زهرة أحمد
إنها كنز البيت..!!
تكرر جملة والدها كلما عانقت نظراتها مكتبتها.
هكذا كان والدها يعبر عن فرحته، كلما يضع كتاباً في المكتبة أو عندما تأتي ميرا بكتاب جديد وتضعه في المكتبة، لتكمل رسالة والدها الكنز.
تحمل المكتبة نبض الكتب وهمسات الراحلين، مئات الكتب تتربع على عرشها في تلك الرفوف، عمر مكان البعض منها خمسة عشر سنة.
إنه ميلاد الكنز، ميلاد أول كتاب وضعه والدها في المكتبة، لا تزال تتذكره جيداً، غلافه، أوراقه الصفراء، حروفه الصغيرة التي تطبعت في ذاكرتها الطفولية.
لكل كتاب بصمة من أعيننا وأرواحنا، بين صفحاتها تعلقت أحلامنا.
كثيرة هي الأحلام التي لم تتحقق بعد ..!!
وحدها الذكريات التي بقيت تمثل غياب أصحابها، استوطنت بين الصفحات وأمكنة التاريخ.
إنها الذكريات حين ترمم خيباتنا.
تصفحت ميرا بعض الكتب، كانت السنابل الصفراء كما الأزهار اليابسة لا تزال تعبق بالأسرار بين صفحاتها.
إنه عطر الذكريات الفواح أبداً.
تذكرت أنها عندما قرأت الكتاب لوالدها، آخر مرة، فهي لم تنته من قراءته. بقي القسم الأخير منه.
تفاصيل ذلك اليوم لا تزال ماثلة في ذاكرتها. عندما أعطاها والدها الكتاب، كان عمرها آنذاك اثنتي عشر سنة، حضنته، قبلته، فرحتها تلك، لا تزال تنعش روحها، لتبدأ بشغف كبير قراءته لوالدها ولنفسها.
لكن؟؟
كلما تتذكر الكتاب، فهي تعيد البحث عنه في كل مكان، لكنها لما تجده بعد..!!!
لم يكن والدها يجيد القراءة، بالرغم من شغفه بالكتب، كانت ابنته ميرا تقرأ له جرائد الحزب والكتب التي يجلبها للبيت بكل سرية.
لم تكن تفهم كل ما يدور بين صفحات الكتب أو مقالات الجريدة الكوردية للحزب”البارتي” الذي ينتمي إليه والدها، إلا إنها كانت تحس بكل ما تقرأ، يعانق عالمها وعشقها لشعبها، والقيم التي تربت عليها، إنها تلميذة والدها ورفيقته في الحزب لاحقاً.
ما إن تنته من القراءة، حتى يأتي دور الأم وخبرتها في كيفية إخفاء الكتب والجرائد. كانت تخفيها بين الفرش المرتبة فوق بعضها بعضاً، أو تضعها في كيس قماشي تخيطه من بقايا الملابس القديمة، ثم تضعه في كيس من البلاستيك وتضع كل ذلك في حفرة في حديقة بيتهم، خشية المداهمات الأمنية المتكررة لبيتهم ولاجتماعاتهم الحزبية.
لذلك لم تكمل القسم الأخير من ذاك الكتاب، لتخبئه الأم كعادتها.
في مكتبتها تلك، خمسة كتب من تأليفها. تحس، الآن، بأنها تملك كنزاً ثميناً.
ماذا لو كنت كاتبة كل كتب المكتبة؟؟
تكرر ذلك لنفسها. شعور لا يوصف.
كمن يملك الكنز…!!!
الفضول يدفعها للبحث عن الكتاب في مكتبتها وبين أمتعة البيت القديمة وخاصة بعد انتقالهم من القرية إلى المدينة منذ خمس عشرة سنة.
تسأل والدتها عن الكتاب دائماً، إلا أن سنواتٍ من الألم والمآسي الكثيرة، مسحت جانباً من ذاكرتها.
لا تتذكر الكتاب ذاته. كثيرة كانت الكتب التي كانت تخبئها أو تدفنها أو تحرقها في التنور أثناء إعداد الخبز. فكان من الصعوبة تذكر ذلك الكتاب.
كان الطريق الترابية إلى القرية يذكرها بكل شيء جميل، فقد قررت الذهاب إلى القرية والبحث مجدداً عن الكتاب. كان الصباح في القرية أكثر سطوعاً. لم تنطفئ الصباحات بالرحيل. إنه عالم من الطفولة العابر للزمن.
