مهدي شاوي
الخلطة السحرية الغرائبية للعطّأر الماهر وصانع التوابل المشهية في كل أدبياته.
يأخذنا الحسيني في روايته ـ مدونته اللامتخيلة الجديدة إلى حنينه للمكان، وذلك الوجع، وهي حقاً رواية الوجع الكردي، النوستالجيا والبحث عن الوطن المفقود؛ وطن وتاريخ شعب يحمله الجبل على مر الأزمنة التي عاشها ويعيشها.
في لغة من البساطة والألفة!، لغة خالية من التصنّع والاستعراض اللغوي، وهو الشيخ الضالع في اللغة العربية وقواعدها، وكنتُ أخشى أن يثقلها، أقصد لغة السرد بالشعر، وهو الشاعر، فتضيع تفصيلاتها على القارىء، لكن، وكما يبدو هو لايريد أن يضحي بالقارىء على حساب اللغة، لأن لروايته مهمة أخرى وهمّ آخر، إلى جانب آخر أنها لم تُكتب باللغة الكردية، فتبقى محصورة ضمن الناطقين بها، وهو كما يتمناه الحسيني أن يكتب بالكردية، لكنه، نسي أنه يترجم روحة الكردية إلى اللغة العربية.
مادة الكتاب هي تاريخ وطن وشعب يمتد على مساحة جهاته الأربع، وكان عليه ايصال عوالمها وتفاصيلها لمن لايدري ماحدث ويحدث هناك، وقد تكون هي رواية التوثيق.
سردية “عامودا” نعم عامودا (ربما قد يكون هو الاسم المناسب للرواية، فقد جاء على ذكرها في أكثر من 360 مرة، من عمر الكتاب (513 ص)؛ عامودا هي أيقونة الحسيني؛ هي الجزء النازف من روحه، أينما حلّ هناك عامودا، وأينما كان، كانت عامودا هي شغاف قلبه النابض بكرديته، حلبجة الحاضرة أيضاً، تلك البلدة الهادئة الناعمة المكتظة بالمزارعين والرعاة؛ حلبجة التي غطاها الدكتاتور صدام حسين بغاز الخردل!. ولم تصحُ إلا على صور جثث الأطفال!، لقد أرادها الحسيني ـ وهو الرائي والروائي ـ أن تكون أماكنه التي عبث بها النازيون، من حريق سينما عامودا حتى دمار حلبجة، أن تكون مزاراً يتفقد فيها الجميع حجم الفواجع والكوارث التي عاشها؛ مثلما جعل بدر شاكر السياب ذلك النهر الصغير “بويب”، وقرية جيكور مزاراً للشعراء والأدباء.
جاءت الرواية بروح كردية خالصة ومطحونة بتوابل وأعشاب، تلك هي خلطة الحسيني، وهو الأديب والشاعر والعطّار الماهر، الذي يجعلك تعشق بهاراته، هو العارف في الخلطة الأدبية في الشعر والرواية؛ إنها رواية أماكن عاشها في طفولته، وامتدت معه في التشرد والتسكع عبر منافيه البعيدة والمتعدد. يشدك للأماكن التي تنقل بينها: كردستان، حلبجة، حاج عمران، عامودا، قبرص، دمشق، بيروت، بولونيا، باريس، كازبلانكا، وغوتنبورغ التي يقول عنها إنها أجمل مدينة في العالم ـ طبعاً عامودا هي الأجمل ـ؛ غوتنبورغ لها خصوصيتها في كتاباته والتي يعشقها حد الثمالة، وهو الحافظ لكل تفاصيلها كجسد أنثوي: معالمها، أبراجها، ساحاتها، تماثيلها وشوارعها. خصص لها الكاتب سابقاً كتاباً شعرياً تحت عنوان “مجاز غوتنبورغ”، فهو عندما يكون حاضراً في غوتنبورغ، تكون عامودا الغائبة حاضرة في غوتنبورغ، وهو حسب اعتقادي أجمل من كتب عنها.
