ريبر هبون
“إلى محمود حسن برازي،عرفاناً له ولمن سار على دربه ولم يصل أكتب هذه القصة”
يتناول نفسه بكل أريحية بما تجود عليه ذاكرته المفعمة بالحكايا بما فيها من صخب وألم ، حياته غصص وعذابات ينهال عليها تذكراً وسرداً لحياة لا تفارقه رغم إقامته الطويلة في ألمانيا، يتذكر أيام كان في ليبيا، يتذكر مجدي الذي يضج حيوية ونشاطاً أما أبو هاموش غريب الأطوار يتدخل في كل شاردة وواردة ، وتشغله التفاصيل المتعلقة بسحنات الأصدقاء والمكان دوماً أما المعلم أمجد المغربي فكان رجل المهمات ، وهناك في المقابل منه معلم مالبور القادم من السويداء، وقد كان صبوراً ودقيقاً في عمله،
أما أبو علي المنبجي فمفعم بالخيال وقد امتلأ بالأحلام الساخرة فقد أراد أن يكون للبدو الشوايا دولة خاصة بهم، بينما المعلم اسماعيل عدنان رجل العمل والجدية، يناقش الأعمال في المساء وكأنه جنرال يخطط مع جنوده لما سيأتي من معارك قادمة، أما المعلم أغيد باكوكي فقد أذهله بحيويته ونشاطه، وقد عرف أيضاً المعلم سعيد الخبير في تنفيذ المشاريع المتعلقة بالحديد، أما المعلم كمال ومحمود السعودي فقد ظلا بمثابة قوات للنجدة السريعة والتي تسعف المتباطئين كي يتمكنوا من إنهاء عملهم بيسر.
دائم التعلق بالآخرين، وتتقاسم ذاكرته حياته الحاضرة فيقاسمها لأصدقاءه في العالم الافتراضي كأنما يحاول التخلص من جمرات تستوطن حنجرته التي باتت موقداً واسعاً للشجون والذكريات، إنه سجين الماضي دلناس الذي لا يجد من الحاضر سوى مضافة لاستقبال الطيوف والأشباح، وقد تعرّف حديثاً على جاره الصحفي السابق جيان في البناية المجاورة والذي يعمل حالياً كموزع بيتزا عبر سيارته ، وقد دوام بعد أن أنس بصحبته في المجيئ إليه عند كل مساء ليروي له قصصه التي تبعث على الشجون بدل من أن يقضي وقته في مشاهدة المسلسلات عبر اليوتيوب، منزل دلناس مكتظ بأصوات الأولاد وضجيجهم ، وقد أوجد لنفسه حجرة ضيقة لابأس بها سوى من رائحة التبغ والقهوة اللتين اقترنتا بأنفاسه وتلك الحجرة، على الطاولة جرائد يستخدمها لوضع الفنجان وأحياناً لجمع رذاذ أعقاب السجائر، وعلى طرفي الطاولة كتب مصفوفة على عجل فوق بعضها البعض، ملامحه الهزيلة وتجاعيد وجهه تؤرخان للعيون المقابلة ملحمة عنوانها البؤس والقنوط من أحلام وأمنيات لم تتحقق كأنه خرج للتو من
. كوباني، مدينته الصغيرة التي واجهت أعتى تنظيم إرهابي عابر للقارات
رحّب بجيان متوجهاً به لحجرته، فأشعل سيجارته قبل أن يشعل ضوء الحجرة، وجلسا يتبادلان الشرود
جيان بسحنته المرحه وعيناه اللتين تتفحصان يمنة ويسرة، كأنهما تبحثان عن شيء تجهلانه قاطعتهما نبرة دلناس
ماذا تشرب اليوم –
قهوة الحديث بلا شك –
نشرب قهوة سوداء إذن-
:ضحك بأسى
لابأس-
من أين أبدأ كل جهات الذكرى تقودني للدخول في أي معترك كلامي، مابين حاضر متخم بالتذكر وماضٍ لم يبتعد كثيراً-
حين كنت وقتها طالباً في الإعدادية، نتسلق الحائط الخلفي للهروب من اجتماع الشبيبة أو من الحصة الأخيرة للدوام المسائي، معبئون كنا بتلك الشعارات البرَاقة جداً في أن نتصدى للامبريالية واليوم نستجدي الامبريالية والرأسمالية كي تبقى بيننا، حتى لا
. يأتي الأتراك أو النظام السوري لتركيعنا وإذلالنا فهل شاهدت تلك المفارقة التي نعيشها
. حتى يدرك المرء الحقائق قد يدفع عمره لأجل معرفتها-
التبعية قتلتنا، جعلت من عقولنا حفراً للمراحيض، وقادتنا لمقاصل ذوي النفوذ والهيمنة كعبيد –
