حمود ولد سليمان
غيم الصحراء
بروح فلسفية ظمأى للمعرفة .تبحث عن المعنى وتتوق للمطلق وتعانق الوجود . كل الوجود .وتبحث عن خلاص الإنسان في عالم تحكمه سلطة الأقوياء. وتتصارع فيه العصبيات العرقية والدينية والمذهبية وتتناحر الأيديولوحيات . يصوغ ريبر العالم ويصهره في “الحب وجود والوجود معرفة “بفكر ورؤية شاعر
مرهف الحس .مجبول علي الشعر .وبالشعر وللشعر . واثقاً من طريقه وخطواته ولغته .إلى الينابيع .”تحمله الجياد إلى أقصى ما يهفو إليه قلبه .وتقوده على الطريق الخصبة بوحي من الآلهات ..وتخترق به كل المدائن “(1)
على خطى بارمينيدس “نبي الأنطولوجيا “كما سماه نيتشه .
المعرفي الكبير يعلل الوجود .فيراه ذاتاً من ذاته و يحمله في كيانه .كدأب أسلافه الشعراء .كما قال الشاعر التونسي الخالد
أبدا يحمل الوجود بمافيه
كأن ليس للوجود زعيمه .
برؤاه الشعرية والفكرية سعياً نحو السعادة مراهناً على أن الفكر الذي يعول عليه هو ذاك الذي يقدم “راحة كبرى للروح المتعبة ” (2)
في كتابه الجديد “الحب وجود والوجود معرفة، يقدم ريبر هبون رؤيته الفلسفية الفكرية للعالم من خلال جدل الحب وجود والوجود معرفة .ويستكمل مشروعه /الأدبي /الفكري / الذي أعلنه مع بداياته الشعرية .فيدعو لتمجيد المعرفة والإحتكام لها وتنظيم المجتمع بشكل عقلاني وتكوين رابطة بشرية جامعة لكل المعرفيين في العالم .ذالك أن المعرفة هي البديل عن التعصب الديني والمذهبي والعرقي والإفلاس الأيديولوجي .إنها الحالة الطبيعية التي تستطيع إن وجدت أن تتماشى مع الطبيعة الإنسانية في توافق تام . ويراهن على المعرفة كسلاح قوي له نجاعته في كل الأزمنة وعلى المعرفيين كبناة للعالم .فاعلين ومؤثرين في حركة التاريخ .ويدعو مع ماركس إلى التغيير منتقداً الفلاسفة الذين وقفوا عند محاولة تأويل العالم وفهمه بدلاً من تغييره ، بروح قريبة من الرؤية الصوفية وهي: “ليست انعكاسا مرآوياً للواقع بل هي تجاوز له وتجاوز للوعي نفسه إنها عملية خلق جديد لهذا الواقع “(3)
ومن خلال الحب وجود والوجود معرفة تبدو ظلال هيجل وارفة للعيان في الجدل الذي يرى أن العالم كله صيرورة، أي في حالة حركة وتغير وتحول وتطور دائم.
وفي منطلقاته ورؤيته للتاريخ والإحساس بالتاريخ وكأنه يردد مع هيجل أن” تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية ” (4)واعتماده على مبدأ “أن كل ماهوواقعي فهو عقلي وكل ماهو عقلي فهو واقعي وهذا معناه أن ليس هناك شيء في الوجود
. لايقبل التفسير بالعقل
و أن الحركة في الكون وصيرورته خاضعة لقانون حتمي يتجه إلى أعلى مراتب التقدم الى قمة التطور.إلى تحقيق المطلق.أي تحقيق العقل الكلي (أو الفكرة أو الله )في العالم وتحقيق العالم في العقل “(5)
ويدعو للدولة التي تقوم علي التنظيم العقلاني للأخلاق والمؤسسات الإجتماعية . منتقداً الدولة الشمولية والتي هي قمعية استبدادية . واحلال السلطة المعرفية محلها على اعتباراتها تختلف عن كل السلطات الإستبدادية .الأسس والغايات والمنطلقات التي يعتمدها ريبر في كتابه متشعبة .ليست واضحة بشكل محدد وأحيانا يكرر نفس المقولات والأفكار التي قالها سابقًا
فهو ينتقد الإيديولوجيا ويمجدها وينتقد الدولة الشمولية ويقع في الشمولية عندما يمجد المعرفيين .وعنده ان الفكر هو الأساس وكذالك الصراع الثنائي ويدعو لجمهورية افلاطونية معرفية
المهاد الدلالي ل “الحب وجود والوجود معرفة ” جعله الكاتب
متناغماً مع مهاد النظرية .الذي يتخذه موئلا لتأويل العالم وفهمه من جغرافيا الشرق الأوسط وتاريخه وهوياته وبالأخص القومية الكرديه بكردستان بين العراق وسوريا
