سوسن إسماعيل
” إنّني أرسمُ ذاتي؛ فأنا الكاتب وموضوع الكتاب”
مونتاني
اعتنت الكثير من الدراسات القديمة والحديثة بمفهوم (السّيرة الذّاتية)، بالبحث والتقصي في هذه الظاهرة القديمة/ الحديثة، وتناولها النقاد بالتفسير بغيّة إجلاء الغموض وكشفه في هذا المفهوم، بعد أن كان جلّ اهتمام النقاد وانصرافهم إلى البحث في الأجناس الأدبية الأخرى، فكان لابُدّ من توجيه النقد إليه، وتناوله بالدراسة والتحليل، كجنس أدبي أو كصنعة أدبيّة تتصدى القراءة لإشكالياته وأوجه التشابه والاختلاف بينه وبين بقيّة التراجم الذاتية والأجناس الأخرى المندرجة في سياق الفن السردي.
إلى هذا لم يتفق النقاد العرب حول مفهوم السّيرة الذاتية، ولعلّ المتابع لحركة النقد ومبادراته، سيكتشفُ افتقار المشهد العربي النقدي للدراسات والأبحاث التي تتناول السيرة الذاتية نقداً على نحو عميق بعكس ما نرى في المجال النقدي لدى الآخر. إنَّ البحثَ في السيرة الذاتية هو البحث في الكيفيّة التي تجري وفقها العملية الإبداعية والكتابيّة لدى كاتب السيرة الذاتية، أيّ ماذا يقدّمُ المؤلف/ السّارد لقارئه، هل ثمّة مضامين وإرشادات من وراء هذه السّيرة، فالبحث في أسئلة السيرة الذاتية، تنطوي على مفارقات وشيء من الإشكاليّة، لذلك ستروم الدراسة مقاربة نص إبراهيم اليوسف: “ممحاةُ المسافة، صور، ظلال وأغبرة”([1]) نموذجاً للقراءة وفق محاور ثلاثة:
أولاً ــ السّيرة الذّاتية:
1: التعريف والمجال:
لغةً: اسم مصدره سارَ، والجمعُ منه سيرات، وسِيِرَ، أو هي الطريقة التي تتناولُ تاريخ حياة شخص ما، والسّيرة تعني لغة (السنة) أو (الطريقة) أو (الهيئة)([2]).
مصطلحاً: تقولُ ميري سوكالاك Mary Sue Carlock “لقد وظّف كل دارس هذا المصطلح وفقاً لمقاييسه الخاصة أو وفقاً للدلالة التي قام بتعيينها هو لهذا المصطلح … لذلك يحتوي هذا الكم من الكتابات العلمية على شهادات متناقضة حولَ ماهية المفهوم الذي يشكل السيرة الذاتية الجيدة”([3])، فأغلبنا يعرّفُ السيرة الذاتية؛ من حيث هي تناول الشخص لذاته، بالحديث والكشف بواسطة الكتابة عن عوالم الذات. والكثير من المشاهير والمبدعين والكتّاب تناولوا حياتهم وشؤونهم وإبداعاتهم للعلن، فقدموا نتاجات إبداعية/ سيّرية/ أدبيّة عاليّة، فمن الصعوبة ضبط المصطلح الخاص بالسّيرة، وذلك لكثرة الآراء التي تداولها النقاد والباحثين، تقول الكاتبة هيدي ستل في تعريفها للسيرة الذاتية بأنّها “تسجيل استعادي صادق لعمر أو على الأقل لعدد معتبر من سنيه من الخبرات والأفعال والتفاعلات وتأثيراتها الفورية والبعيدة المدى”([4])، وفيليب لوجون الذي عُرفَ بأنّ تعريفه ربما من أكثر التعاريف التي اعتمدها النقاد، يقول “هي حكي استعاديّ نثري يقومُ به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة”([5])، ولكنه فيما بعد تراجع عن هذا الحدّ الذي اكتشفَ فيه أنه بين الفرضية النظرية والإثبات النظري ثمة خلط، كما أن تينيانوف Tynianov، فقد أطلق عليها (الخارج الأدبي)([6])، أمّا العرب في تعريفهم لفن السيرة الذاتية، فلم يتناولوا تعريفاً معيناً في دراساتهم وأبحاثهم، فهم يتفقون على أنَّ السيرة هي “كتابة الشخص لقصة حياته”([7]) فإحسان عباس؛ إذ يركز على توافر عنصرين هامين في فن السيرة/ الكتابة الذاتية؛ هما (التعري) و(الثورة)([8])، ولذلك فمن الصعوبة ضبط المصطلح الخاص بالسيرة على نحو دقيق.
2: الأسرودة الذاتية والجنس الرّوائي:
من خصائص الكتابة الذاتية (ومنها السيرة الذاتية)، هي بروز قصدية الكاتب في الكتابة، أي أن يشيرَ بأن عمله ـــ كما في حال النص الذي بين أيدينا ـــ هو عمل سردي، وهذا ما كشفه لنا غلاف الكتاب، بأن دوّن الكاتب وأكّده عبارة “أسرودة ذاتيّة”، كما أنّهُ أشار في بداية المُنجز إلى السبب والدوافع إلى كتابة سيّرته الذاتية:” هكذا أقفُ في حضرة حبل بداياتي العلني، اتتبعُ مظانه، بعد أن دفعني إلى هذه المغامرة صديقي الباريسي، مراراً منذ وقت طويل”([9]). ويعدّ الاعتراف من قبل كاتب الأسرودة أحد المكونات الأساسية في السيّرة، حيث إنَّ كاتب الأسرودة، يعترفُ بأن ما سيكتبه لاحقاً هي الحقيقة، وإنّ الأحداث المذكورة هي اللاعب والجزء الأساسي الفاعل في السرد، بتعريته وكشفه إلى حدّ ما للكثير من الخبايا الاجتماعية، السياسية، والعاطفية: “لا شيءَ لدي لم أقله، حتى بعض ما وراء ورقة التوت ..!”([10])، وعليه يتأكد “العقد القائم بين القارئ والكاتب”([11])، “هل هذا كل شيء؟ مؤكد، أن الجواب: لا، هل هذا هو أنت؟ مؤكد، أن الجواب نعم”([12])، ربما ليس من السهولة ــ وهو أمر شائك ــ أن يبتَ القارئ أو حتى الناقد فيما يخصُّ أوجه الشبه أو الاختلاف بين مكونات الرّواية كجنس أدبي بموازاة السيرة الذاتية التي لا تختلفُ عنها في الكثيرات من المرتكزات السردية، فكلتاهما الرواية والسيرة يتكىء فيه المؤلف على شيء من الذاتية إلى جانب الموضوعيّة والخيال، يقول فيليب لوجون “تكون الرواية أكثر صحة، أكثر عمقاً، أكثر حقيقة من السيرة الذاتية”([13])، ربما يكون هناك شيء من المزج الإجناسي بينهما، فالشخصية/ البطل في الرواية يسير وفق نسق وخط واحد مع الأحداث ومع تعاقبها أو تسلسلها أو حتى في تقاطعاتها، كما أن الكتابة بضمير المتكلم هي خاصية في السيرة الذاتية، وسبقت الرواية في ذلك، وقبلها في المذكرات. والمكان في الرواية ليس طارئاً كما في السّيرة، إنما ضرورة من ضرورات الرواية، حيثُ يشيرُ الروائي إلى أنّ المكان عنصرٌ فعّالٌ، بينما المكان في السّيرة ليس فاعلاً بنيوياً ولا يتمتع بدور جمالي كما في الرواية. في الوقت الذي نجدُ أن الأمكنة متعددة وموجودة ولكنها لا تشكّل بنيةً متماسكةً مع بقية العناصر، فالسيرة تستقلُّ عن الرواية بعدة سماتٍ من حيثُ الذاتية الطّاغية في السرد وضمير المتكلم المهيمن في أغلب الأمكنة التي يتطرقُ إليها الكاتب، فلا يتطرقُ الكاتب فيه إلى الوصف المكاني كعنصر فعّال بعكس الرواية التي تزخر بعدة شخصيات، والوصف فيه مكثّف إلى حدّ بعيد، كما أن المتواليات السردية تختلف في السيرة عنها في الرواية التي تتطلبُ دائماً راوياً يتقنُ التحرك بحسب الزمكان الذي فيه، بينما نجدُ أن المؤلف في السيرة الذاتية يحافظ على نسق واحد حتى درجة الرتابة أحياناً، فالمكونات النصية مرهونة به حتى تبدو السيرة الذاتية سرديّة زمانية بامتياز. وهكذا، فالمنافسة وطيدة بين المخيال الأدبي في الرواية والحقيقة التي يتوجبُ أن تكونَ عليه الأسرودة الذاتية، كما أن كلّ الأحداث والأمكنة والشخصيات التي يتناولها كاتب الأسرودة هو ليس بمعزلٍ عنها، كما أن التخييل هي المادة الأساسية في الرواية، يستندُ عليها الروائي في السرد، ولكن أندريه جيد يدلي برأي يخالف ذلك فيما يخصُّ التخييل “ربما تقتربُ الحقيقة أكثر في الرواية” ([14])، وإلا فإن الرواية تتحوّل إلى أحداث إذا ما اُعتمد على الذاتية. والواقع أن “مصطلح الرواية مرادف للتخيّل في مقابل اللاتخيّل والمرجعية الواقعية، والحال أن الرواية هي الأدب والكتابة الأدبية في مقابل سطحية الوثيقة (ميثاق العهد/ ميثاق السيرة الذاتية)، ودرجة الصفر للشهادة فلفظة رواية ليست إحادية المعنى أكثر من كلمة سيرة ذاتية، الشيء الذي تنضاف إليه ظواهر أخرى قيميّة قدحيّة (الرواية خلق/ السيرة الذاتية سطحية المعيش، الرواية لذة الحكي المكتوب المحكم/ السيرة الذاتية صدق وعمق المعيش”([15]). بالإضافة إلى أن من الشروط الواجب توافرها في السيرة الذاتية، هو ميثاق العهد الذي يشيرُ إليه فيليب لوجون وتناوله بشرح موسع، حيثُ يتوجبُ على كاتب السيرة، أن يدلو بكل شيء عن حياته بمصداقيّة وشفافيّة عاليّة، ولكن إدوار الخراط يخالف هذا القول، بأنَّ السيرة الذاتية “تعتمد على ميثاق غير مكتوب بين المؤلف والقارئ، بأن يحكي الأول صراحة ووضوح تفاصيل ما مرّ به من أحداث”([16])، فالسّيرة نصّ سردي توثيقي حقيقي، أما الرواية فنصّ سردي تخييلي”([17])، لذلك يجدُ القارئ صعوبة في عملية الحكم على مصداقية السيرة من عدمها، فالقارئ هو الحاكم وبيده فقط قرار التحقق من قدرة المؤلف على البوح، وعليه فكلّ ما يرد في الأسرودة الذاتية، يتمُّ التعامل به مع المعلومات الواردة فيه من طرف القارئ/ المتلقي بوصفها صحيحة وعليه أن يثبتَ ضد ما ذهبَ إليه كاتب الأسرودة هنا.
3: شؤون (المتكلم) في السّيرة الذّاتية:
ضمير المتكلم (أنا)،هو من الركائز المهمة في السيرة الذاتية، ولابُدّ منه، فهو السّارد الأول الذي يتوجبُ تطابقه مع (أنا) المؤلف من حيث هو نفسه كاتب السيرة: “لكي تكون هناك سيرة ذاتية يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسّارد والشخصية”([18])، ونلاحظ على كامل صفحات السيرة، بأن الكاتب/ السّارد يتبنى ضمير المتكلم (أنا) أو ما يشيرُ إليه من ضمير (ياء المتكلم ـ تاء الفاعل ـ أو الإحالة عليه)، فالقراءة أمام مستويين من الخطاب في “الأسرودة الذاتية”، كما أشرنا سابقاً، خطاب مباشر بـ “أنا” وخطاب غير مباشر بـ الإحالة، كما اعتمد في الكثير من الصفحات على المونولوج الداخلي، “هو يقول لي: لقد تأخرتَ عليّ، بمخطوط سيرتك، .. هل أنا نادم على ما فعلت؟، في فترة طفولتي، سحتُ مع أبي في جغرافيا أوسع من حدود رؤيتي، في قريتي الأولى التي فتحتُ عليها عيني، كلما جاءت امرأة إلى بيتنا”([19])، وأحياناً كثيرة يذكر الاسم الصريح له (إبراهيم) كما في الحوار الخارجي “يقول لي: إبراهيم أثقُ بك … لقد ألقينا القبض على لصنا، إنّه إبراهيم ..، لقد قال لي إبراهيم ذلك ..، هذا كثير، إبراهيم، السيدا يزعل”([20])، فالحوارات الدائرة خلال السيرة، هي حوارات قائمة بين السّارد/ شخصية المؤلف وبين بقية الأشخاص المشاركين في هذه السيرة. وضمير المتكلم/ السّارد/ المؤلف، لا يأخذ بالذاتية كثيرا إلى أناه، إلى درجة أن يلغي كينونة أشخاصه، بل يسرد لهم حواراتهم والكثير من أقوالهم وأحاديثهم أو حتى نصائحهم له “ــ هل سيكون أبي قد علم أني رحتُ لصيد القطا؟ هو يعلم كم أنا شغوف بالقطا؟، بل إنني أعرفُ كم هو نفسه يحبُ القطا، رغم أن وقاره لا يسمح بالإعلان عن ذلك ..!؟ أصلُ القرية، أبي في انتظاري، أمي يتلظى قلبها ألماً:
ــ أرجوك، لا تضربه ..!
