أو التاريخيَّة أسرارَها في السّويداء وإحدى قراها مرج الكعوب، ودمشق، وبيروت، ولاغوس،
ورومانيا، وأمكنة تاريخية أخرى في أزمنة مستعادة عبر شخصيتي نجوى وسالم الأخوث.
وعلى رحى الأيام تدورُ الأحداثُ فتفضحُ قباحةَ صور الطَّاحنين؛ الأب مرهج
أبو شال، والأم ذهبية، ووالدها عزّات، والأخ صالح أبو شال، والأخوات، والزوج خليل
أبوشال، بل وحتَّى الحبيب ناصر وأمّه، ونساء أخريات يصمتن على ظلمهن وعلى إذلالِ
بناتهنَّ بأغطية العيب والخوف والجهل الديني والأخلاقي، فلا كرامة في بنيةِ
مجتمعاتنا الذكورية لجسد ولا لعقل، بل هما مسخران لاقتنائهما واستعبادهما، وحماية
الجناة بسيف قانوني بيد سلطات قمعية.
ومن الجَريشِ المقشور نتبين ملاحةَ الصُّورِ الإنسانيَّة الهشَّة لأناس توَّاقين
إلى ما يروي ظمأ أرواحهم وأجسادهم، وإزالة الجفاف عن وجودهم، الفردي منه والعام. ولأنَّهم
ملحُ الحياة، تعلو أصواتهم من العطش، همسا أو صراخا، أو جنونا. وعلى الرغم من
آلامهم وقلَّة حيلتهم إلا أنَّهم العمادُ الذي ترتكز عليه البنيتان الروائية
والحياتية، ومن أبرز هؤلاء الأحرار فكراً وروحاً وجسداً؛ حياة أبو شال، وسلامة،
وسالم الأخوث، ونجوى، وزين المحضر، ورجاء، وناجي، والراهب وطفا.
في الحكاية حكايات، وبدلاً من الدهليز الافتتاحي تتفتحُ الروايةُ مع كلّ
سردٍ متناوبٍ بدهليزٍ جديد. وبمهارة تخفّفُ الدكتورة عبد الصمد من وطأة القهر في
التفاصيل، بأغنية شعبية أو بسرديَّة شفويّة سريَّة ترويها النساء للبنات، أو بفسحة
شعريَّة مما يفيضُ به الوجدان.
على الضفَّة الأُولى للرواية اقتباس له دلالة للشاعرة
البلغارية بلاغا ديمتروفا:
” أن تكوني امرأة، هذا ألم. تتألمين حين تصيرين
صبيّة، وحين تصيرين حبيبة تتألمين، وحين تصيرين أمّاً..
ولكن ما لا يطاق على هذه الأرض هو أن تكوني امرأة لم تعرف هذه الآلام كلها”.
وعلى الضفَّة الأَخيرة تشفُّ الأحاسيسُ سحراً وترانيمَ وشعراً من دفتر الـ
(حياة):
“أنيقاً تجلس، كوابل الشهد، تقول كلمة واحدة: “عطشان”!
تنفرط حلوةً كحبة رمان، رمان تشرين الذي أحب، رمان صدري الذي على انتظار، رمان الوعود
الباذخة.
تضمّ كأس الماء الذي شربتُ نصفه، تخمش قلبي بفرحةٍ
مباغتة، ترشف نصف
كأسي حتى القطرة الأخيرة، وأرشف رجفة صوتكِ في
لفظ: (عطشان) أشفَّ من طعم قبلةٍ طويلة. لو من يدي أسقيك كمشة ماءٍ مجبولٍ بتميمةٍ
تبقيك قربي إلى الأبد”.
وبين استهلالية تحاول أن تقدم المفاتيحَ الأوليَّةَ للأبواب المغلقة تجنّب كسرها،
وبين ترنيمةٍ تبدو مشرعةً لفضاء بهيّ على الحب، تقطبُ الكاتبة نجاة عبد الصمد
ندباتِ فصولِ المعذَّبين على الأرض، وبالقرب منها “حياة” الفتاة التي
أرغمت على الزواج من خليل بعد سفر حبيبها ناصر إلى بيروت، والتحاقه بمنظمة التحرير
الفلسطينية، ومعاناتها منذ الطفولة، إلى تتالي أيامها في بيئة نمَّامة، تتوارث
الأجيال فيها النقيضين معاً، حُسْن المضافات وتعليق السيوف بها، وسوء أن يكون
الغمد أجوف بلا سيف، أو أن تتجاور على حيطانها صور قائد الثورة السورية الأولى مع
صور مجرمين طغاة وقتلة ولصوص! ومن خلال
“حياة” تتناسل الخيوط لتنسج شخصيات بمعالم إضافية. وعلى ترقب بعودة ناصر
تظل “حياة” وفيَّةً، غير أنه ما إن يعود ويلتقيان خلسة، ويتواعدان على
الرحيل باكراً، حتَّى “يسبق خوفُها وجبنُها رغبةَ القلب” فتخبرُهُ
بالبقاء أرضاً (مع أبنائها وأبيهم على الرغم من معاناتها معهم) وحبّا (دائما له،
يتجاوز الأمكنة في كل الأزمنة).