العمل هو أقرب إلى أدب الرحلات، لكن، ليس في مجال اكتشاف المدنَ بعمرانها وجنائنها، بل يرينا الكاتب عبر تجواله خرابَ المدن وآثار الحروب والدمار التي لحقت بها، وهو يتفقد الحجرَ والزهرَ والطير والأعشاب والحيوات الأليفة، كذلك يكشف لنا مدى حجم القلق الوجودي الذي عالمه: الخوف، التوجس من المطارات وعبور الحدود، والمخبرين والعسكر، وعن مدن الكآبة والتسكع. حقاً إنها خلطة العطّار الشاطر، ففي الرواية رصد دقيق لتفاصيل في غاية الدقة؛ قد لانكترث لها، رغم معايشتنا لها، لقد جاءت بلغة بصرية بارعة، وجدتُ فيها من القرابة والتشابك مع كتابات الروسي المتصوف “تولستوي”. كل شيء يجري في العمل مثل شريط سينمائي، ينتقل بلا ملل، رغم تعدد أزمنته وأماكنه التي تمتد من طفولة عامودا، حتى حرائق حيواتنا التي لاتنتهي، وهي تبحث في التاريخ عن كردستان، الوطن المذبوح والمفقود، إنها ذاكرة وسيرة فذة لأنه عاشها بحب وألم وعن قرب، وهو يكتب ضمن الشروط السبعة للشاعر الألماني “غوته”، ومنها أن يكون الترحال شرطاً للكتابة. فلاتستطيع الكتابة عن مكان ما أو إمرأة إن لم تكن عشتها وعشقتها، وحفظت تفصيلاتها.
لقد اعتمد الحسيني على الذاكرة أكثر من المتخيل؛ كتب “بورخيس” مرة: (الكتابة نصفها ذاكرة ونصفها الآخر خيال)، والحسيني سعى في روايته إلى الربط مابين الذاكرة والتاريخ بلغة سردية فاتنة، يجتمع فيها النثر والقرابة الشعرية بعض الشيء، وقد تجنّبها كثيراً كي لايثقل على القارىء، أرادها لغة يجد فيها القارىء متعة المواصلة، خالية من التقعرات اللغوية وافتعال الأحداث والبطولات الوهمية، قد تتعب القارىء؛ إن مادة الرواية تجوب مع السارد والذي هو الرائي والروائي لما دار حوله ويدور في شوارع العالم والمدن النائية، فوق جبال كردستان والأماكن التي عاشها. الكتاب ليس اعلانات أو دليل سياحي، بل كشف وتعرية كل ماهو غير انساني وموحش: القتل، التهجير القسري، النفي، حرق سجلات دوائر النفوس للأكراد، وتشميعها بالختم الأحمر.
عمل الرواية كان مثل عمل Scaner أو المسح الضوئي لأماكن وتاريخ وشخصيات غابت عنا، لكنه، يعيد فيها الروح مرة ثانية، عبر تاريخ حيواتها، وماتركت لنا من أشياء وشواهد لها دورها ودلالتها في التاريخ الكردي والفعل السياسي والنضالي الذي تركوه، نموذجاً: مؤسس جمهورية مهاباد “قاضي محمد” الذي أعدمه الفرس، والجنرال ملا مصطفى البارزاني ودوره في حركة وثورة الشعب الكردي، وكذا الدكتور قاسلمو الذي أُغتيل، أو حيوات لازالت تمارس فعل الحياة والثقافة وآمالها من شعراء وأدباء وفنانين أكراد أثْروا الثقافة الكردية، و”المعلم” كما يسميه الحسيني، وهو الروائي والشاعر “سليم بركات”.
الرواية محاولة لتقديم التاريخ الكردي كامتداد للمملكة الميتانية، وكتجربة كبيرة ومعاشة بشواهدها، وأيضاً ابراز الجوانب المشرقة، إنها رواية شعب ينهض دائماً من الرماد مثل طائر الرخ.
***
عامودا: بلدة تقع على حدود سوريا مع تركيا، على التخوم الشمالية الشرقية.
صدر الكتاب عن دار “هن”، القاهرة 2020. لوحة الغلاف: آزاد نانكلي.