يتدخلُ جارنا العم حمزة، تتدخلُ العمة كاملة، تتدخلُ الجدة العجوز “كمرة” بقرن كامل من عمرها، وهي ترفعُ عصاها:
ــ من يضرب إبراهيم سأضربه بعصاي
يضحك أبي:
ــ لقد عفوتُ عنه من أجلك، لكن عليه إلا يعيدها.”([21]).
ربما يتساءلُ القارئ عن اعتماد كاتب السيرة، لضمير المتكلم (أنا) والذي بدأ أو برر له في المقدمة، عندما ذكر أن ثمة من دفعه ليكتب سيرته: “فكرة هذه المخطوطة الفريدة التي أوحى لي بها صديقي الباريسي، أسبر بمجاديفها خريطة واقعي وحلمي، أفراحي وأحزاني، نجاحاتي وإحباطاتي”([22])، ويشير بأن هناك من سبقه إليها، والذين ربما جعلهم قدوة له في الكتابة، كتابته التي سارت ببطء شديد، فهل أراد الكاتب من ذلك أن يُغلقَ أيّ باب أو حتى زاوية صغيرة يطلُّ منها أيّ مجال للشك، ليؤكدّ بأنَّه هو السّارد وهو بطل سيرته، وعليه لا بُدّ من المصداقية: “ها أنا، كما كنتُ بين يدي المولودة “ماما كمرة” البكارية، ذات تاريخ مدوّن على ورقة تقويم، بين كتاب “مشكاة الأنوار” للإمام الغزالي”([23]). كما أن كاتب السيرة على وعيّ كتابيّ بما سيسرده لاحقاً، فاتكاء كاتب السيرة على ضمير المتكلم (أنا) ألغى إلى حدّ بعيد الغموض في السيرة أو يمكنُ القول؛ إنها تضعها في مصاف السيرة الذاتية، ويمكن القول هنا؛ إنّ ثمة تطابقاً بين السارد والشخصية الرئيسية، الذي هو كاتب السيرة ذاته. وقد أطلقَ جيرار جينيت على هذا السرد اسم “السرد القصصي الذاتي” وذلك تبعاً لفرز الأصوات في السيرة.
يشيرُ إميل بنفنيست : enveniste Emile ” إنّهُ لا وجود لمفهوم ضمير المتكلم، وإنّ ضمير المتكلم يحيلُ دائماً إلى الشخص الذي يتكلم والذي ندركه من فعل كلامه نفسه”([24])، فيقعُ على عاتق القارئ، أن يصدق ذلك أو يكذبه، فالخطاب في السيرة مباشر، فهل حقاً (المؤلف/ السارد/ الشخصية) التي يحصل السرد بها بضمير المتكلم هو نفسه كاتب الأسرودة، عندما كان طفلاً، شاباً، حتى لحظة كتابة هذه الأسرودة؟ هل حقاً ثمة تطابق بين اللفظ والملفوظ؟ هل حقاً السارد هنا باستخدامه واعتماده على الضمير (أنا) أو الضمير الذي يدلّ عليه هو نفسه ذلك الشخص الذي يسردُ عنه؟ كلها أسئلة يتلقاها القارئ، وله كلّ الحق في تكذيبها أو التصديق عليها. إنَّ كاتب الأسرودة يقدمُ صوتاً في الماضي بضمير المتكلم، فإلى أيّ مدى يمكنُ للقارئ، أن يؤكد أن الصوت هو صوت كاتب الأسرودة نفسه، فالخطاب هنا كتابي بضمير “أنا”، وكاتب الأسرودة الذاتية هو السّارد، السامع، القارئ الأول لذاته، كذلك هناك المتلقي/ القارئ، فهل السّارد/ الشخصية داخل النّصّ هو/هي ذاتهـ(ـا) خارج النصّ،وهل ثمة تطابق بين الأحداث التي يرويها كاتب الأسرودة وأحداث شخصياته؟ إن البحث عن التطابق بين كاتب الأسرودة والسارد/ الشخصية، جاء هنا في عدة أشكال، مرة بطريقة ضمنية، وذلك من خلال اعتماده على جملة من العناوين التي تشيرُ إليه، مثل استخدامه نحوياً ضمير المتكلم (أسطونيات أمي، ليلة على سطح بيتي، كانوا معي في البئر، أعدائي، قصيدتي، امرأة من ضلعي)، فالضمير هنا لابُدّ أن يُحالَ إلى كاتب الأسرودة وهو نفسه السارد/ الشخصية ـ البطل: ” يتحملُ السارد التزامات أمام القارئ وذلك في مقطع أولي للنصّ”([25])، فكاتب الأسرودة يقدمُ مسبقاً ميثاقه للقارئ، فالسارد يحملُ نفس اسم كاتب الأسرودة، وإلا فكيف يعرفُ السارد أن الكاتب هو (إبراهيم)، عندما يناديه العم حمزة “يناديني العم حمزة: إبراهيم، قف في مكانك ..! إبراهيم، ارجع ..! هل جننتَ يا إبراهيم؟”([26])، وهكذا فالاسم يظهر في الكثير من صفحات الأسرودة إضافة إلى ضمير المتكلم، إذا الإشارة على غلاف الكتاب، وكذلك استعانة كاتب السيرة بقول لإمبرتو إيكو في أحد حواراته “رواية سيرة ذاتية” كتصدير للأسرودة، كلّ هذه مواثيق دلالية تشارك بوصفها علاماتٍ للسيرة.
4: مساحات التّخيّل في السّيرة الذّاتيّة:
هي نفسها تلك المساحة بين إدراك كاتب الأسرودة، ووعيه لكلّ ما يدونه من جهة، وبينه وبين القارئ من جهة أخرى، اعتماداً على المصداقية التي يتناولها في كتابته/ أسرودته الذاتية، ومدى ذلك التطابق بين الكتابة كنصّ سردي/ أسرودي/ ذاتي، وبين الواقع نفسه، الذي مهدّ لكتابة أسرودته الذاتية، وحتى لا تفقدُ السيرة الذاتية مصداقيتها عليها أن تنأى بنفسها عن الخيال والاستطراد: “على المؤلف ألا يسترسلَ مع التخيّل حتى لا ينأى عن الترجمة الذاتية”([27]). إنّ كاتب الأسرودة ولكونه شاعراً وروائياً، فربما تكاتفت أسرودته مع خيال الشّاعر وحبكة القصصي وعقد الرواية مجتمعة معاً في هذه الأسرودة، فيأخذك لعوالم تل أفندي:”ــ أماه، مسرحُ مناماتي، هو “الأفندي”، فما سرُّ ذلك ..؟ وبدلاً، من أن تجيبني، متحدثة، عن السر الذي يكمنُ وراء ذلك، فهي تقول لي بدورها:
ــ من منا ينسى الأفندي يا بني؟”([28]).
ومن عوائق نقل الحقيقة كاملة من قبل كاتب الأسرودة أنّ” الحياة نسيج صنعت خيوطه من حقيقة وخيال، وحياتنا وأفكارنا تصنعُ بعض أجزائها من وحي الخيال، والحقيقة المجردة شأنها في هذا السبيل، شأن الخيال البحت، كلاهما يختفي من الترجمة الذاتية”([29]). إنّ الطريق وعرٌ جداً فيما يخصُّ مفهوم السيرة الذاتية، فهي جنس أدبي بسمات مختلطة: “لأنه من النادر ندرة حقيقية، أن نعثرَ على عمل من الأعمال الأدبية المعتمدة على التخيّل، لا يحتوي على عنصر من عناصر الكشف عن ذات صاحبه”([30])، فإلى أيّ درجة يكون كاتب الأسرودة/ السّارد حقيقيّاً وبعيداً عن التزلّف والتزييف والتزيين في حياته، وبالتالي فمن الصعوبة تحديد ذلك، ومعرفة أفق الحقيقة من عدمها، وماهية الخيال من الواقع، كما أن أيّة كتابة أدبية لا تخلو بالعموم من المكاشفة وبأقنعة مختلفة شعريّاً، روائيّاً، وقصصيّاً، أو حتى في السّيرة الذاتية، فلا نصّ سردي دون أن تنزاح اللغة فيه إلى الخيال، ليكشف عوالم ربما قصيّة جداً في الزمن والتاريخ، لأنَّه لا يمكنُ التعويل على الشفافيّة التامة: “إنَّ تمام الصدق لا يتأتى في الترجمة الذاتية، إذ لابُدَّ أن تسقط من الكاتب أشياء أثناء كتابته”([31])، بالإضافة إلى استعارة الكاتب لبعض التقنيات السّردية الروائية مثل الحوار، ودمجه في أسرودته الذاتية، وعناوين المتن النّصي المتوزعة في الأسرودة، هي من علامات الكتابة الروائية، والتي هي مرتع الخيال للروائي، وهو المخيال الأثير لدى كاتب السيرة أيضاً، كمكون مشترك فيه مع الروائي، وقد أعاد فيليب لوجون النظر في هذا الأمر “وسمح لإمكانية أن يكونَ الخيال عنصراً من عناصر بعض السير الذاتية”([32])، ولكن الخيال ليس طليقاً في السيرة كما في الرواية، فما يميّزُ كاتب السيرة عن الروائي هو فقط “ميثاق السير ذاتي”([33])، وهو “العقد الذي يبرمه الكاتب مع قارئه عندما يُعلن كاتب السيرة في نصه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن قصده لكتابته سيرته الذاتية”([34])، وقد أعلنها الكاتب/ كاتب الأسرودة، بشكل علني على غلاف الكتاب، إذ دوّن عليه علامةً أجناسية”أسرودة ذاتية”. ومن خلال خطابه في الصفحات الأولى والتسويغ الذي قدمه لأسرودته، فالمقصدية واضحة منذ البداية، فقد أشار بأن ثمّة قصدية من وراء كتابة هذه الأسرودة، وقدّم عدة مواثيق للقارئ، ليتأكد بأنّ الكاتب سيفتح للقراء كل عوالمه المغلقة “وفي حالة غياب الميثاق السير الذاتي في النص، فهذا النصّ هو رواية لا غير”([35])
إلى أيّ درجة يمكنُ لكاتب الأسرودة، أن يكون حقيقياً وبعيداً عن التزلّف أو التزيين في حياته، ربما من الصعوبة معرفة أفق الحقيقة من الاختلاف أو المصداقية من عدمها.