أكانت قطراتُ اللقاء كافيةً للارتواء؟ تقول حياة: ” أعود إلى بيت خليل
مثقلةً بمتاعٍ حملتُه وآخر سأتخيّله. سيغمى عليّ من ثراءٍ فاضح هبط فجأةً، هديةٍ من
أُنسيّ وهبني في لقاءٍ واحد ما لم يستطعه جنيّ خليل في سنين”.
وفي بوصلة “لا ماء يرويها” الخفيَّة، يأتي العطش الثّيمةَ
الأساسيَّة، وهو ليس ابتغاءَ وصال، وإن حرمت منه على مضض، وأجبرت على مالا تحب من
الاستباحة في قفص الذكر الزوج! هو أيضا “عطشها الصرف، عطش الشوق”، وهوعطش
الجار أبو إبراهيم العائد من عمله بعد المغيب، وقمع الأم للـ”حياة” حين
حملت الابريق لسقايته! هو عطش العقل للتحرّر من الجهل والخرافات للانفتاح على
الآخر والمختلف، وعطش المجتمعات للتخلص من عادات السوء والكراهية، هو عطش للتعامل
مع جوهر الإنسان من دون التمييز في الجنس والدين والطائفة واللون، مما يذكرنا بإبجديات
ثورة السوريين وصرخة القهر فينا: ” أنا إنسان.. ما ني حيوان”. عطش ليس
فرديا إلى الكينونة فحسب، بل عطش الناس والبلاد معاً إلى الحرية.
“مضيتُ في حلم العيش، لصقك، أحاذيك
امرأة عاشقةً وإنسانة وحكيمة، أطمع أن أكبر بك، أُهذّب لساني،
أهندس حديثي برفقتك، أصادق عقلك ووعيك وحنكتك، وأفيض
حبّاً يكفي جميع محبيّ ومحبيك.”
ما لم تقله الروايةُ تقريريَّا، وليس مسكوتاً عنه، بين عامي 2011 و2016
موجود في ثناياها، ذلك أن الكاتبة التي وازنت بين المسارين الفنيّ والوثائقي تطرقت
إلى الخراب الممتد منذ سبعينيات القرن الماضي والذي ينسحب إلى اليوم، وأشارت بوضوح
إلى ما أفسده ودمره النظام وأجهزته الأمنية في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية.
من خاتمةِ العطش إلى بدايتهِ يمكن تتبُّع أثر الآبار، ونضيفُ إلى الأماكن
أمكنةً أخرى نتبين فيها انفتاح جنديين في الخدمة الإلزامية على ذكريات أجدادهما في
السويداء وحماة، ثم تمسّكهما بعرى صداقتهما، وعملهما بعد تسريحهما معا إلى حد السَّند
للسَّند. ومثل هذه الجزئية وغيرها تحيلنا إلى سؤال حول العنوان لما لم يكن ملحقاً
بإشارة تعجب؟ وفي المتن جميلُ الإجابات. الحب وحده من يروي عطشَ القلوب، حسّيّا
كان أم صوفيّا.
1- نجاة
عبد الصمد، طبيبة توليد وجراحة نسائية وكاتبة ومترجمة ولدت في مدينة السويداء في سوريا
عام 1967، ومقيمة حاليا في ألمانيا. تخرجت في جامعة دمشق وحصلت على إجازة في اللغة
العربية وآدابها. صدر لها أربع روايات:
بلاد المنافي، دار الريس – بيروت، 2010 غورنيكات سورية، دار مدارك
للنشر، 2013 في حنايا الحرب، دار مدارك للنشر،2015 لا ماء يرويها، منشورات ضفاف،
2016. ولها ترجمات عن اللغة الروسية: مذكرات طبيب شاب – للكاتب ميخائيل بولغاكوف، دار
الطليعة الجديدة (الطبعة الثانية)، 2005 – مشترك مع أسامة أبو حسن وثائر زين الدين. الجمال جسد وروح للكاتبة
فاندا لاشنيفا، 2015.
2-
منذ لقائنا في
مهرجان طرطوس الأدبي منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتزاملنا في الجامعة، إلى أن تواصلنا كل من منفاه حين أرسلت
لي صور قصائدي الأولى بخط يدي على دفترها، ونجاة عبد الصمد ما تزال الصديقة اللطيفة
المميزة بثقافتها وجرأتها. وفي روايتها ينعكس هذان الظلان معا، كغصني رمَّان يترافقان،
ويتجاوران، ثم يتقاطعان عند وجود الماء في جوف الأرض.