القلب المتهم:

د. آلان كيكاني

للقلب في صاحبه شؤون.
هو يخفق دون إرادته معلناً الحياة، ويتوقف رغماً عنه مصرحاً الممات.
يحب ويكره على هواه، دون وعي من حامله، ويمرض ويبرأ دون استئذان منه.
القلب، هذا المتمرد، كثيراً ما يوقع رفيقه فيما يكره، بل ويجلب له المآسي والأحزان دون أن يعير اهتماما لعمره أو صحته أو موقعه الاجتماعي والسياسي أو منزلته الدينيه، فتراه يميل إلى هذا ويعرض عن هذا دون إذن من أحد، وكأنّ لا صلة بينه وبين من يضمره بين أضلاعه. 
وهو الذي أوقع الشيخ الجليل فقيه تيران في براثن الغرام وقاده إلى قرض الشعر ورماه في أتون الكآبة وقد بلغ الرجل من العمر عتياً وشارف على أرذل العمر. 
وهو الذي دفع قيس بن ملوح إلى الجنون هياماً بحب ليلى العامرية، فهام المحب على وجهه في رمضاء جزيرة العرب وصحاريها الشاسعة، يبحث عن أثر لها، ويقف على أطلال بيوتها مقبلاً مواطئ أقدامها وقائلاً : 
أمر على الديار، ديار ليلى …….وأقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي…. ولكن حب من سكن الدارا
وقد كان الشيخ الرئيس ابن سينا قد دُعي مرة إلى فحص مريض شاب في إحدى قرى بلاد فارس كان المرض قد أنهكه، وأقعده، وعجز الأطباء عن مداواته، فوضع ابن سينا اصبعه على موضع نبض المريض، وطلب من أهل البيت أن يعدّوا أحياء القرية، وعندما وصلوا في عدّهم إلى أحد الأحياء زاد نبض المريض، فطلب منهم الشيخ بعدّ بيوت ذلك الحي، وعندما انتهى بهم الأمر إلى أحد البيوت زاد نبض الشاب أكثر، فطلب الطبيب بذكر أسماء بنات ذلك البيت وعندما لفظوا اسم إحدى البنات وصل النبض إلى أقصاه، فقال ابن سينا: هي ذي مرض ابنكم إنه يعشقها، آتوه بها فيبرأ، فأتوه بها فبرأ الشاب وتعافى وكأن شيئاً لم يكن.
إلا أن القلب متهم بريء مما ينسب إليه، فهو من الجانب العلمي مضخة عضلية تضخ الدم إلى أنحاء الجسم وأحشائه لا أكثر، وليس له علاقة لا من قرب ولا من بعد بالعواطف والمشاعر، ولا بالفرح والتعاسة، وليس هو من يحب ويكره، وإنما كل هذا من اختصاص الدماغ، سيد الجسم المستبد والذي لا ينافسه أحد في القيادة والسيطرة، فمركز الوعي والتفكير والقرار موجود على متنه، وكذلك مواطن العاطفة والحب والغرام والكراهية والامتعاض والحقد والحسد وكل ما يمت بالسلوك هو من فعل الدماغ، أما تحميل القلب كل هذه الأعباء فهو كنايةٌ توارثتها الأجيال منذ القدم ويعود إلى العهد الروماني أو ما قبله. وحتى خفقانه في مواضع الإثارة يأتي بأمر من الدماغ.
وعودة إلى بدء نصحح ونقول:
للدماغ في صاحبه شؤون.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…