ثانياً: مجال العتبات النّصية
1: العنوان في الأسرودة الذاتية:
العنوانفي شكله العام يحملُ دلالة شيئيّة، مجموعة أشياء “ممحاة، صور، ظلال”، وأيضاً دلالة مكانية: “المسافة” و”أغبرة”، فالأغبرة لا تأتي إلا على الأمكنة المنسيّة، والعنوان بمجموع مقاطعه اللغويّة/ الاسميّة، لابُدَّ أنه سيزحزحُ شيئاً ما في ذهن القارئ، يقول عبد الفتاح كيليطو في كتابه الغائب”إنَّ العنوان يضيءُ الطريق الذي ستسلكه القراءة”([36])، وهو أول ما يصطدمُ به القارئ في أيّ عمل أدبي، وهو البوصلة الحقيقية للمتن النّصّي، فعلى مساحة داكنة ثُبّتَ العنوان المؤلف من مقطعين لغويين منفصلين عن بعضهما، في الأعلى: “ممحاة المسافة”، ثمّ أُتْبِعَ بعنوانٍ مؤلف من ثلاثة أسماء “صور، ظلال وأغبرة”، والعنوان كمصطلح “إجرائي ناجح في مقاربة النصّ الأدبي، ومفتاحا أساسيّ يتسلحُ به المحلّل للولوج إلى أغوار النّصّ العميقة”([37])، ربما تتمكنُ القراءة في أن تُطلقَ العنان لنفسها فيه، فـ “ممحاة المسافة” عنوان قائم نحويّاً على تركيب إضافي، وكعلامة لها اشتغالاتها المستقلة، والممحاةُ التي استعارها كاتب الأسرودة، ليفعّل من دورها في تقريب أو تسريع عملية الكشف عن مساحات البياض، وعن الأمكنة التي يفسحُ ذاكرته لها، الممحاةُ تحيلنا بداية إلى الزوال أو إنهاء شيء لا بُدَّ منه، أو إخفاؤه من أمام الأعين، فمدلولات الممحاة ترتبط بالزوال والإنهاء، وكأن كاتب الأسرودة تقصدّ ذلك بغية أن يترك قارئه في حالة من التشويش، كما أشارَ إلى ذلك أومبرتو أيكو بأن العنوان “ينبغي عليه أن يشوشَ الأفكار لا يوحدها”، ومما زاد في غموض العنوان وتشويشه هو المفردة التي تلي (الممحاة) وهي (المسافة)؛ هل يمكنُ للمرء أن يمحي المسافات ويزيلها؟! إذ كان يستوجبُ حضور القلم، فالممحاة والقلم يتشاركان في الممارسة الكتابية، وطالما كانت الممحاة رفيق درب السطور الشائكة، السطور التي توجبَ على كلّ منا ألّا يتجاوزها، ولا يصعد أو يهبط منها للأسفل، وإلا فما حاجتنا (للممحاة) على السطور الآمنة!، ربما أراد كاتب الأسرودة أن يفتح طاقات مُغلقة أمام قارئه، ويسبرَ أمامه مجالات التأويل والتخيّل، فما هذه المسافة التي يريدُ أن ينهيها أو يطيحَ بها، وهل يمكنُ للمرء أن يمحيَ صفحات الزمن، أو أن يختبئ منها، طالما كانت المسافات مقاييس للزمن، في العرف العام نستعملُ (الممحاة) لنزيد من المسافة البيضاء أمامنا، أو نزيلَ آثار ما ارتكبناه من الأخطاء والخطايا/ الذنوب، ولكن الكتابة بلون أبيض على مساحة سوداء، ليس إلا ترسيخ للذاكرة وليس إنهاء لها، بماذا ستنفعه (الممحاة) أمام ذاكرة التاريخ؛ هل أرادَ أن يُخلصَ لذاكرته، ويعلنَ كامل مسؤوليته تجاه الوجود؛ الوجود الذي يؤرّخه لنا خوفاً من الاندثار؛ الاندثار الذي لن ينقذَ كاتب السيرة إلا بممحاة يثقُ بها؛ لتَشُدَّ بحبالِ مسافات زمنه الذي مضى، ثمّ ليعلن عن المقطع اللغوي الثاني في العنوان، وبصيغة جمعيّة وحالة عطف ومعطوف تأتي الـ(صور، ظلال وأغبرة) لتشكل البنية النحوية للعنوان. والدلالة في العنوان السّابق كان محمولا أيضاً بـ (الزمن ـ المسافة)، أما في المقطع الثاني فالمكان كالسراب فيه، والدّلالة مشوشة لا يمكنُ الإمساك بخيوطها تماماً، فالصور والظلال والأغبرة، تشتغلُ على مساحة كتابية سوداء بلون أصفر، طالما كان الصَّفَار، اللون الذي يحمل في مدلولاته الخديعة، التناقض، الذكريات، في حين كانت “ممحاة المسافة” تحتلُ مساحة سوداء بلون أبيض، فالممحاة لن تترك خلفها إلا بياض المسافة، ولأنّ التأويل يُعدّ آليّة للقراءة ولإنتاج المعاني وسبر أغوارها، فربما هذه (الممحاة) ــ ممحاة كاتب السيرة/ السّارد ــ تُبدّدُ في خيوط الحرير من زمن المسافة، المسافة المُحملة بالصور، والظلال والأغبرة، وتدوّنُ محارقَ الكلام، كلاماً من صور وظلال وأغبرة، صور طالما كانت تُمثّلُ وتختزنُ العديدَ من التواريخ والمشاهد، فالصور تخليد للحكايات، هي تواريخ تنبضُ بالحياة؛ حياة مضتْ لسبيلها، ولكنها تستدعي المرء بتفاصيلها، الصور هي قراءاتنا البصرية لذواتنا، التي نقرؤها حتى لا تموت الذاكرة، الصور شواهد وقصص، معطيات وعلامات، الصور هي المعرفة البصرية الهائلة، هي جزء من محاكاة الواقع، الصور التي تقفُ في مواجهة الظلال والأغبرة، الظلال التي تُشكّلُ انعكاساً للصور، وتمثيلاً وتشخيصاً لها، الظلالُ التي تتسمُ بالخديعة ــ ولكنها تبقى كالجدران، نستندُ عليها كمأوى، حتى لو كانت هذه الظلالُ خيالاً ــ فهي لا تطابق وتخالفُ صورها الحقيقية دائما، ، والصور التي هي الأخرى، صور عن الحقيقة. إذن فثمة كائن ـ كان وما زال ـ موجود/، كائن مضى وترك صوراً وظلالاً عنها، فالصور هي ظلال كاتب الأسرودة، يحتفظ بها، وغالباً لا تُشكل الصور كلّ الحقيقة، فالحقائق ــ أشخاص، أعمال، مُثل، أخلاق، قيم، …. ــ كلها غائبة، ومن يمثلها هي الصور فقط وظلالها، ثمّة حاضر هنا يمثّلُ الغائب/ الماضي، لأنَّ الصور والظلال حاضرة هنا، والغائب/ الماضي، هو جملة من الأحداث والمواقف التي تختزنها ثمّ تستدعيها الذاكرة، كما أنَّ علاقة العطف والمعطوف القائمة بين “ظلال وأغبرة”، هي علاقة متذبذبة، فكلاهما غير ثابتين، بعكس الصورة التي تمثلُ جسوراً للمعرفة، ومواثيق لأصحابها، ولأمكنتها، ولوجوههم، ويمكنُ الاحتفاظ بها سواء في الذاكرة أو حتى في صندوق قديم، أو في درج من أدراج خزانة البيت، إذ يمكنُ للمرء أنْ يُطيلَ النظر فيها، ويتحسسها، فالرؤية هي أشدّ وقعاً من الاستماع للسارد عنها، وتفوقه مصداقية، ولا تحتاج الكثير من البلاغة لفهمها، وتبقى الصور هي الذاكرة المكتوبة التي يستدعيها المرء متى شاء، ومفردتا “فالظلال والأغبرة” تنتميان إلى حقل الزوال، والعلاقة بينهما شيء من التناسب والتشابه، أكثر من العلاقة التي تجمعهما مع الصور، الأغبرة يمكنُ للمرء أن يزيلها عن الصور، التي مرّتْ عليها أعوام طويلة. أمّا الظلال فهي كناية عن المصداقية التي تفتقدها الصور، حيثُ الظلال تتحركُ مع صورها، وتعاكسها أحياناً، لأنّ الظلال صور أصحابها ولكن دون زخرفة وتزييف لتفاصيلها، فهي تتحرك مع صاحبها كيفما كان، وإن كان مفهوم (الظلّ) في كثير من الثقافات البشرية غير مستحب إلى درجة كبيرة، وذلك طبعاً ضمن السياق الثقافي. والغبار دائما يدل على الماضي والقديم والملتبس وعدم الوضوح، ومن هنا تأتي حالة نفيه ليدلّ على الصدق والنصاعة و”الدلالة على الأمر الخالي من العيوب، فيقال: لا غبار عليه”([38])، يقول جورج ماي “إنَّ كلّ سيرة ذاتية متهمة، من حيثُ هي أثر أدبي بتحريف الحقيقة المعيشة”([39]) هل أراد كاتب الأسرودة الذاتية؛ أن يُفهمَ أو يوهمَ القارئ ، أن ما دونه من سيرته، لا غبار عليها من جهة الصدق والحقيقة، ويبقى العنوان كما يقول عبد الفتاح كيليطو “العنوان مليء بالوعود ومثقل بالذكريات”([40])، ويبقى الحامل لكثيرٍ من الدّلالات السيميائيّة التي تفككُ النّصّ السّردي، مع الاحتفاظ بأحقيّة سؤال العنوان ومدى استجابته لمسارات المتن النصي.
2: قراءة في التصدير/ الاستهلال:
الاستهلالات نوع من البدايات، والبداية هي “العلامة اللغوية التي تسوسُ العلاقات النصيّة الأخرى، وتتحكمُ بها ومن ثمّ توجهها، فهي من النصّ بمنزلة الرأس من الجسد، الذي لا يتحركُ إلا من خلاله”([41])، هل هذا ما حدا بكاتب الأسرودة، أن يستميلَ الاستهلالات بالحواس، كما فعل مع العنوان الرئيسي للأسرودة، نراه يرتكزُ في الاستهلال الأول “ما يمكنك اقتناصه من الماضي رائحته فحسب ..!”، على الحواس/ الرائحة ــ الشم، ويستعيرها لماضيه، هو يمهّدُ للقارئ، بأنَّ ثمة شيء واحد يمكن تصيّده واغتنامه من الماضي؛ وهو رائحته فقط، الرائحة التي لا يمكنُ الإمساك بها أبداً، و يندرجُ تحت الاستهلال الوصفي/ الزمني ــ الماضي، وبذلك يوجّهُ القارئ إلى الزمن الماضي الذي مضى وانتهى، وقد ماتت الكثير من الأزمنة معها، ولكن كاتب الأسرودة، يؤكد بأنّ ثمّة إمكانية واحدة، يمكنها الاقتراب من دائرة الماضي، والدخول في حيّزه، وذلك بالاحتفاظ برائحته، الرائحة التي كحاسة من الحواس البشرية، يستعيرها الكاتب في عملية بحثه عن دائرة الزمن، ولأنَّ “الاستهلال يُشكّلُ جزءاً مهماً من البناء النفسي للكاتب”([42])، أراد الكاتب أن يُرسلَ عدة إشارات ورموز لعلها تكون شيفرات للنصّ وللأحداث ولكلّ ما سيقرُّ به لاحقاً، لأنّ الاستهلال أصلا هو خلاصة النصّ ومغزاه، لأنَّ السّارد المبدعُ هو من ” يختارُ الكلام الذي يُشحنُ بمناخ النصّ كله”([43]).
أما أن يصدّر الكاتب أسرودته بثلاث استهلالات، والتي اعتبرها أرسطو “بدء الكلام”، ــ مع أنّ القراءة تجدُ في العنوان الرئيسي أيضاً بادئة الكلام للأسرودة ــ إذ اعتمدّ في الأولى منها على الزمن، ثمّ ليستهلّ الثاني بقول لإمبرتو إيكو في أحد حواراته بأنَّ “كلّ رواية سيرة ذاتية”، إن اعتبار الرواية هي سيرة ذاتية، فيه شيء من الإجحاف بحق هذا الجنس الأدبي المميّز، القائم على عوالم متخيّلة ولا أظنها اعترافات في قالب قصصي حقيقي، وإلّا فكيف بإمكان كاتب واحد أن يكونَ لديه أكثر من رواية، فليست كلّ الروايات هي سير ذاتية لأصحابها، الرواية جنس أدبي فيه من التخيّل يفوق الواقع والحقيقة، وفيه من الجذب والجمال أكثر ما في السيرة الذاتية، الاستهلال هنا؛ هو دفعُ لأسئلة الشك والرّيبة في المرمى: أكان الكاتب يقصد بهذا الاستشهاد ( بأنّ كل سيرة ذاتية هي رواية) أم أنَّ العلاقة التي تربط بين السيرة والرواية، هي في أصلها علاقة قائمة على شيء من التكافؤ والتطابق أو ربما التشابه، أم أنها علاقة انعكاسية؟
إنّ الاستهلالُ كعتبة نصيّة لا تقلُّ أهمية عن العناوين في أيّ مُنجز أدبي، وبات الاحتفاء به عميقاً في الكثير من الدراسات الاكاديميّة، ونالت من الاشتغالات النقديّة كظاهرة بارزة لها دلالاتها ووظائفها، فهي الواجهة التي تأخذ بالقارئ إلى عوالم النصّ، وكوظيفة للاستهلال، علي هذه العتبة أن تشدّ القارئ وتثير اهتمامه، بما ستقدمهُ من شخصية السيرة، زمانها، مكانها، والأحداث، حتى يقوم القارئ فيما بعد بربط كلّ هذه العلامات والعناصر المتوافرة معاً، والتي ستلعبُ دوراً في الإيحاء للمتن الأسرودي، فهو “يفتحُ السبيلَ لما يتلو”([44])، لأن الاستهلال هي الصورة المطابقة نوعاً ما عن النّصّ أو انعكاس له/ عنه، فما يترددُ في بنية الاستهلال أو ما يحمله من ترددات تظهر في بنية النصّ، لأن خصائص الاستهلال تستلزمُ ربط جملة أفكار وأحداث فيما بينها قبل الخوض في أحوال النّصّ.