. وتركيا وايران
يهفو ريبر إلى الحرية دائماً ويتغنى بها .والحرية التي ينشدها هي التي تتحقق بالمعرفة المطلقة معرفة الذات
أنا ظامىء،وخطاي تهتف للمياه
تروح تنهل حكمة الينبوع
أنا كالنبي المرتجي عطف الإله
أسير في دربي بصبر يسوع
وأضيع عبر معالمي متدلياً
كالموت أصهل متخماً بالجوع.(6)
ًوبحسٍ وجودي يتحد مع العالم يخاطب الكيان قائلا:
أدعو لإنسانية الإنسان أن
يحيا النقاء يضيء كل سواد
لم يفتح التاريخ يوماً صدره
للعاشقين لغاية الإنجاد
بل كان دوماً عابراً بمرارة
للضائعين وكان بالمرصاد
سيكلم الينبوع أعماق المدى
عن كل مأساة وكل جماد
عن قهرنا المسكون في نبضاتنا
وضياعنا بمتاهة الأوغاد
أنا ثورة للغارقين كآبة
أنا بلسم للعاشقين وهادِ
سيكون ذاك العشق أعظم ثورة
تشدو لها الدنيا بكل عناد
إني نصير الحب في زمن الدجي
ومناهض لخرافة الأجداد
أدعو لمجتمع طبيعي الرؤي
فيه نحقق حلم كل مناد (7)
قدم ريبر” الحب وجود والوجود معرفة” في ثمانية فصول :
_العقل المعرفي الشرق أوسطي بمواجهة التجهيل
_الإرادة المعرفية في مواجهة القمع
_الإرادة المعرفية في مواجهة الإسلام السياسي
_الإقتصاد في خدمة الوجود
_المعرفيون في كوردستان الشمالية
_المعرفيون واشكالية الحرية
_حرية الفكر المعرفي بمواجهة التجهيل الممنهج
_حول الشرق الأوسط وسبل الحل
في تمهيده حول الإحساس بالوجود أصل المعرفة أو العالم
يقول الكاتب “أول مايعيه الكائن الحي إدراكه للوجود والإنسان يدرك ذاته من خلال الوجود فهو الأرضية التي ينشأعليها المجتمع وفيها يستقي معاييره ومثله من الرابط الأوحد الذي يربط الإنسان بالوجود قبل إكتساب الأشياء وهو إدراك الحب عبر نموالإحساس ” (8)ومن هذه العلاقة القوية بين الكائن والوجود والتي تتطور لتتداخل فيها عوامل كثيرة أكثر من منشأها النفسي لتصبح وجودية وسياسية وتاريخية وثقافية .يسعى ريبر لإبراز الصراع الذي يخوضه المعرفيون في هذا الوجود .وفي علاقة الذات /الفرد بالمجتمع يحفر في تاريخه الذاتي في الفصل الأول /العقل المعرفي الشرق أوسطي بمواجهة القمع /مبرزاً تشكلات الخراب الفظيع في المنطقة الشرق أوسطية وفي الفصل الثاني يبين مدى قوة الإرادة المعرفية وكيفية مواجهة القمع .محللأ أسباب الصراع مراهناً على المعرفة في مختلف مساراتهاوفي أكثرها ذاتية /الكتابة الأدبية التي لاتغدو هروباً من الواقع وانما تجاوزاً له عبر الحلم والأمل والتأمل .وهو بهذا يسعى أكثر لإبراز أهمية الوعي الذاتي في كل فكر ًويصبح الموت والذي هو مشكلة فلسفية وجودية /فيزيائية .يصبح نضجاً وسبرا لغور المعرفة باعتباره وعياً ذاتياً .
الموت الشرق الأوسطي بين حضارات متعددة . وهو الموت الذي شكّل وعي
. كلكامش الوجودي بطعم مختلف .وبحساسية صراع الحضارات.
في الفصل الثالث /الإرادة المعرفية في مواجهة الإسلام السياسي
يتناول العنف في المنطقة ويرده إلى التطرف ويربط بين التطرف الإسلامي والقومية “المتعالية ” ورغم وجاهة مايقدمه من حقائق مع ذلك أحياناً يتحامل متناسياً حركة التاريخ وصيرورته ويحمّل الدين وزر كل شيء.رغم أن هناك أسباباً كثيرة باعثة على الصراع .كاختلاف الحضارات والثقافات والإستعمار ومخلفاته والسعي والتنافس على الثروات في المنطقة ثم إن الديانات في الشرق الأوسط عديدة وليس الإسلام وحده هو الذي تدينه شعوب الشرق الأوسط فهناك المسيحية وغيرها والكاتب بالأساس يركز في انتقاده علي العنف في الاسلام السياسي .ثم ان أسباب العنف كانت منذ احتلال اسرائيل للمنطقة العربية وقبل نشوء الجماعات الإسلامية
. بعقود من الزمن .
