نسمع بها، فأنا وزينو وهورو لو وضعتنا في معصرة زيتون لأعطينا كل واحد تنكتين من الزيت . لأننا نتناوله صباحا ومساء .
وكل أسبوع مرة ندلل معدتنا، فنذبح على شرفها صحنا من الفول و حبة بصل وأخرى فجل، وما إن يستقر الضيف في المعدة حتى تتجشأ هذا الأخيرة إحدى وعشرين مرة احتفاء بالضيف الكبير .
صمت الشاب هنيهة فسألته :
وفي الليل ؟؟
فابتسم ابتسامة سخيفة وقال :
ألعب !!
قصد بتعبيره غير المباشر الحشمة والأدب، وخاصة بوجود العنصر النسائي، ولكن كانت كلماته على مسامعي أكثر فظاظة وأشد وقاحة مما لو قال : ” أضاجع العاهرات ” .
أحلته إلى طبيب آخر ليتلقى العلاج المساعد، انصرف الشاب، شرد خيالي برهة، حزنت عليه وعلى خطيبته التي من المحتمل أنه سينقل إليها المرض بعد الزواج إذا لم يأبه لنصائح الطبيب المعالج .
ومن يدري ؟
فغدا سينقل إليها الفيروس القادم من فنادق خمس نجوم في أوروبا الشرقية , وقد يتهم المسكينة بأنها هي التي نقلت إليه الفيروس !!
شأنه شأن ذلك الغني الذي تحدثت عنه الصحف السرية بهذا البلد منذ عدة سنوات، هذا الثري له كلب بوليسي خمس نجوم، مر عتال فقير من أمام بيته، رث الثياب وفي رجله حذاء بلاستيكي، وشعره طويل ومنفوش، وفي يده صندويشة فلافل. لم يميز الكلب إلى أي صنف من الكائنات ينتمي هذا المخلوق، لربما ظنه ضبعا أو عفريتا، فالكلب المسكين منذ أن تفتحت عيناه يعيش بين أناس خمس نجوم ولم يسبق له أن عاشر أناسا من فئة الصفر نجمة كهذا الدرويش، هاجمه الكلب وأبطحه أرضا، فتطايرت فتات الفلافل في الهواء وسال دم الرجل على الإسفلت من جرح بليغ في الفخذ وآخر في الإلية .
ماذا لدى هذا الرجل ليدفعه رشوة لأصحاب النجوم في الدولة ؟ وماذا يدفع للمحامي ؟؟
صندويشة فلافل ؟؟؟!!!!!!
سيضربون بها رأسه , لأن معداتهم من فئة الخمس نجوم , لا تفرز أنزيمات الفلافلاز أو فيتامين الفلافلين . فيصابون بعسر في الهضم إذا أكلوها .
تعافى الرجل في مستشفى الدولة ثم اقتيد إلى السجن بتهمة أنه هو الذي عض الكلب !!!
عندما سمع المسكين ذلك صاح قائلا :
والله العظيم …. شوفوا طمي : ما فيه ولا سن … بشو عضيت الكلب ؟ … يا عالم يا ناس .. شوفوا ها (يفتح فمه) ولا سن … ولا سن . والله العظيم ما عضيتو , هو عضني …..
وكان هذا المسكين محظوظا بعض الشيء لأن الكلب لم يصاب بداء السعار أثناء تواجد الرجل في السجن لمدة شهر , فلو حصل ذلك لاتهموا المسكين، فضلا عن تهمته بعض الكلب، أنه نقل فيروس داء الكَلَب إليه وأنه عض الكلب لأنه كان مسعورا ومكلوبا، ولقضى حياته في السجن .
انصرف الشاب وبعد برهة من الصمت تأكد فيها هورو أن الشاب ابتعد ولم يعد يسمعه قال :
قال فندق خمس نجوم قال، منذ خمس وأربعبن سنة أفيق صباحا وأرى زينو حضرت لي الفطور، وتلبسني ملابسي وتلمع أحذيتي، فأذهب إلى العمل لأعود عصرا لألاقي زينو وقد حضرت الغداء ورتبت البيت ……و……..و…..
بعد انتهائه من حديثه سألته نفس السؤال الذي سألته الشاب :
وفي الليل ؟
قهقه هورو وأخذ وضعية القط الذي يهيئ نفسه للقفز , وألقى بنفسه فوق زينو قائلا :
أنططططط على زينو .
حاول تقبيل زينو وزينو تدفعه وهي تضحك وأضحك أنا .
كانت تدفعه زينو عن صدرها ولكنها لم تستطع إخفاء أمارات الغنج عن نبرة صوتها وحركات يديها وهو ما كان يزيدني ضحكا .
وهورو يقول وقد فرط ضحكا :
أز قربان زينو .. أعطني بوسة يا زينو …. والله أنت فندق سبع نجوم زينويامن ..
بين حين وآخر تتلكأ زينو في الشارع وتشكو من ألم في قدميها وتأتي إلي طالبة العلاج فأقول لها :
امشي على مهلك يا زينو , لماذا تسرعين في المشي فتتلكئين ؟ أتحسبين نفسك فتاة تبحثين عن معجبين؟؟
فترد زينو بحسرة :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ , آخ لاوى من، ليس الموضوع مشي بطيء أو سريع، الموضوع هو أن قدمي لم يخلقهما الله لأسير بهما في هذه الشوارع القذرة، وإنما صُممتا للسير بين الجبال والوديان. بين الأشجار والأدغال. على الحشائش والمروج. هما مبرمجتين للاستعمال في چيای كرمينج. ولا أدري ما الذي أتى بهما إلى هذه المستنقعات.
================
حلب 2007