أما الاستهلال الثالث؛ “ثمّة من تتوجه الشهادة إلى عينيه، روحه، قلبه، إنَّهُ من يريد، أنْ يرى فيها نفسه، ولكم تكررَ أحدُنا في الآخر..!.”، وكأنه ـ الكاتب ـ هنا يعترفُ أن ثمة شهادة قادمة، لم يحددها، إنما هي ربما تتوجه لعينيه، أو لقلبه، أو روحه، فهو من يريد هذه الشهادة، إذ يجدُ كيانه فيها، وما أكثر من ستتشابه بينهما هذه الشهادة، ثمة غموض وايحاءات ربما تُفعّلُ من مخيّلة القارئ وتدفعه إلى الكشفِ وتعرية المستور، فمن هذا الذي ستتوجه إليه الشهادة، أهو كاتب/ أو سّارد الأسرودة نفسه؟ إنّ المستويات الدّلاليّة هنا غامضة بعض الشيء، أو ربما تعمدَ كاتب/ سارد الأسرودة التعمية على شيء ما، إنه استهلال قائم على البعد الاجتماعي والنفسي، يخصُّ أحد ما في الأسرودة، ولربما تتشابه الكثير من السّير مع بعضها “ولكم تكررَ أحدُنا في الآخر“. ثمة شاعرية يلفها الغموض، من يقصد سارد الأسرودة، لمن يتوجه بالخطاب، أهو لذات السارد في المتن، أم لذات الرواي، فـ “البداية ليست إلا نهاية لسلسلة طويلة من المشاعر والأحاسيس والمواقف قد تستغرقُ الحياة كلها”([45])، فهي بالمحصلة فيضٌ من المشاعر والانفعالات اللامنضبطة، فالقراءة في التصدير هي إفساح الطريق إلى المتن النصيّ، وتبرير للصورة التي ستكون عليها الأسرودة لاحقاً.
3: العنوان تناصّاً:
ولكون العنوان منطقة رخوة لفعل التأويل، إذ يمضي الكاتب، في ممارسته الكتابية/ السيرويّة، بصدد ذاته، يُعلنُ عنها، عن أطوارها، اضطراباتها، أفعالها، مواقفها، اهتماماتها، علاقاتها، انزياحاتها، وكلّ ما يمتُّ لهذه الذات بوصفها ذاتاً مُطْلقةً وحرةً في كلّ مفاهيمها، عبر مجموعة من العناوين والنصوص القائمة على تجليات الذات وتخيّلاتها داخل الفضاء السّردي. ويُشكّلُ كلّ عنوان فرعي بنية سردية مغلقة تختلفُ عن النّصّ الذي يسبقه، ولأنّ “اختيار العنوان ليس ترفاً تزيينيّاً، بل تعبير عن استراتيجيّة كتابة، لابُدَّ أن يكون لها موقع في استراتيجيّة أيّة قراءة لاحقة”([46])، لذلك فضّلتْ القراءة، البتّ في عناوين، تُكشفُ عن المخزون الثقافي والمعرفي في ذاكرة السّارد، الذاكرة التي بُنيت على ثقافة دينية، على يد والده، والذي يبدو آثارها ما زالت راسخة ومتجذرة في ذاكرة السّارد، والتي ساهمت في إنتاج خطابي مُستقى من مصدر ديني/ قرآني، فجاءت في سياق تناصي، لغوي، ضمني مع الذاكرة: “تحضرني ـ هنا ـ إجابة أبي: افرح لاقترانك بابنة عمتك، لأني حريص على أن تكون لك ذرية صالحة”([47])، وبحسب الاستراتيجية التفكيكية، فالنص عبر التناص، يدخل في لعبة لا نهائية للمعنى، فالقارئ سيجدُ ثمة قواسم مع نصوص دينية/ قرآنية ـ وأحاديث نبويّة في عدة عناوين، كما في العنوان “امرأة من ضلعي”، للوهلة الأولى، يتذكر أي قارئ؛ وكلّ بحسب معرفته، استحضار للآية القرآنية “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”([48])، فالقرآن يبين ويؤكد على قيمة الإنسان، كيف أنه خلق لكلّ البشرية أزواجا من جنسهم، وليس المراد منه، إنه أخرج المرأة من ضلع الرجل، ولكن السّارد؛ ربما أراد أن يعوّل على الآية التي اختلف المفسرون عليها، فالعنوان هنا يتناص مع الطرح الديني، ووروده ليس سوى على سبيل المجاز في القرآن أو حتى في الأحاديث النبويّة، كما وردَ في الحديث عن النبي (ص): “استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقنَ من ضلع أعوج وإن أعوجشيء في الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيراً”([49])، كما تواردَ في الكتاب المقدس في العهد القديم؛ بأنّ آدم كان نائماً في الجنة، وقد أخذ الله ضلعاً من أضلاعه، وخلق منها حواء، فالتناص المتداخل هنا هي المفردة (ضلعي)، فقد ورد في القرآن والحديث النبوي، وجرى تفسيرها بعدة طرق أو شروحات، البعض اختلف على المعنى الذي يقول؛ إنّ المرأة خُلقت من ضلع، وإن نفت الكثير من الشروحات ذلك، فلجوء السارد لعنونة نصّ فرعي في المتن، لم يأتِ بشكلّ اعتباطي أو صدفة، بقدر ما هو عنوان يلوذُ بالدين، أو أنها تجسدُ الحالة النفسية للسارد، والبيئة التي نشأ وعاش في كنفها لسنوات طويلة، فوالده كان رجلا متديّنا ومتصوفا، فضلاً عن تواجده معه في الكثير من المناسبات الاجتماعية والدروس الدينية، وهذا ما شكّل لديه مخزوناً معرفياً دينياً. يقول السّارد مستذكراً أحد نبوءات والده فيما يخصّ الزوجة الصالحة: “ستربيهم أحسن تربية وترشدهم إلى طريق الخير”([50])، فالسارد من خلال المتن النصي، يشيرُ إلى الأجواء الدينية التي تعيشها الزوجة، حتى أنه يلقبها بـ (وزيرة الأوقاف)، فهو يشير بوعي أو بغيره، إلى الرادع الديني الذي ترعرع فيه وليس بنادم على هذه الزوجة الصالحة، التي يراها من ضلعه، الضلع الذي يخالف قناعات زوجته كلياً، حتى في السياسة، فهي مراراً تقول له كل عام: “صم وصل في رمضان فقط”([51])، وكأنها الضلع المستقيم وهو الضلع الأعوج، هذا علاوة عن كونه سعيداً برؤية والده الدينية في الذرية الصالحة، كما وردت في الكثير من الآيات القرآنية، فالتناص “شيء لا مناص منه، لأنه لا يمكن للإنسان الفكاك من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتهما ومن تاريخه الشخصي، أي من ذاكرته”([52])، كما أنه يقع على عاتق القارئ عملية التأويل، والقراءة في التعالق مع نصوص أخرى. وفي عنوانه “كانوا معي في البئر“، هو تلميح ضمني إلى سورة “يوسف” القرآنية، وقصة النبي يوسف، الذي رماه أخوته في الجُب، فالحالة واحدة، وهي إنقاذ النبي يوسف، من قبل بعض السّيارة وبأمرٍ من (الله)، كما أُنقذت (منور) أختُ السّارد من البئر بأمر (الله) بواسطة الأولياء الذي كانوا معها في البئر، أخبروها وأعطوها الأمان والاطمئنان “وظلت متمسكة بنتوء حجري، أسفل البئر، طوال مدة بقائها أسفل البئر، وأنها اطمأنت بأنها ستعيش، لأنه هُيّئَ لها أن أحد الأولياء الذين كان والدنا يحدثها عنه، أكد لها أنها ستخرج من البئر حيّة، وستلتقي مع أمها، لكنها تحتاج إلى الصبر”([53])، فتوظيف السّارد لهذه التقنية، هو تفاعل مع النصّ المقدس، وتجسيد للخلاص من الموت المحتم. والدور الذي تلعبه ذاكرة السارد في الاستذكار والاسترجاع للسردية الثقافية الدينية، هو جزء يساهم في التناص وتشكيل نصّ جديد كما يقول باختين رائد التناصيّة/ الحوارية “لأن كلّ نصّ هو صدى لنصّ آخر إلى ما لا نهاية، جديلة لنسيج الثقافة ذاتها”([54]). وفي النّصّ المعنون بـ “معصية ذاتية وجحيم عام”، يستهل المتن فيه بـ “إلى تلك النار الكاوية: لا، لم تكوني برداً وسلاماً”([55])، تناصاً مع سورة الأنبياء، الآية التي تقول: “قُلْنا يا نارُ كُوني بَرداً وسَلاماً على إبراهيم”، ولكنه يعيدُ في تشكيلها الضمني، كما فعلَ مع العناوين السابقة، يعكسُ في بنيتها الأسلوبية وفي المعنى، فهي عملية محاكاة للخطاب الديني، ولكن بعملية تضادية وعكسية، وكأني به يُشابه النبي إبراهيم، عندما أضرمَ قومه النار فيه، ولكن بقدرة إلهية جرى إنقاذه فكانت النار برداً وسلاماً على جسده، كما على إبراهيم/ السّارد وأسرته، ولكنها ما كانت بردا وسلاما على أجساد السوريين، يسندُ السّارد هنا تناصيّاً على مستوى الدلالة، فهو يراجع ما آلت إليه كلّ تصرفاته وقناعاته الشخصية، والأضرار التي ترتبت على ذلك، يسردُ عن مراحل حياته التي طالت نتائجها أسرته وأخوته، فهو كان الابن العاص ــ كما يصور ذاته ــ في أغلب الأوقات، ولكن الجحيم لم يطلهُ لوحده، إنما طال كلّ من حوله، بسبب عصيانه، وبسبب الاصطدام الدائم مع السلطة، وها هو يقدمُ ورقة حساب وكشف للقارئ، لكلّ من لحقهم الضرر والخيبة والفشل والخسارة بسببه، ولكنه يعود ليؤكد؛ بأنَّ كلّ قناعاته ومبادئه ومواقفه؛ كان بموافقة الجميع ورضاهم التام، وكأنه يشارك الجميع معه في هذه المعصية بشكل أو بآخر، فهو لم يخطئ، بقدر ما كان صائباً في كلّ قراراته، فالحالة التي عليها السّارد من استذكار واسترجاع، وحفر في أجواء دينية وتصوفيّة، كبرَ بين نصوصها وكتبها، لا فكاك له منها، ثقافة متراكمة في ذهنه وقاع ذاكرته، ذاكرته التي تمردتْ عليها مراراً، وعلى ذاكرة الوالد، الذي أورثه قريحة خصبة، ما زالت خصبة بالموروث الديني. وهكذا وتحت شِباك عنوان إغوائي، إيحائيّ، تتواشج جملة من العناوين الفرعيّة في هذه (الأسرودة الذاتية)، عناوين متفاعلة، متنوعة، ذات دلالات ومرجعيات دينية، سياسية، واجتماعية.
ثالثاًــ القوى الفاعلة في النص:
1: الشخصيات:
تُشكلُ الشخصيّة مكوّناً فعالاً في أيّ نصّ أدبي، الذي على أساسها يتمُّ بناء النصّ، لذلك كان لابُدَ من أن تنالَ الحضور والاهتمام في النظريات السردية الحديثة،لما لها من دور وتمثيل في تشكيل النّصّ السّردي، والبحث في كيفيّة توظيف الشخصية في النصّ ودراسة أبعادها وعلاقاتها مع بقية المكونات، وتناول بنية الشخصية كمكون محوري في كلّ خطاب سردي.
