إدريس سالم
«إنّ فكرة من الأفكار لا يمكن أن تنقرض مهما كانت متطفّلة، ما دامت قد وُجِدت ذات مرّة، أو إنّها لا يمكنها على الأقل أن تنقرض دون صراع رهيب، ودون أن تتمكّن من تحقيق لنفسها دفاعاً فعّالاً ينجح في أن يثبت طويلاً».
فرانتس كافكا – التحوّل
«عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحوّل في سريره إلى حشرة عملاقة. كان مستلقياً على ظهره المدرّع القاسي، وعندما رفع رأسه قليلاً رأى بطنه المقوَّس البنّي اللون مُجزّأً إلى فصوص مقوّسة قاسية، وغطاء السرير المقلقل عند ذروة البطن يكاد ينزلق كلّياً. وكانت أرجله المتعدّدة رفيعة على نحو بائس، مقارنة بحجم جسمه، وترتعش أمام ناظريه بعجز». (صفحة 11).
هذا ما قاله الأديب والفيلسوف التشيكيّ «فرانتس كافكا» في تحفته الأدبيّة الشهيرة «التحوّل»، الصادرة عام 2018م بطبعتها الجديدة عن دار «الرافدين» للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، بالتعاون مع «منشورات تكوين» في الكويت، ودار «ممدوح عدوان» للنشر والتوزيع في دمشق، ترجمها الناقد السوريّ «نبيل الحفار»، والبالغ عدد صفحاتها (90) صفحة، دون أيّ مقدمات أو توضيحات للقارئ، الذي دخل الحدث بعينين مندهشتين وعقل ربّما قد يدخل في غيبوبة من الشرود الطويل المنهمك، لكن هل التحوّل إلى صرصار عملاق كان نتيجة تغيّرات نفسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، بحيث جرّدت غريغور من كلّ القيم الإنسانيّة، ليكون مجرّد صرصار عملاق لا يقوى على النهوض أو تغيير تموضعه؟ وهل هذا التحوّل لـ غريغور من كونه إنساناً إلى صرصار عملاق كان مألوفاً بالنسبة لكافكا، فيتحدّث عنه بكلّ هدوء وراحة أو لا مبالاة، دون أدنى احترام أو مراعاة للدهشة التي سيعيشها القارئ؟ ثم كيف يتحوّل شخص بين ليلة وضُحاها بكلّ سلامته العقليّة والجسدية وأهدافه وأحلامه إلى صرصار عملاق؟ أسئلة كثيرة ولكلّ قارئ نهِم إجاباته ومناقشاته.
يعود كافكا ويفكّر من خلال غريغور ليسأل نفسه «ما الذي جرى لي؟». ربّما الجواب يكمن في سباحتنا مع التيّار أو اعتراضنا له، فيما اختيار إحدى الحالتين ضرب من الجنون، وخاصّة في الوقت الراهن من دخولنا للقرن الواحد والعشرين؛ فإن مشينا مع التيّار وفق أهواء الآخرين فهي مصيبة كبيرة، كالذي يُسقط أو يَسقط في مستنقع لا إنس فيه ولا جنّ، وإن اعترضنا التيّار برسم حياتنا الخاصّة البعيدة عن الآخر المؤذي، ففي تلك الحالة – وبحسب كافكا – سنتحوّل إلى كائنات غريبة تعيسة، تتعذّب في طريقها الصعب الذي اختاره بإرادته.
سامسا، الذي يبدو عليه غير آبه بوضعه الجديد، وكأنه لم يكنْه، إلا أنه لا يستطيع التحرّك بشكله الاعتيادي، تنصدم عائلته لهذا الحدث ويشمئزّ منه ربّ عمله (مسيّر الشركة) الذي يفرّ هلعاً بعد رؤيته، فيدرك أخيراً فقدانَه لصوته وأنه ربّما لا مجال له للعودة إلى العمل أو حتى الحياة؛ رغم تفانيه الدائم في عمله على طول السنين، إلا أن صاحب العمل لم يغفر له عجزه الحالي، فيبقى مع تفاعل مجريات القضية متقبّلاً لهذا التحوّل ببساطة محيّرة.