دعك من هذا الآن وحدثني عندما عدت من الجبال وأردت الانخراط في الحياة كبقية الناس حينذاك-
:بعد عودتي دعاني ابن عمي مروان لمأدبة عشاء وعند انتهاءنا بينما كنا نشرب القهوة المرة، كمرارة الحديث وقتها قال لي
لعمري لم أجد أغرب منك-
أين الغرابة-
لماذا عدت مجدداً، كان بإمكانك الهجرة والسفر بعيداً، أو البقاء هناك تعمل وتنتج وتجمع الأموال حتى تتمكن من جمع ثروة تصبح بعدها غنيا
تتحدث كمنطق الأطفال الآن، كيف ستكون الحياة فيما لو لم أعد للبلد، إن بقيت في جنوب كوردستان ستكون تهمتي أني –
انضممت للبارزانيين بعد أن سرقت من الثورة أو خطفت أحد الرفيقات وهذا أحسه أصعب من العار نفسه، لكني أرى
. عودتي أفضل لأني سأكتفي بعيش تهمة خيانة الثورة وترك الميدان للثعالب دون سواها من تهم
منطق التخوين يلازم الحزب فأنت خائن بكل الاحتمالات-
:هنا تسمّر جيان بملامحه وأردف قائلاً
أعلم أنك لن تستطيع بيسر الفكاك مما مررت به، لأن ذلك يبدو صعباً، فقد وهبت حياتك ثمناً للحرية، وبالكاد خرجت من تلك المعمعة وأنت مثبت الأجزاء ، أما غيرك فقد خرج منها إما معاقاً أو مبتور الذراع أو الساق، إن الثورات على طول تلك الرقعة
. الشرق أوسطية جعلت من نفسها مصيدة لجمهور العاطفيين والشباب ذوي الطاقات والدماء المغلية
عبارة ابن عمي مروان أحدثت داخل قلبي ثقباً دائري الشكل يتسع لرصاصة سميكة الحجم تناسب حجم ذلك الثقب المحدودب-
حين قال لي
فقدت من عمرك 18 عشر ربيعاً لأجل لا شيء، الذين في مثل سنك أولادهم فتية يعملون بالنيابة عنهم وهم يجلسون متربعين في بيوتهم، بينما أنت ستبدأ لتوك مسيرة الاستقرار من زواج وإنجاب وما شابه ، بعد كل تلك التضحية هل ستجد من أحد بإمكانه أن يقرضك ثمن دجاجة؟
فقدت والدتك أحد عينيها لشدة حزنها وبكاءها عليك حين ذهابك للجبال، أما والدك فقد باع ما يملكه كي يؤمن مصاريف أخوتك
. الدراسية
:أجبته غاضباً
.لقد ذهبت لأجل الدفاع عن شعبي ولم أرتكب أي عار ، لم أسرق أو أغتصب-
هنا قاطع جيان صمت دلناس لبرهة
يبدو أن ابن عمك فهم طريقة تشكل عقول المحيطين بك، فكأنه قال لك أن الناس لا تؤمن بشيء يخلصها من بؤسها بقدر ما يهمها طريقة عيشها كيفما اتفق، فهي لا تهتم بالقضية التي نذرت لها حياتك والتي تخص تحريرهم مما هم عليه من بؤس وعطالة في
. الفكر
أخذ منا الحديث مبلغاً من الوقت علي الذهاب الآن، غداً سأصحو باكراً لمحل البيتزا، تصبح على خير
.وأنت بخير-
لم يعرف النوم طريقه لأجفان دلناس تلك الليلة ، وحاول دون جدوى طرد الألم الذي لم يبارحه، تذكر وداع عائلته في أحد أيام عيد الفطر السعيد، وحين عودتهم من المقبرة صباحاً ، فقال لهم أنه ذاهب للالتحاق لصفوف الثورة ،اعتبروني ميتاً من الآن فصاعداً
تذكر كلمة والدته : لتكن طريقك مفتوحة يا ولدي
بينما راح والده يهمّ بعناقه فسقطت دمعة شرهة شرسة كبيرة الحجم من عينيه على جبينه الغض وقال له
.ليكن الله معك أينما حللت بني
ابن العم مروان قالها والدمع يغالبه حينها
.وداع محرق للقلب في هذا الصباح الميت حزناً لقد شويتم روحي
:رفع صوته العميق البعيد العابر أطوار الزمن
والديّ، أماه، أخوتي ابن عمي، أبناء قريتي ووطني، أيها الكون الواقف فوق صدري
تهاوى قطار الأمل وحاد عن سكته، أقولها بكل أسف
شعر دلناس بأن دمعة كالتي سقطت من عيني والده نحو جبينه تحاول الخروج من سجن عينيه إلا أنها أبت أن تنهال، وإنما بقيت
. داخل محجري عينه اليسرى جهة القلب تحاول السقوط ولا تسقط،