في الأسرودة الذاتية: “ممحاة المسافة.. صور، ظلال وأغبرة”، يقدمُ الكاتب في متن النّصّ، الكثير من الشخصيات، بعضها فاعلة وعاملة بشكل مؤثر، والبعض الآخر منها يقوم بدور التفنيد أو التّأكيد أو الشاهد للأحداث، وبعضها ثابتة لا تتحرك، كما في النصّ المعنون بـ “معلميّ”([56])، إذ يذكرُ السّارد جملة من الأسماء لبعض الشخصيات/ المعلمين الذي كان لهم دور في تعليم البطل/ الشخصية في السرودة. أما فيما يخصّ الشخصيات الفاعلة والعاملة في النصّ الأسرودي، فيمكنُ للقراءة أن تعرض مجموعة من الشخصيات التي أثّرتْ في مجرى الأحداث وحبكتها، ولكن القراءة ارتضت الاستقصاء في الشخصيّة المحورية لهذه الأسرودة والولوج في عوالمها وذلك ضمن شبكة من العلاقات القائمة بين الشخصية الرئيسيّة ومجموعة من الشخصيات الفاعلة والرئيسية أيضاً في المتن النّصّي، ولعبت دوراً مهماً في تشكيل وتهيئة سارد هذه الأسرودة، إذ يشكلّ بطلها وشخصيتها الأولى، هذه الشخصية المحورية في حضورها، والتي تثيرُ الاهتمام لكلّ من حولها، حتى في علاقاتها الاجتماعية، الاقتصادية، وحتى السياسيّة، لكونها الحامل الأساسي لكلّ الأسرودة، وتتكشّفُ ملامح الشخصية السّاردة من خلال المحيطين به والحوارات التي تجري بينهم، على لسانهم وعلى لسان السّارد نفسه (إبراهيم)، كما في تعريف رولان بارت للشخصية؛ إذ قال ” إنّها نتاج عمل تأليفي” وكان يقصد أنَّ هويتها موزعة في النصّ عبر الأوصاف والخصائص التي تستندُ إلى اسم (علم) يتكرر ظهوره في الحكي”([57])، فالسّارد/ الشخصية عالمة وعارفة بأغلب الشخصيات الأخرى، وطبائعها وأفعالها ومواصفاتها، حتى إنه يعلم بدواخل بعضها من خلال الوصف الذي ينالُ الكثيرين منهم، كما أن الشخصية المحورية/ السّارد، يأخذ على عاتقه ــ في الغالب ــ كلّ تفاصيل عملية السّرد، سواء المتعلقة به، أو بالشخصيات الأخرى، أو الأماكن أو الأحداث والحوارات التي جرت بينها، ولكن تبقى الشخصية الأقرب للسّارد هي شخصية الأم( أمّهُ)، التي يوثقُ لها كثيرا خلال الأسرودة، إضافة لشخصية الأب( والده)، حضوره، يعني حضور للهيبة والوصايا: “أنا أخطط لأنفذ لأبي ما طلبه مني ـ صباحاً ـ : إبراهيم، غداً، رمضان .. عدني أن تصومَ، وتأخذني الليلة إلى تل معروف ـ حيثُ مشايخه ـ فقد صمتُ رمضان السنة كله”([58])، وشيئاً من الخوف وأحياناً المعصية، كما فعل عندما لم يلتزم بعهده لوالد، بألا يذهب لصيد القطا، ولكن السّارد عصا والده “أصلُ القرية، أبي في انتظاري، أمي يتلظى قلبها ألماً: أرجوك، لا تضربه ..!”([59])، وكاد أن يُعاقبَ على فعلته لولا تدخل إحدى النسوة الكبيرات والتي يناديها بالجدة (كمرة)، قائلة: “من يضرب إبراهيم سأضربه بعصاي ….، يضحك أبي: لقد عفوتُ عنه من أجلك، لكن عليه ألا يعيدها”([60])، الأب الذي تأثر به السّارد كثيرا، والذي يُمثّلُ الرجل المثالي، المتصوف، المسامح، الطيب، والذي ضحّى بالكثير في سبيل أن يقدم لأسرته حياة كريمة،حتى في زواجه المبكر؛ كان الأب وراء ذلك، فقد سعى أن يزوجه من ابنة عمته، التي يجدها الزوجة الصالحة، وذلك بحسب مفهومه الأبوي/ الذكوري إذ قال يومها: ” أفرحُ لاقترانك بابنة عمتك، لأني حريص على أن تكون لك ذريّة صالحة”([61])، ولا يخفى طبعاً دور الأب في الكثير من الصفات التي يتحلى بها السّارد، وكان على يديه اللبنة الأولى في بناء شخصيته الثقافية، وحتى ويعترفُ بذلك في الكثير من المواقف، بأنّ وصايا والده ما زالت تجري في روحه، بألا يميلَ أو يرتكبَ فاحشةً لا يرتضيها الدين والأعراف، وألا يسقط في براثن الغواية، كما في الموقف المُحرج الذي تعرضَ له من زوجة صاحب البيت، الذي كانَ قد استأجر غرفة لديه، حيثُ جاءته ليلاً في غياب زوجها خائفة من البرق والرعد، لتنام في غرفته: “غرقتُ في النوم، لأصحو بعد قليل، على أصابع يديها الدافئة على وجهي وشعري، وهي تنسلُ داخل سريري، …. غير أنني ارتجفت بين يديها، وغادرتُ البيت في تلك الليلة”([62]).
كان السّارد/ الشخصية المحورية، الولد المدلل في أسرته، بسبب الموت الذي كان يطالُ أخوته من قبله، وعند أغلب أهل قريته أيضاً، فأغلب النساء كنّ أمهات له بالرضاعة، ويدافعنَ عنه دائماً إذا ما طاله الخطر، فحياة السّارد تتوزع على ثلاث مراحل، تتوزع بين الطفولة في قرية “تل أفندي”، ومرحلة الشباب والزواج في “قامشلو ــ شارع الحرية”، ومرحلة السياسة والمنفى، ومدى تأثير الأسرة في تكوين شخصيته، الأسرة التي منحته كلّ الاهتمام والحنان والرعاية، والتي صقلتْ من شخصيته ” … “، كما تتكشفُ دواخل ذات السّارد عبر آماله وميوله، من خلال التطرق إلى وصف طباعه، انفعالاته، أخطاءه، علاقاته مع النساء، فهو لم يتفادَ الكتابة عن كثير من الأمور الصغيرة والتصرفات التي مارسها سواء في طفولته أو في شبابه ” من حيث إن “السارد حريصٌ على تذكر كلّ ما هو داخليّ وخارجيّ من جملة العلاقات والأحداث، علاقاته الداخليّة مع أسرته، أبنائه، جيرانه، وأصدقائه، وعلاقاته الخارجيّة مع السلطة، المراكز الثقافية، الدوائر الحكوميّة “فاهتمام السارد بالعالم الخارجي يتحقق من خلال اهتمامه بعالمه الخاص هو، أي بتركيزه على تصوير البعد الخارجي لشخصيته”([63])، واهتمامه بالمحيط الذي عاشَ فيه، سواء في القرية أو المدينة أو حتى في سفره خارج الوطن/ سوريا.
ومن مما تقدّم نرى أن الشخصية في الأسرودة؛ هي شخصية مزاجيّة، متحركة، متحوّلة في تركيبتها، لها أبعادها الاجتماعية، العاطفية، وحتى النفسية، وتجلت هذه التحولات والتقلبات في الكثير من المشاهد التي يسردها، يعرضها، أو يصفها في طفولته أو حتى بعدما أصبح أباً ولديه أسرة مستقلة، إذ يقول: “حياتي كانت معاكسة تماماً، إذ كنتُ منصرفاً بكل ما لديّ إلى الحياة، أعاقرُ الخمرة، ولكن ضمن نطاق محدد، أسمعُ الموسيقا، أنفتحُ على الحياة، أمضي أوقاتي في القراءة والكتابة، حاد المزاج، عصبي، أثور لأتفه سبب، لا مقدرة لي على تحمّل أية حركة في الشارع، فوضوي، شرس”([64])، في مقابل زوجة تملكُ طريقة تفكير مختلفة تماماً، فهي “مؤمنة إلى العظم، ورعة، ليس في عالمها إلا الدين وبيتها، تقضي أوقات فراغها في تلاوة القرآن والصلاة”([65])، فهي المرأة التي شاركته مسيرة حياة بأكملها، بكلّ ما كانت تلك الحياة قاسية، مُتعبة، مليئة بكثير من الصعوبات، ليعودَ السّارد بعد عشرين سنة وأكثر، يردُّ لها عطاءها ــ بعدما استفحلَ المرض لديها وباتت تغضبُ سريعاً ــ بابتسامة وتحمل وتفهم أو يخرجُ من البيت إلى أن تهدأ، وهي في ثورة ردود انفعالها، يراه واجباً عليه، فهي شخصية تتشابك مع كلّ الشخصيات من حولها، والتي تُشكّلُ جزءاً من عناصر الأسرودة، كما في الرسائل التي يزورها ويكتبها إلى الصوفي عز الدين، على أنها رسائل من أبيه، مقلداً خطه وتوقيعه، حتى انكشفَ أمره في الأخير:
” ــ أمينة، لقد ألقينا على لصنا؟؟
ــ اللص الذي سرقَ الخراف من الصوفي عز الدين؟
ــ لا، الذي زور توقيعي وخطي
ــ من هو؟
ــ إنه إبراهيم …؟
ــ لقد قالَ لي إبراهيم آنذاك، وأخبرتك .. يبدو أنك نسيتَ ..
ــ حسناً فعلتَ يقول أبي”([66]).
شخصية السّارد يطالها الكثير من التغييرات تبعاً لعوامل كثيرة ولتجارب حياتيّة سياسية، اقتصادية، واجتماعية، وذلك من خلال السياق السّردي، والتي كانت لها أثرها القوي والحازم في مسارات حياته، فهي شخصية حملت على عاتقها رسائل وطنيّة وقوميّة ترسمُ خطوط دروبه، فيما يخصّ كلّ مواقفه وتقييماته لجملة من العلاقات والأفكار والمبادئ، التي لعبت دوراً سلبياً في الكثير من خياراته، فكان القاضي لنفسه والحاكم لرغباته، يقول: “شعوران يتناوبانني ـ الآن ـ وأنا في هذه المحاكمة الذاتية، أولاً إنني قدمتُ حقاً لمحيطي الاجتماعي، ما استطعت أن أقوله، وإن لم يكن أحد ليهتم بما ينشره الصحافي عادة، بيد أن مجرد إثارة أية قضية كانت تريحني في داخلي، بأن قلت: لا في وجوه صانعي هذه المعاناة، وثانيهما، هو أنني تكبدت الكثير من وقتي في هذه المعمعة، ……….
ــ هل أنا نادم على ما فعلت؟
ــ هل سأكرر مثل هذا الحرق لوقتي وأيامي دفاعاً عن الآخرين، لو عادت بي الحياة شاباً في مقتبل العمر؟
ــ لا، لا، لستُ نادماً، وأتمنى لو أعيش ألف حياة كي أدافع عن هؤلاء بقلمي وقبضة يدي، ولتذهب الكتابات التي لا ترافع عن الناس إلى الجحيم …!”([67])، فالظلم الذي طاله من السلطة، وكان له الأثر العميق في حياته وحياة أسرته، لم يتركه فريسة الخوف والهروب بقدر ما كان يواجه إلى آخر رمق يملكه في مواجهة كلّ الصعوبات التي تعرضَ لها أو تعرضت لها أسرته، بسبب انتماءاته السياسية، والذي ظلّ بسببه مُطارداً ومُلاحقاً حتى في لقمة عيشه “قد حصلت بعد وساطات كثيرة، على موافقة السفر، بعد إدراج اسمي بين الممنوعين: غرضنا من منعكم، أن نعرف حركتكم، قالها المحقق ذات مرة، لكن نسخة بأسماء المسافرين من البلد وإليه تصلكم، قلتها رداً عليه، إنها احترازاتنا، قال .. لكنها خاطئة”([68])، ولأن الشخصية هي المكون والركيزة الأساسية في تنمية النصّ السردي، فإنّ السّارد امتاز بشخصية متحدية لذاتها ولكلّ المحيطين بها، شخصية متجددة، لا يشتكي السكون والثبات في برامجه، فالتغيير والتبدّل كانت ميزاته، والسعي الدائم إلى العدالة الاجتماعية، الحلم الذي أمضى جلّ حياته في سبيله، دافعاً الكثير من الخسارات إذ “لم ينجِ أخوتي من شرور النظام التي أصابتهم، فقد أبعد أحد أخوتي من إحدى الدوائر التي يعمل بها، بعد كتابتي لريبورتاج صحفي، وقال له أحد المعنيين: رح، وقل لأخيك، إن للكتابة ضدنا ثمنها”([69])، وما يخصُ العمل في بداية حياته، فقد عمل خياطاً، حارساً، مخرجاً، معلماً، ثم ليكون شاعراً، روائياً، فالسياسة والأدب هاجسه الأول.