مايزال الطريق محتفظاً ببقايا أنفاسنا، وقع خطانا، ضحكاتنا المشرقة بالرغم من كل الألم.
هنا كانت ملاعب طفولتي، هنا وهناك
هكذا بدأت ميرا تكرر لنفسها وتتذكر تفاصيل مشرقة من ذكرياتها.
تلك التي لاتزال تنبض بالحياة في أوردة يتدفق منها الحنين، لترمم الباقيات من الشوق.
كل لبنة من البيت المتهدم، كل ذرة تراب غيمت على مكانها، قصص مفعمة بمقدمات من الشروق، غير متشبثة بنهايات الرحيل، تحن إلى همسات لا تزال تنبض بالبقاء.
بيت متهدم خال إلا من الذكريات، صور متهدمة تكتملها ميرا في ذاكرتها، صمت دافئ بالهمسات تحضن ذاتها المغتربة.
أطلال متهدمة استبد بها الغياب، مسكونة بالألم كما الحنين.
ذكريات لم تغف بعد، ونادراً ما تغفو ..!!
تتخطى حدود الواقع في البحث عن الجمال، عن الطفولة في أبهى صورها، في استرجاع لحظات تبدو ستلازم الروح في زحمة من أعاصير الألم في تقويمها اليومي.
في زمن لا ينتهي فيه التقويم، يمتد للطفولة الحاضرة أبداً.
إنها الذكريات حين لا تقبل النسيان، ليبقى الجرح هكذا نازفاً بالأشواق، قصص بدأت ولما تنته.
تهدم كل شي، تغيرت الأماكن، لا شيء سوى الذكريات.
كأننا لا نسعى لإنشاء ذكريات لأيامنا الحالية،
هل سنكتفي بما لدينا من ذكريات، ربما كانت هي الأسعد.
كلما تذكرنا عالم السعادة، عالم الطفولة ونحن نخوض عالم آخر بعيد عنه، عالم يرزح في خضم الآلام، وهي تتلون بآهات الحاضر، لا شيء سوى اللون الرمادي.
إنه الألم الكبير ..!!!
هذا ما كانت تقوله ميرا لوالدتها دائماً، وما كانت تبوح بها ابتسامتها في لحظات التأمل في ثنايا البيت المتهدم.
تذكرت كل زاوية، كل شبر، من البيت، كانت رائحة الحصاد تعبق منها.
تراكمت الذكريات في ذاكرتنا لتتحول ذواتنا إلى ذكريات في تراكمها اللامتناهي.
توجهت إلى الحديقة بعد أن أزاحت الستار عن ذكريات عالم السعادة.
هكذا تسمي ذكرياتها في القرية.
كانت الأوراق الصفراء تفرش أرض الحديقة، بساط من الأحلام المتساقطة، والمعلقة بأغصان يابسة، تتهاوى كما أحلامنا، تتناثر هنا وهناك على عتبة المجهول.
الأشجار العارية، بانتظار ربيع يكسوها ببقايا من الأمل الأخضر.
على قارعة الاغتراب تشبثت جذورها بقوة، بحثاً عن ما يبقيها على قيد الربيع.
أما شجرة الزيتون الوحيدة في الحديقة، بقيت محتفظة بخضرتها، رغم الوحدة لا تزال تقاوم..!!!
سيمفونية الخريف، في لوحة بلا حدود، تعزف أفقاً للذكريات الخضراء في ذاكرتها الفتية.
تبحث هنا وهنالك تحت الأشجار وبين أوراق الخريف في كل زاوية كل شبر من حديقة بيتهم.
لعلها تجد الكتاب.
فقد قررت في نفسها أنها إذا ما عثرت على الكتاب أن تأخذه لقبر والدها وتكمل قراءة القسم الأخير منه عليه.
تحفر في كل مكان، لم تترك شجرة إلا وحفرت هناك.
كلما تحفر، تصطدم بالذكريات، تتوقف عن الحفر برهة، تبتسم، تعيد شريط الذكريات، هي فقط ما تجعلها تبتسم، ما تتذكره أكثر جمالاً من ما رأته وتراه من تفاصيل انهدامية واغتراب.
تجتر الصور القديمة لذكريات لم تكتب لها خاتمة، هكذا مفتوحة بالحنين وكل الشوق.
لم تمل من البحث، تعيده بعد كل ابتسامة.
لا تزال تبحث عن الكنز ..!!!
…………………………………………