تماثيل مجمدة

زاكروس عثمان 

انسحب الهواء قبيل المغيب إلى المدن البعيدة يبحث عن زوايا مضيئة ونوافذ دافئة، تاركا خلفه في جوف غابة بليدة اجساد رطبة تلتحف العتمة، استولى البرد على المكان واحال كل شيء في دقائق قليلة إلى جليد، تجمدت العتمة على الاجساد الرطبة، أحس سپاسكو بسيخ جليدي يدخل أنفه.. يخترق قصبته ويدمي رئتيه، لجأ إلى خيمة تكاد تتسع لدجاجة، تمدد فيها إلى جانب طفله وزوجته، دون ان يجد مكانا لساقه داخل الخيمة لتبقى خارجها مطوقة بالصمت الذي يفرضه سلطان الجليد. 
انبثق البرد من تحت الارض، هبط من السماء، تقطر من جذوع الاشجار، لم يسمح لسپاسكو والاخرين الفوز بقليل من الدفء، واخذ يلدغ جلود هياكل بشرية لا شيء فيها يشير إلى الحياة سوى اصطكاك اسنان اصحابها الذين يعض البرد عظامهم،  جليد همجي يقتحم شرايين اجسام متعبة يحيل دمها الى بلورات صقيع، لتصبح قِطَع بشرية ممددة على الارض، تماثيل لا تجد من يشتريها.
قبل ان يغيب سپاسكو عن الوجود، لاحت له الحدود التي عَبَرها حيث كانت تنتظره هناك اسلاك شائكة وكلاب بوليسية وبنادق الجندرمة، تذكر الدول التي دخل إليها دون ترخيص، تذكر كم عذبه المهربون، تمنى لو أنه يستطيع نطق كلمتين ليعتذر من زوجته التي لم تكن تتوقع بعد رحلة عذاب ان ينتهي بهم المطاف في غابة غير ودودة، فيما هو يحتضر استغرب ان لا شيء حاضر هنا سوى عظام مجمدة واصوات طوقها الجليد تسأل الله عن طفل فُقِدَ في المساء، وكثير من الكلاب البوليسية مع شرحات لذيذة من الديمقراطية، أخذت دماغه تنقبض، عيناه دون حراك ترمقان طفله بنظرة جليدية، إلى ان أصبح كائن مع وقف التنفيذ، لا يقوى حتى على التفكير فيما إذا كانت زوجته ما زالت تحتفظ بقليل من الحرارة أم انها تجمدت بالكامل.
بقي الجنود على جانبي الحدود يتقاذفون فيما بينهم أجساد مجمدة، لم يدري اصحابها انهم بضاعة غير مرغوبة بها، يجب أن تُكَدس في الجليد، فيما زعماء كثر جالسون قرب المواقد يحتسون شاي ساخن وهم عبر الشاشة يتفرجون على كائنات غريبة ليس بينها وبين النجاة اكثر من متر واحد، ولكن ليس هناك زعيم لديه رغبة او حماس لعقد صفقات او مساومات لإيجاد تصريفة لهذه البضائع المكدسة على الحدود.  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

ربما هناك ما یرھب الشاعر عندما یكون شعره تحت مجھر الناقد وھذا لیس بالأمر الحقیقي ، فالشاعر یكتب القصیدة وينتهي منھا لیتحول إلى تجربة جدیدة ،حتى لو تصدى لھ ناقد وبرز لھ الایجابیات وأشار إلى السلبیات إن وجدت ، فلیس هناك غرابة ، فالتحلیل والتأویل یصب في أساس الواقع الشعري ،وكلما كتب الشاعر…

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…