ومن المنظور الاجتماعي، وفيما يتعلق بحياة السّارد، فهو يرى من الضرورة أن يكون لسانَ حال المضطهدين والبسطاء، ومناصرتهم، ولأنَّ الشخصية في النصّ السردي ” تتحول إلى نمط اجتماعي يعبر عن واقع طبقي ويعكس وعياً اجتماعياً”([70])، فالسّارد يستذكر الكثير من مواقفه التي قدمها للآخرين، وبالمثل ما قدمه الكثيرين له “لقد كان لديّ إحساس دائم مفاده، ضرورة الوقوف مع الآخرين، والانهمام بهمومهم، التفكير بشؤونهم، عدم الطمأنينة في بيتي إن كان هناك مظلوم، ولكم خضتُ مرافعات كتابية عن هؤلاء في الصحف المحلية”([71]).
في زحمة الأحداث المتراكبة على السّارد، اجتماعيّاً، اقتصاديّاً، وسياسيّاً، وانطلاقه في الممنوعات بحثاً عن المعرفة، والمغامرة في المحظورات، ورسم الخرائط الدائمة في ذهنه، فعوالمه مليئة بالأهواء، الرغبات، الهواجس المتعددة، مواجهة تحولات ثقافية، مكابدة الصّراعات السياسية، والنزاعات الاجتماعية التي كانت تفرضها عوالم السياسة والأدب منذ طفولته وحتى خروجه للمنفى اللاطوعي في ألمانيا، لعبتْ المرأة عاملاً فعّالاً في حياة السّارد، فقد نشأ منذ طفولته في بيت محاط بالنساء، والنساءُ في حياة السّارد( إبراهيم) كثيرات، وعلاقاته معهم قائمة على التنافس، الحبّ، الرعاية، الحنان، الطموح، والشغف، النساء في حياة السّارد تتوزعنَ بين من كانت الحبيبة/ والتي لا يُصرّح بها كثيرا ولا يتناولها بالوصف إلا فيما ندر، مع الغموض التام حول شخصيتها، وبين المرأة الصديقة، الجارة، الأم/ الأخت بالرضاعة، والمرأة/ الزوجة ــ أم أبنائه. ولأنَّ الشخصية في أيّ نصّ سردي، مُسخّرة لتعللَ وتفسرَ حبكة النصّ، ولأنَّ السّارد صاحب شقاوات، مغامرات، وصراعات، فلابُدَ أن يكمّلَ في صراعه مع الجنس الآخر/ المرأة، فهي العمود الفقري في حياته، بدءاً من المرأة الأولى/ الأم، وانتهاءً بزوجته، ولأنّ الشخصية تنهضُ بالنصّ السردي، فحضور الأنثى، هو حضور البهجة والمتعة والتشويق، بالنسبة للسّارد، الأنثى التي تُشكّلُ معدنهُ، لا ينصهر أمام الساعة إلا لأجلها فقط، ولا سحر يبهرهُ إلا حضورها: “لا أوكسجين في العالم غير المرأة …!، لا عطرَ إلا روحها ..، لا قبلة إلا وجهها ..، لا دورة للحياة دونها”([72])، وتبقى المرأة الأقوى؛ التي تركتْ شرخاً عميقاً في قلب وذاكرة السّارد؛ هي أمّه “أحاولُ أن أكتبُ عنها، عن أمي، كي تكون صورتها رحم السورة والكتابة، كما كانت رحمها رحم الحياة”([73])، الشخصية الحنونة، المتدينة، الصبورة، التي تحملت الكثير من الشدائد في سبيل أسرتها، وهي من “رسمت مسار حياة السّارد منذ ولادته: ضعوا سرّةَ إبراهيم بين كتب أبيه..!([74]) “كان وبحضور الأم في حياة السّارد، تحضر نسوة كُثر، احاطوا بالسّارد/ إبراهيم، في طفولته، من خارج نطاق الأسرة، فكانوا أمهاته وأخوته بالرضاعة، وثمة صديقات وقفنَ معه في أزماته، عند وفاة أمه وهو في الإمارات، بعيد عنها، منعنَهُ من السفر لحضور العزاء، مع تدخُّل الكثير من الأصدقاء، لأن في ذلك خطورة على حياته،
أمّا المرأة التي لا يُصرحُ بها علانية، ويتكتم على تفاصيلها، ويؤكّدُ على أهميتها وتواجدها في حياته، حتى لحظة كتابة هذه الأسرودة “الرسالة الأخيرة التي وصلتني ـ عمرها ساعات ـ كتبتها أنثى جميلة، سكبت على ورودها عطرها الذي أعرف، وضمنتها أجمل وديعة لي، العطر الذي بات يفوح من كلّ زاوية في بيتي، بل من ملابسي وأصابعي، ولا أتلكأ في إيجاد ملاذ آمن لوديعتها، وهداياها، التي ستعيشُ معي، إلى وقت طويل، وهو ما يجعلني أجدد روحي، وأعود ذلك الفتى الصغير، في الصورة التي أحبُّ، وأنا أواصل قراءاتي وكتابتي، كاسراً برودة المنفى”([75])، وله من القصص الطويلة والمغامرات المشوّقة معهن، فيحتفظ برسائلهن، ورسائله لهنّ، ويبدو أنهنّ كثيرات في حياته، وفي أحد المرات أعادت واحدة منهن كلّ الرسائل المتبادلة بينهما، لعلّها يوما ما تكون مخطوطة لرواية، وقد أرسلتها مع عمها، الذي أكّدَ أنه لم يقرأها، فكتبَ السارد على لسانها “من الحرام، أن تضيعَ هذه الرسائل، فليحتفظ بها إبراهيم، عساه يضمنها في رواية عني”([76]).
2: الزمكان في السّيرة الذّاتيّة:
العنصران اللذان يشكلان معاً العروة الوثقى للنصّ السّردي، وبهما يتحقق تماسك النصّ، ولا سيما النصّ السّيري، القائم أصلا على حالة من الاسترجاع والتذكر للزمن والمكان معاً، لذلك “يجدُ قارئ السيرة الذاتية أنه من الصعوبة عليه أن يغرقُ حاضره الحقيقي في حاضر تخيلي، كما أنه لا يستطيع أن يغرقُ ذاته في ذات الراوي، فهو يحسُ أن ثمة شخص آخر يقفُ بين أنا الرواية وأنا القارئ”([77])، وعليه يقعُ على عاتق سارد الأسرودة، أن يحاول أن يتحكم بمسار الزمن قدر المستطاع، والزمن يبدأ مع سارد الأسرودة في الاستهلال، إذ يتصدر بـ “الماضي”، ثم يُعلنُ بنفسه في أحد العناوين الثانوية (خارج السّاعة)، بأنّ الزمن يسابق المرء، ولا يشعرُ به إلا عندما يحسُ بضآلته “هل إنني كنتُ طوال الشريط الزمني لحياتي مجرد عابث بقيمة الزمن”([78])، وكأني به يلومُ نفسه على تقصير ربما لم يتقصده، ولكنه حدث، فقد مرت سنوات طويلة بين زمن الأحداث التي جرت، وبين زمن كتابة السيرة في الحاضر، فالفاصل الزمني بينهما ليس بقليل، مسافة لا تقل عن خمسين عاماً من الحياة، الزمن الفعلي للأحداث، والقارئ سيكتشفُ بعد مقدمات؛ وعناوين، أنه من الصعوبة، الإمساك بالزمن الفعلي الذي ينتهي فيه السّارد عن أسرودته الذاتية، فالزمن متشظٍ، ينتقلُ فيه السّارد من حكاية لحكاية، ثمة فوضى زمانية لقصص متفرقة للشخصية المسرودة عنها، والمتفرقة في تل أفندي، قامشلو، دمشق، الأمارات، وأيسن، وأظن الزمن هنا ينتهي بالحوار الجماعي بينه وبين أبنائه “كلّ الحكايات التي رويتها، لأيان وشقيقته التي انتظمت في هذه الجلسات، فما رويته لهما كان محط اهتمام وشغف كبيرين لديهما”([79])، لربما الكثافة الزمنية والأحداث الكثيرة والمليئة، التي كانت تغطي حياة الشخصية، جعلت من السّارد ألا يستطرد في الإرسال، وهذا ربما كان دافعاً أن يُسرعَ في عملية السرد، والذي بدوره اختزل من الفترة الزمنية وتحول إلى مسافات متشظية أحياناً، أو لربما حاول أن يكثف الزمن، باللجوء إلى “تقنية الحذف، التي تقتضي إسقاط فترة زمنية طويلة أو قصيرة من زمن القصة، وعدم التطرق لما جرى فيها من وقائع وأحداث”([80]). لا يتطرقُ السارد إلى الحديث عن مدينته الحالية/ أيسن، منفاه الأخير كما يقول (المنفى اللاطوعي)، إلا في آخر عنوان (ليلة على سطح بيتي الصغير)، إذ يحاولُ أن يمسكَ بتلابيب الذاكرة، حتى لا تضيع من ذاكرة أبنائه، بعدَ أن يندمجوا بثقافة البلد الجديدة، فيسردُ لهم قصص وحكايا الجدة، الأم، الأسرة، والتعريف بها وبكثير من القضايا، التي ربما تكون شائكة ويصعبُ على الأطفال فهمها بسهولة، ولكن يجب على الأبناء ألا ينسوها، والحرص على تكرارها، وهي آخر الحكايا “أكتشفُ من خلال هذه الحكاية الأخيرة، أن مفردات كثيرة يمكن استحضارها، ولفظها، وترسيخها”([81])، فزمن الخطاب متبعثر لدى السارد، وكأنه معلق يأبى أن يغلقها مرة ثانية، طالما استرجعها في هذه الأسرودة، وكأنه مسبقاً يملك مشكلة عويصة مع الزمن، وعلاقته به يشوبها الريبة، فهو لا يحبُّ ارتداء الساعة ابداً “فقد كرهتُ ساعة يدي، ولطالما نبهني أبي نتيجة إهمالي لساعة يدي الأولى التي أهدانيها”([82])، ويعترف لمرات كثيرة، إنه شخص لم يعطِ أهمية للوقت “هل إنني كنتُ طوال الشريط الزمني لحياتي مجرد عابث بقيمة الزمن؟”([83])، فالثغرات الزمنية خلال النّصّ، تأتي تباعاً نتيجة تقنية الاسترجاع، التي تقتضيها الذاكرة، لمراحل حياته في الماضي، ولاسيما مرحلة الطفولة والشباب، التي قضاها في المكانين اللذين يعتبران المكانين الذين لا يفارقان ذاكرته أبداً، وهما (تل أفندي وشارع الحرية)، مقارنة بجميع الأمكنة التي تواجدَ فيها أيضاً، ولكنه يمسك أحياناً بزمن اللحظة جيداً، والزمكان منسجمان في وحدة سردية لا ينفصلان، فيحدد زمن مغادرته لقريته تل أفندي قبل أربعين عاماً “على امتداد أربعين عاماً، اكتملَ الآن على مغادرتي لها”([84])، ومع ذلك وفي كثير من صفحات الأسرودة الذاتية، يكثّفُ من زمنية الأحداث، ربما خوفاً من أوجاعها أو رهبة من سرد ماض لا يمكنه الفكاك منه “بعد أن عاد أبي ذلك الصباح من الجامع، ..ذات مرة وقفت امام باب مضافة القرية، .. زار أبي ذات مرة”([85])، وكأن الزمن لديه تقريبي في الكثير من الأحداث، زمن محدد ولكنه ربما لا يكتمل، أهو خراب الذاكرة، أم ملاذ الخوف “بعد أسابيع ..، هكذا حوالي ثلاث سنوات ..، بعد سنوات طويلة ..، تقول لأكثر من ساعتين ..، مرت سنوات كثيرة ..، أسبوعان أو ثلاثة ..، بعد سنوات قليلة”([86])، وكان الزمن مفقود لدى سارد الأسرودة، وأحياناً يأتي مفاجئاً جدا “توفي أبي، بعد أن تركته لأذهب إلى العمل بحوالي الساعة أو الساعتين، توفيت أمي وأنا في الأمارات …”([87]). هنا السارد ينتقل بشكل مفاجئ خلال السرد لإخبار القارئ؛ بوفاة والديه، فالقارئ لا يدرك أي زمن يتحدث عنه السّارد، فهو يقطع في الأزمنة كما تقطعُ الذاكرة في خوفه المخفي، لينتقل بعد عدة أسطر من الأسرودة، ويتابع الحديث في موضوع آخر، وفي الحوار الذي يدور بينه وزوجته وهو يمازحها عن علاقاته بالنساء، نلاحظ أنه يقصُّ في الزمن بلا رحمه، كما يمحي في عمق المسافة:
“ــ أما آن لك أن تترك عالم النساء ..؟
ــ أجيبها، ممازحاً، امهليني سنتين أخريين، أي حتى الثلاثين، ولما أبلغ الثلاثين تسألني:
ــ صار عليك أن تلتزم بوعدك الذي ضربته لي؟
أردُّ عليها، وبنبرة الممازحة نفسها، مددي لي عشر سنوات أخرى من علاقاتي بالنساء ..