في فصل الإقتصاد في خدمة الوجود /يدعو الكاتب إلى الفكرة
التي “تنتج الإبداع والجمال والخير الذي لاينضب وتنشد الحب الذي هو الممهد الأساسي لتبلور الفعل الإنساني الذي يعم فضله على الوجود بأسره نحو مذهب الإقتصاد في خدمة الوجود القوي الذي يساهم في إرساء الأمن والسلام “(9)
ويدعو إلى قيم المدينة الفاضلة عند افلاطون ويدعو المعرفيين إلى الإتحاد وتنظيم
. المجتمع بشكل عقلاني
وفي الفصل الخامس والسادس ومن خلال صراع الهويات يدعو إلى تأكيد الذات مبرزاً أهمية الوعي الذاتي .ومن خلال جدل الحرية يدعو جميع المعرفيين إلى
. التحرر المعرفي والفكر المستنير لصناعة المصير.
في الفصلين الأخيرين /يقدم الفكر المعرفي في شموليته حلاً وبديلاً في مواجهة التعصب الديني والتطرف وفشل الأيديولوجيات وقمع الديكتاتوريات وأستبداد السلطات فلا خلاص للإنسانية من الويلات والحروب والمجاعات والصراعات
. والعبودية والجهل إلا بالفكر المعرفي
عبر” فرضية الحب وجود والوجود معرفة “يدعو ريبر لمجتمع عضوي مترابط لايستغني أحده عن الآخر.ويحاول تطبيق مفاهيم فلسفية مجردة دون النظر في الإختلافات الكثيرة بين المجتمعات البشرية فهل من الممكن أن ندعو إلى جامعة بشرية وفق هذا التصور ؟وهل من الممكن أن تختفي كل الفروق بين الثقافات والديانات والشعوب ؟ في إطار معرفي واحد يجمعها من الشرق إلى الغرب ؟وهل يمكن للمعرفيين أن يتحدوا في ظل سلطات لا تقيم وزناً لهم ؟وفي مواجهة قوة أكبر منهم
أخيراً نقول إن الكاتب وإن كان يفتقد لأسس صلبة في بناء نظريته فإن ذالك لايقلل من أهمية كتابه وحسبه أنه أشار إلى أبعاد كبرى هامة جداً .واجتهد ثم إن مسارات كل الفكر الإنساني من بدء التاريخ إلى اليوم كلها نظر وتأمل .يظل يتراكم ويتطور
. عبر الممارسة والتجربة .إلي إن يصل إلى المبتغى المنشود.
في الحب وجود والوجود معرفة .تتجاور كل الثقافات والأمم والجغرافيا والتاريخ .ويؤثث الحب كل الوجود .ويحظى المعرفيون الفاعلون المؤثرون في حركة التاريخ بالتقدير خصوصاً الذين عاشوا مصائر تراجيدية سقراط والحلاج وذالك لأن الكاتب يرى في التضحية سبيلاً وغاية لابد منها لتطور التاريخ وقيام الفكر المعرفي .
الحب وجود والوجود معرفة هكذا تكلم ريبر هبون
وأنا أقرأ الكتاب لفت انتباهي قوة الإنفعال الوجداني وإحساس المقموع الذي يجعل
. الكتابة أحياناً لاواعية .
وحدة النبرة الرسولية التي لاتفارق الكاتب حتى ليخاله المرء مثل زرادشت نيتشة رغم الإختلاف بينهما .هابطاً عند سفح الجبل ممسكاً عصاه وعلى كتفه حيّته ونسره
. مردداً عظاته على تلاميذه
هكذا ريبر يبشر بالإنسان المعرفي ويتوق للمجتمع المعرفي حلم الإنسانية في مراياه
. الثلاثة المتماهية /الحب /الوجود /المعرفة
هوامش :
قصيد بارمنيدس /ترجمة يوسف الصديق .دار الجنوب /تونس .ص 121.والأبيات المشار إليها :
“هزتني الجياد تحملني إلي أقصي ما يهفو إليه قلبي.حين قادتني علي الطريق الخصبة بوحي من الآلهات تمتد مخترقة المدائن كلها”
(2)عزاء الفلسفة/بوئثيوس/ترجمة د /عادل مصطفي/رؤية للنشر
2008.ص 126
(3) مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف/حميدي خميسي/دار الحكمة .ص .7
(4)مقدمة قصيرة جدا /هيجل /بيترسينجر/طبعة أولي.2015/مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة /ص38
(5)تكوين العقل العربي /محمد عابد الجابري .مركز دراسات الوحدة العربية .ص.22و23
(6)صرخات الضوء/ريبر هبون /ط أولي 2016.نون للنشر /حلب .سوريا .ص 38
(7)صرخات الضوء/ ص .74و75
(8) الحب وجود والوجود معرفة /ريبر هبون /لوتس للنشر الحر
2021/ص 11
(9)الحب وجود والوجود معرفة /ص 120