في أوّل الأمر كانت أخته هي الوحيدةَ التي ترعى حاجاته الأساسيّة في توفير الأكل والشرب، وتشعِره ببعض الاهتمام، إذ تحوّلت من مراهقة إلى امرأة – أمّ ناضجة، إلا أن عائلته مع مرور الوقت كانت تنظر إليه نظرة دونيّة، وتشعره بأنه قذر وصارت جاحدة لجهوده بعد عدّة سنين من رعايته المادّيّة لها، فبمجرّد عدم قدرته على رعايتها أرادت التخلّص منه؛ لأنه أصبح عالة على حياتها.
جسّد كافكا وبلغة بسيطة عفوية وسرد غير معقّد لتفاصيل الأحداث باعتيادية رهيبة، وهو ما يبعث الرعب في الرواية، لدرجة تشعر أنت بنفسك في أنك حشرة أو من المحتمل في أيّ لحظة قد تتحوّلها. اتّخذ من الصرصار تشبيهاً رمزيّاً لإيصال رسالته للوجود الإنسانيّ، فالحدث روائيّاً قصير إلّا أن وقعه على القارئ يشعره بعدم الاستقرار؛ فهو يربط البعد التصويريّ لهذا التحوّل بالواقع؛ فيسقط أشياءً بأشياء، نفسيّاً وفلسفيّاً وواقعاً اجتماعيّاً ميّتاً، فصاغ حقيقتنا في سياق تحوّلاتنا، إذ يلغي التحوّل إلى صرصار يرمز إلى العالم الإنسانيّ، مبيّناً الانسلاخ التراجيديّ المطلق ذاتياً بين الجسد والروح، وهو الأمر الذي يعبّر عمّا نريده نحن وما تفرضه علينا ظروف الواقع.
يقدّم كافكا المزاجيّ من خلال هذا العمل الذي رغم تقريريّته الباردة إلا أنه كان نموذجاً مرعباً للكتابة الأدبيّة الساحرة، كوميديّاً وواقعيّاً، ليعبّر عن الذات البشريّة المتناقضة نفسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، وكذلك عجزها عن فعل شيء حيال مصيرها المجهول، ليخبرنا رسالة حقيقيّة مفادها: في داخل عقل وقلب كلّ واحد منا حشرة تعبث بنا، فنعبث بالآخرين.
قد يعتقد بعض القرّاء أن الرواية (أو مجمل أعمال كافكا) مقرفة وعادية وخالية من الفكر ولا شيء فيها، وأنها تتحدّث عن هواجس موظّف بروليتاريّ يتخيّل في أنه يتحوّل إلى صرصار كبير، لتتوالى الأحداث وتنتهي بموتها. لكن بالنسبة لبعض القرّاء الذين يعيشون حياتهم لذوّاتهم الصادقة وذوّات الآخرين ستكون «التحوّل» ما هم عليه في الحقيقة، ستلمس مكان الآلام التي لم يشعر بها أحد، والنتيجة هو أنك في الحالة الطبيعيّة لا يمكنك أن تتحوّل جسديّاً إلى صرصار، لكن فكريّاً وروحيّاً ونفسيّاً يمكن أن تتحوّل إلى أكثر وأبعد من ذلك، حتى دون أن تشعر، ذلك حينما تكون مرهقاً مثقلاً بأشياء وأفكار لا تعنيك، وتعيش حياة ليست لك، والمصيبة أن الجميع يشترك معك في عيشها، وأيضاً عندما تحاول إرضاء غيرك على حساب نفسك أو ذويك، والمصيبة الأعظم أن الأمر يريحك ويسعدك.