وعندما أبلغ الأربعين، تقول لي:
ــ ها أصبحت كهلاً، هلا أوفيت بعهدك؟،
أردُّ عليها: أمهليني عشر سنوات أخرى …!
ــ أي عشر سنوات أخرى، لن تجد في الجنة أية حوريات، لقد استنفدت حصتك في الدنيا؟
فالزمن في الأسرودة؛ زمن متقطع يتبع الأحداث التي يستذكرها السّارد، وكأن الزمن لا يتمدّدُ، فيميّز جيرار جينيت من الوجهة الشكلية، بين حذف معلن وهو الإسقاط الزمني الصريح أو المصحوب بإشارة محددة أو غير محددة للفترة التي يقفز عليها، وبين الحذف الضمني الذي لا يكشف عن نفسه في النصّ وإنما يستدّل على وجوده من الثغرات الواقعة في التسلسل الزمني للسرد”([88])، فأغلب المقاطع السردية والمعنونة، الوحدات الزمنية فيها تقريبية جداً، إلى درجة ألا دلالة واضحة عليه، ولكن القارئ ربما يستشفُ ذلك من خلال الإيماء إليه، فيحيلنا هذا، بأنّ الحدث الفلاني جرى وهو معيل لأسرة، فلا تاريخ يدلُّ على الفترة العمرية التي كان عليها سارد الأسرودة، إلا أن ابنه (فائق) كان في الثامنة من عمره، كما في النصّ المعنون بـ (النظارة): “أتذكر ما حدث في تلك العصرونية، تمتلكني حالة الاضطراب، فكيف حدث كل ذلك، حيث استيقظتُ من نومي على صوت صراخ ابني فائق، وكان في الثامنة من عمره”([89])، وهكذا في أغلب المقاطع الأسرودية، السارد يمتهن القفز الزماني جيداً، مقاطع تفتقدُ لتتابع زمني، السارد لا يسرد الأحداث بزمن متتابع، تارة تراه في الحاضر ويذهب بعيداً في الماضي، وتارة هو في الماضي ويشدّ رحيله إلى الماضي الأبعد، الزمن الأول ـ زمن الطفولة ـ فالزمن كالخيط يُشبكهُ بذاكرته حتى لا يضيّعها، ويحاول بكل جهده إلا يُفكّ من أسرها “مضت بي السيارة صوب مركز الانطلاق، وانا أستعرضُ صور أمي، ومدى حرصها علي، وعلى أبنائها، وبناتها، جميعاً، ولعلَ أكثر تلك الصور، هو حرصها على امتداد سنوات العام الدراسي، عندما كنتُ طالب إعدادية، أعيش وحدي في غرفة مستأجرة، كانت تلزمُ أبي أو أخوتي أن يسألوا، أهل القرية، من سيسافر في الصباح، وإن لم يكن هناك من سيسافر، فمرافق الباص والسائق صارا يعرفان مهمتهما، حيث ترسلُ معهما بشكل يومي زوادة فيها ما أحب من الطعام”([90])، فالفجوات أو القفزات الزمنية المتعاقبة على الأسرودة، تُشكّلُ جملة من الفراغات السردية، ربما تقصدها السارد أو سهواً منه، ليغير من نمط الإيقاع السردي، فالقارئ لا يمكن أن يكوّنَ فكرة عن المدة الزمنية المحذوفة، عندما يُسقطها السارد، تقولُ سيزا قاسم “الزمن في الأدب هو الزمن الإنساني”([91])، فهل أراد السارد من الأسرودة، أن يحمي ذاكرته من العطب، ويلهبَ في مفاعيلها، ويسير بها وهي تجزُّ في الأحداث، غير عابئ بثيمة المسافات التي يمحيها، في سبيل الإفصاح عنها فقط، ثمة أزمنة يقف عندها ويسترسلُ، وأزمنة يلخصها ليمضي سريعاً إلى أزمنة تخصّهُ لأمكنة تبقى عالية في الذاكرة دائماً، ليكتشف القارئ أنّ السرد أحياناً يسيرُ مع الزمن في خط مستقيم، يتدفق بسلاسة، ولاسيّما فيما يخصّ الأسرة في تل أفندي، بعد انتقالها إلى قرية أخرى قريبة من عامودا ثمّ استقرارها النهائي في قامشلو. وربما يتقصدُ السارد؛ أن يقطعَ الزمن السردي ويُوقفَ السرد في زاوية معينة، ليستذكر سرد زمني آخر، وهكذا الزمن يتصاعد أحياناً، ليعودَ مرة أخرى للخلف خوفاً من شظية تخرّبُ الذاكرة، أو ليخمدَ لأسباب أخرى، كأن يتحدث السارد عن مناسبة أو حدث خاص به، أو يصف شخصية ما ” كلما ركز الكاتب على الشخصية وذاتها، تقلص الزمن الخارجي وصغُرت وحداته، وكلما خرج خارج الشخصية اتسعت الرقعة الزمنية”([92]). وسيصطدم القارئ أحياناً بمشاهد يقف فيه السارد أو ما يشبه الهمود حيث ينزاح إلى لغة وصفية أو مشهدية يصفُ فيها الخارج/ المحيط، فتنخفضُ وتيرة السرد فجأة وتتباطأ كما في الحوارات، فترى السارد حتى لا يؤرّخ كثيرا للأيام، للشهور، ولا للسنوات إلا فيما ندر، كتاريخ ترشحه لمجلس الشعب بـ “2006، انتفاضة الثاني عشر من آذار، كتابة مقالة بـ 2005 “، تاريخ انتهاء النصّ المعنون بـ أسطونيات أمي/ 13.1.2016، انتقال أسرتي 1976 إلى القامشلي([93])، وإن كان الزمن متشظياً لديه، لكن سارد الأسرودة يأخذ بكل تفاصل الزمن، فهناك اليوم، اللحظة، الساعة، الشهر، والسنوات، وقد أعلنها مسبقاً، أنه لا يريد أن يؤرّخ بدقة لهذا الزمن، يريدهُ كالرمل والماء بين يديه، يحتفظ بأوراقه في روحه، وعينيه، ليواجهها يوماً ما، كما سيلاحظ قارئ الأسرودة أن الخطاب كثيراً ما ترافقه البلاغة والزخرفة الكلامية، فلا تلمح أيّ أثر للزمن فيه، كما أن الاستطراد فيه، لم يخدمْ السرد في شيء، وهذا أيضاً سبب من أسباب البطء والخلل في زمن السرد في البنية الحكائيّة، كما أن اعتماده على الوصف في بعض المقاطع خفّف من حدة الزمنية، وإن لم تساعد في مجرى الأحداث السردية، ولكن ما يربط كلّ العناصر معاً هو الشخصية المحورية التي تتحرك مع الزمن، لأنّها العامل الأهم في السيرة الذاتية، والزمن هي الذاكرة وتحفيزها، لذلك كان لابُدّ من ساردٍ، يُشكّلُ محور هذا الزمن، الذي يسيرُ به السارد متى ما شاء، كما في الاستذكار لكثير من الشخصيات الثابتة/ الأسماء، السياسية، الاجتماعية، وحتى الدينية، أصدقاء والده، معلميه، رفاقه وزملاءه في السياسة والأدب.
وإذا كان “الزمان يمثلُ المتغيرات فالمكان يمثّلُ الثوابت”([94])، الثوابت التي لا يمكنُ فكّ حنينها عن الذاكرة، لأنها تبقى محفورة، تنخرُ عميقاً في الروح مهما شاخت “المكان هو المكان الأليف”([95])، والذي قصد إليه غاستون بالمكان، هو البيت، الذي تنفتحُ الذاكرة على مصراعيه أمامه ــ أمام الأمكنة عموماً ــ إذ يتعمقُ كلّ واحد في الآخر، الذاكرة في المكان، والمكان في الذاكرة، فالإنسان دون بيت يصبح كائناً مفتتاً، كما أشار غاستون باشلار([96])، البيت/ المكان، الذي تدور حوله كلّ الذكريات حتى أحلام اليقظة، فـ “للأمكنة سطواتها، ولها كيمياؤها، وكارزميتها”([97])، بهذا الاستهلال المكاني، يفتتحُ ساردُ الأسرودة، عالمه الأول، العالم/ البيت الذي تمّ قذفه منها إلى هذا العالم المثقوب، من على تخوم تلك القرية المنسية هناك، والمتقدة في ذاكرة السّارد: “أجزمُ في قرارتي أن كل مكان خارج مسقط رأسي، إنما هو ليس أكثر من فندق”([98])، فـ “تل أفندي” مسقط رأسه، ومرعى طفولته، وملعب مغامراته، البيت الذي يحمل رائحة والديه، البيت الذي كشف فيه السارد عن كينونته، فهو لا يعرض الأمكنة ليصفها، إنما ليثبت أنَّ حضوره من حضورها، فهي تشهد له بعذاباته، بأشواقه الدائمة لها “رغم استئجاري بيوتاً مؤقتة، في شهر الامتحان الجامعي، كنتُ أتركها في عطلة الأسبوع، إلى حيث بيت الأسرة، … لا مناصَّ من تل أفندي”([99])، للبيت الأول ألفة نادرة جداً، هناك ضحكاته، مغامراته، جيرانه، عشيقاته، السياسة، حتى الهروب منها، فالأمكنة تستفزُّ أصحابها، وليست كلّ الأمكنة متشابهة، كما في الحبّ، ثمة مكان أو حبيب واحد فقط يشرذمُ الكائن، أمكنة تتفوق على أمكنة أخرى، إنّهُ تل أفندي، القرية التي تحملُ تاريخ ولادة السارد، يحتفظ بكلّ صورها، فيصفها ويسردُ عنها كلّ قصصها، سكانها، جغرافيتها، الجغرافية التي مازالت ترتسمُ في كامل ذاكرته الأسرودية: “الاسم الذي يرافق بهدوء تاريخ ميلادي، ويدون في شهادتي المدرسية، بل في أي وثيقة أحصل عليها من السجل المدني، في بطاقتي الشخصية، جواز سفري، في دمي، عروقي، وعلى شفتي، أنى سُئلت، من قبل محقق أو موظف في دائرة رسمية، ليكون بيننا ميثاق لا يمكن نقضه، مهما صار بيننا، من بون جغرافي، وها هو يرافقني أنى سافرت خارج بلدي”([100])، فمهما ابتعد، فإن كلّ الحكايا تنطلق من تل أفندي، في “تل أفندي وشارع الحرية” الأمكنة ثابتة ومفتوحة، المكانان اللذان يشعر فيهما السارد، بأنهما فقط من أملاكه، وغير ذلك فهي أمكنة مؤقتة وربما مغلقة، لا يمكنه أن يتفاعل معها، ولم تؤثر فيه، كما في الفترة التي قضاها في الإمارات أو غيرها من الدول والمدن.
يقول غاستون باشلار(للبيوت ملامح أموميّة)، فتل أفندي وشارع الحرية، لهما من رائحة أمه الكثير، فحضور والديه في هذين المكانين، كانا يشكلان قوة دفع للحياة والاستمرار، وبقيت تل أفندي سر كلّ أحلامه “أماه، مسرح مناماتي، هو “الأفندي”، فما سرُّ ذلك ..، تل أفندي، لا غيرها ..! وكأنها كلّ ذاكرتك، أو قل: حجر أساسها كي تكون مصيباً في ما تقول؟”([101])، كما في “شارع الحرية” البيت الذي حتى بعد زواجه، وانتقاله لبيت جديد، يعتبر بيت والديه، هو مكانه وعنوانه الدائم “وحين تصبح لي أسرتي، وأصبح مسؤولاً عنها، لم أبتعد عن شارع الحرية، بل عرضتُ على أبي شراء بيت في امتداد شارع الحرية نفسه”([102])، وإن توسعت دائرته أمكنته، يبقى ولاؤه لهذين المكانين، وفياً لذكرياته هناك “صورة البيت لا تزال مرسومة في ذاكرتي: تنور أمي، العصافير التي كانت قد عقدت صداقتها معها، كما الحمامات والأرانب التي أربيها بين حين وآخر”([103])، فلا مناصَ من بأس وسلطة الأمكنة، تنهشُ في الروح وأنت تبدلها بآخر “الدموع في كلتا عيني، ونحن نغادر القرية، ألوح لجميع أترابي، جيراني، أهلي، الدموع في عيوننا جميعا، …. كي يظلَ المكان ووجوهه خطوطاً تحيط بذاكرتي، من الاتجاهات كلها”([104]). كما أن تحديد الأمكنة بأسمائها من قبل السّارد، وتحديد موقعها الجغرافي يسهم في تمتين العلاقة بين المكان والذات التي تسردُ حكايتها أو تجربتها معها، فالمكان هو من يسترجع للسارد ذاكرته “ثمة دائرة أوسع، أكاد أتجاوزها، لتضيق، حيث يبدو جبل عبد العزيز، على يميني، وفي الزاوية القريبة منها جبل كوكب، وهما يبتعدان، يبتعدان، ما إن أتجاوز قرية (لبنان)، وعلى مقربة منها قرية (تل نايف)، التي لها مكانتها عندي: كما البشيرية، باتجاه الطريق الدولي حيث الطريق إلى قامشلي”([105])، فذكر الأسماء الحقيقية، يضاعف من مصداقية السيرة بكل عناصرها من أحداث، شخصيات، وحتى الأزمنة، ويعطي أبعاداً واقعية وتأثيراً في المتلقي، لأن الأمكنة تبقى في وجدان السّارد “إني رجل لا يعرفُ من الجغرافيا إلا بيته، إلا الشارع المؤدي إلى بيته، لأنني أعيش فوبيا الأمكنة، غير أن المكان الوحيد الذي لم أنسَ جغرافيته، هو تل أفندي، مهادي الأول”([106])، كما قالها غاستون باشلار؛ بإنَّ البيت هو المهد، ولولا المكان لاندثرت الذاكرة، فالمكان هو جوهر وجود الكائن: “الوطن تل أفندي، والعالم تل أفندي، والأنثى تل أفندي، والحلم تل أفندي، سكان الكوكب تل أفندي، وأنا تل أفندي، ما دام تاريخ الغربة بدأ بعد بعد مغادرة تل أفندي”([107])، به نستعيدُ ألفة الأشياء، وتساهم الأمكنة في تمتين والتئام علاقات الشخصية/ السّارد بالمحيط “في تل أفندي، تعرفتُ على الورود، وفيها تعلمتُ لفظ الحروف الأولى، الكلمات الأولى، ومشيتُ الخطوات الأولى، عندما مزقتُ الخيط الذي رُبطت به رجلاي، كما كانت النسوة يفعلنَ”([108])، فالمكان في الأسرودة الذاتية، هو المكان الواقعي والحيّ وما تزالُ آثاره باقية سواء في تل أفندي أو شارع الحرية “لم يكن بيتنا الجديد في شارع الحرية الذي سكنته، في منتصف السبعينيات، عندما تركنا تل أفندي يختلفُ كثيراً عن بيتنا في قرية تل أفندي، أمران فقط اختلفا علينا، الكهرباء والبئر في قلب البيت”([109])، وكي لا يطغى على المكان النسيان في ذاكرة السارد، ولكي يحييها مرة أخرى، مع المزيد من المشاعر والأحاسيس، فيصورها لنا كما يراها بعينية وكما يشاء “شارع الحرية، هو الشارع الذي يمتلئ بصفين متقابلين من البيوت الترابية، قبل أن يتسلل الإسمنت إليه، كنتُ أسير فيه تجاه عملي، ذهاباً وإياباً، الشارع الذي أنطلقُ منه في العصرونيات صوب مكتب الحزب الشيوعي، أو إلى مركز المدينة باتجاه المكتبات”([110])، فالمكان كوحدة سردية لا تقلّ أهمية عن بقية العناصر السردية الأخرى التي تساهم في تشكيل الحدث السّيري: “فكل قصة تقتفي نقطة إدماج في المكان، وتعلن عن أصلها المكاني، ولا بدّ من حدث، وهذا الحدث يتطلبُ مكاناً، كما أنّ المكان لا يتشكل إلا باختراق الأبطال له”([111])، فالسارد يهربُ من أمكنته/ مهاده الأول، إلى دمشق، حلب، حمص، الإمارات، وأخيراً إيسن، بحثاً عن المكان الأكثر أماناً، فيتحول من أمكنة الأولى المفتوحة/ الاختيارية، إلى أمكنة مغلقة/ إجبارية، تكاد تتحول إلى سجون لذاته، ولكن الوطن/ المكان الأول يتحولُ إلى سجنٍ، والذي بات سجناً لكلّ السوريين، يقول فيليب هامون إنَّ “البيئة الموصوفة تؤثر على الشخصية وتحفزّها على القيام بالأحداث وتدفع بها إلى الفعل حتى أنه يمكن القول؛ بأن وصف البيئة هو وصف مستقبل الشخصية”([112])، فالمكان كحقل دلالي، له أبعاده ووظائفه، التي ليست القراءة بصددها، وإنما ما تقتضيه دلالة المكان كعنصر في إظهار شخصية السارد وتكويناتها على مسرح الحياة التي عاشها، سواء أكان اجتماعيّاً، اقتصاديّاً، أو حتى سياسيّاً، فالشارع الذي كان يسكنه السارد( شارع الحرية)، سُمي بذلك كناية عن أصحاب الميول اليسارية حينها، جيرانه الذين ينتمي أغلبهم للحزب الشيوعي، فالمكان مراراً يعكس الواقع الذي عاشه السارد “من شارع الحرية، تنطلق جنازة أبي إلى مقبرة تل معروف، كي يوارى الثرى، وتنطلق منه جنازة أمي إلى مقبرة قرية خزنة، كي تشيع إلى مثواها الأخير، قرب ضريح عمها، قرب حفيدها، ليبقى أبي قرب من أحبهم، تلك وصية كلّ منهما، …. شارع الحرية هو الشارع نفسه الذي كانت تمرُّ دوريات الأمن فيه لمراقبة حركة بيتي، خلال محطات كثيرة”([113])، وقد أكدّ السارد مراراً؛ بأنَّ الأمكنة وإن تعددت هنا وهناك، فثمة مكان واحد لا غير، لا يُبارحُ ذاكرته وقلبه، إنه المكان الذي أمسكُ فيه لأول مرة أصابع أمه، وهو الرضيعُ والطفلُ والشابُ والأبُ والمهاجر والمنفي “عندما تعلم أن هناك خطورة ما عليّ، تطلبُ مني أن أترك بيتي، وآتي إلى بيت الأسرة الكبير، أنام في غرفتها، تشبك أصابع يدها في يدي، كما كانت تفعل وأنا طفل”([114])، هذا البيت الذي يحملُ رائحة والديه ـ سواء في تل أفندي أو شارع الحرية ـ هي أمكنة مفتوحة، لا جدران عالية بين بيوتاتها، فهذا ما كانت تفرضه أغلب العادات والأعراف الثقافية التي كان يعيشها أبناء المنطقة، الكلّ هناك أخوة تربطهم أواصر المحبة والمساعدة، أمكنة مفتوحة على الفضاء الخارجي، كما شخوصه، فالكلّ منفتح على الآخر، إلا ما ندر لداعي ديني فقط، فهو المسرح الأول للسارد ولأحداثه، كما أنّ المكان يُشكّلُ “هندسة تساهم أحياناً في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم”([115])، وهكذا فأنطولوجيا المسافة عند سارد الأسرودة لا تنتهي، لأن الزمكان طالما لا ينفصلان عن بعضهما في الأسرودة الذاتية، تبقى الذاكرة مشتعلة، وليس من السهولة أن تنطفئ، كلما تجرأت مفاعيل الذاكرة، تجرأ معها السارد أن يشدَّ بالزمن إلى مكانه/ بيته الأول “فهي ممحاة متاعبه”.
رابعاً ــ خاتمة أسرودة لم تنتهِ:
إبراهيم اليوسف/ السّارد/ شخصيّة الأسرودة، في سيرته هذه “ممحاة المسافة .. صور، ظلال وأغبرة”، يكتبُ ذاته مع الآخر ــ وكأنّ لا ذاتية تخصه لشخصه بقدر ما هي ذات تترابط وتتشابك مع الآخر ــ وهو الذي يشيرُ؛ في هذا النصّ السّردي إلى علاقته مع الآخر لدرجة الانصهار، علاقة قائمة على الإغراء والشغف، هو يبوح أكثر مما يروي، ولعلّ القارئ يتساءلُ؛ وهو السؤال البديهيّ الذي سينتشي به القارئ وربما السّامع، ما هي المخاطر من وراء هذا البوح والإفشاء، تحتَ رقابة مكثّفة من القراء، ومحاولاتهم القبض على مكائد ومراوغات السّرد والعناوين، طالما كان السّرد ليس مباشراً، أيّ هي ليست بنت لحظتها، إنّما دونها سارد الأسرودة بعد سنوات طويلة، بعد خمس عقود، وهو يقارب الستين من عمره، كيف يمكن للقارئ، أن يحكم أو يخرجَ بنتائج دقيقة حول حقيقة ما كُتبَ، كلّها أسئلة مفتوحة أمام القارئ والسّارد نفسه، لعلّ الأسرودة اللاحقة تُسقط هذا البرزخ بين الحقيقة والخيال، لتركن الأسرودة بلبوسها الحكائي قيد الزمن، وتبقى الرؤية تجريدية، لأنه من الصعوبة أن يتذكر المرء أو أن يسردَ كلّ الأحداث بدقة متناهية كما جرت في الواقع، ولربما كان رولان بارت غير دقيق أو غير مُحق في مقولته “إنَّ الأنا التي تكتبُ النصّ لم تكنْ أيّ شيء سوى أنا ورقيّة”!
([1]) ـ إبراهيم اليوسف: (ممحاة المسافة، صور، ظلال وأغبرة ــ أسرودة ذاتية)، الناشر: أوراق للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، ط1، 2016.
([2]) ــ لسان العرب: ابن منظور، الناشر: دار إحياء التراث العربي، ج6، ط 1988، ص 454.
([3]) ـ Mary Sue Carlock ، نقلاً عن: صالح معيض الغامدي: كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية)، الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب، ط1، 2013، ص12.
([4]) ـ Heidi Stull ، نقلا عن: كتابة الذات، مرجع مذكور، ص15.
([5]) ـ فيليب لوجون: السيرة الذاتية (الميثاق والتاريخ الأدبي)، ترجمة: عمر حلي، الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب، ط1، 1994، ص22.
([6]) ـ إليزابيث بروس: الذات والدواة (السيرة الذاتية في الأدب والسينما)، ترجمة: عمر حلي، ط1، 2003، منتديات سور الأزبكية، ص15.
([7]) ـ صالح معيض الغامدي: كتابة الذات، مرجع مذكور، ص16.
([8]) ـ صالح مغيض الغامدي: كتابة الذات، مرجع مذكور، ص16.
([9]) ـ إبراهيم اليوسف: ممحاة المسافة (صور، ظلال وأغبرة)، مصدر مذكور، ص8.
([10]) ـ إبراهيم اليوسف: ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص7.
([11]) ـ Philip Lejeune ، نقلا عن كتابة الذات: صالح مغيض الغامدي، مرجع مذكور، ص19.
([12]) ـ إبراهيم اليوسف: ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص6.
([13]) ـ فيليب لوجون، مرجع مذكور، ص58.
([14]) ـ أندريه جيد، نقلا عن فيليب لوجون، مرجع مذكور، 58.
([15]) ـ فيليب لوجون: السيرة الذاتية، مرجع مذكور، ص11، 12.
([16]) ـ إيهاب الحضري: الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر، نقلاً عن كتابة الذات، مرجع مذكور، ص148.
([17]) ـ كتابة الذات، مرجع مذكور، ص126.
([18]) ـ فيليب لوجون، مرجع مذكور، ص24.
([19]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص10، 29، 30، 44.
([20]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص57، 61.
([21]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص108.
([22]) ـ ممحاة المسافة، ص9.
([23]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص7.
([24]) ـ فيليب لوجون، مرجع مذكور، ص30.
([25]) ـ فيليب لوجون، مرجع مذكور، ص39.
([26]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص77.
([27]) ـ يحيى إبراهيم عبد الدايم: الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1974، ص10.
([28]) ـ ممحاة المسافة، مصدر مذكور، ص32.
([29]) ـ يحيى إبراهيم عبد الدايم، مرجع